منذ تراجع المدّ الناصري إثر التحولات السياسية التي عرفتها مصر،
بعد رحيل مؤسسها في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، وانتقال المحروسة الى حقبة
نوعية دشنها أنور السادات إثر إعلان حربه الصامتة والعلنية على رموز
ثورة يوليو، ووضعه المدماك الأول لإتفاقيات السلام العريبة مع إسرائيل،
التي سبقتها زيارته التاريخية للكنسيت في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977،
دخلت الجمهورية الحائرة، والباحثة، عن أنماط من الدولة الحديثة، بدءاً
من محاولة محمد علي باشا، مروراً بإسقاط الحكم الملكي، وصولاً الى
تأسيس الجمهورية الحديثة بنكهة إشتراكية، في حقبات متعددة يمكن تقسيمها
على النحو الآتي: الأولى، الناصرية الثورية وحروب الاستنزاف؛ الثانية،
الساداتية وتدشين السلام المفقود؛ الثالثة، حسني ومبارك وأزمة الحكم.
سياسياً لم تُحكم مصر في تاريخها الحديث إلاّ من قبل الطغمة
العسكرية، وهي إن نجح قادتها في إنعاش حالة الحكم المأزومة، لكنهم لم
يقدموا الأجوبة الشافية للخلل البنيوي الذي يعتري النظام، وبصرف النظر
عن الأزمات الراهنة على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع ماذا تبقى
من الناصرية؟ وهل أسس أنور السادات لانقلاب أبيض ضد هذه التركة؟
نظرياً شكلت ظاهرة جمال عبد الناصر تحولاً نوعياً ، سواء لجهة
سياقها الداخلي، أم لجهة الحراك السياسي الاقليمي المضطرب الذي خبرته،
وترك تأثيره فيها، خاصة على مستوى الصراع العربي _ الإسرائيلي؛
فالشعارات التي تبنتها حول العروبة، والاشتراكية، ومحاربة الاستعمار،
طالت العالم العربي من المحيط الى الخليج، وقد تقاطعت نشأتها في ظل
ظروف اشتدت فيها حركات التحرر، لذا ضخت دماء الثوروية في عروق الباحثين
عن الاستقلال، وخاضت بالمقابل حروباً ضد إسرائيل، وجعلت من القضية
الفلسطينية هاجسها الأول. والحال بعد وفاة عبد الناصر، وإعتلاء السادات
لسدة الحكم في تشرين الأول/ اكتوبر 1970، اتخذت مصر وجهاً جديدأً تمثل
هذه المرة بالانقلاب التدريجي على المفاهيم الناصرية، والتي يمكن رصد
ملامحها من خلال الانفتاح المفرط على الغرب، وإهمال القضايا العربية
سيما القضية الفلسطينية، والعمل على فتح باب التفاوض مع الكيان
الصهيوني بمعزل عن إستشارة العرب الكبار، والذي كرسه بإتفاقية كامب
ديفيد الشهيرة، مما دفع جامعة الدول العربية الى إسقاط عضوية مصر، التي
ما لبثت أن عادت الى عباءتها بمبادرة قام بها الرئيس السوداني السابق
جعفر النميري.
واقعياً لم يعد التيار الناصري يلعب دوراً محورياً في النظام
السياسي الراهن، فمعظم أنصاره القدامى والجدد اندمجوا مع الأحزاب
الأخرى، والمفارقة التاريخية أن السادات رفيق عبد الناصر في ثورته، هو
الذي سمح بالتعددية الحزبية، بعد أن كانت محظورة، حصل ذلك عام 1975 حين
أقر شيئاً من الانفتاح السياسي، ومن ذلك الوقت تشكل حوالى 21 حزباً.
ومن العوامل التي أضعفت الناصرية، عدا تآكلها التدريجي، بسبب المتغيرات
الطارئة على بنية الحكم، أن الرؤى التي أطلقتها حول العداء للامبريالية،
ومحاربة الخصخصة، ورفض التطبيع مع إسرائيل، أصبحت إطاراً عقائدياً
للكثير من التيارات السياسية، لعل أهمها حركة الأخوان المسلمين التي
خاضت حرباً ضروساً مع الدولة، ودخلت في حلقة من العنف والعنف المضاد،
قبل أن تجري جملة من المراجعات، أضفت بعض الليونة والانفتاح على خطابها
تجاه الدولة والمجتمع، مما خولها الدخول الى مجلس الأمة، وهنا شكلت
انتخابات 2005 نقلة نوعية بالنسبة لها، وذلك بعد أن بنت امبراطوريتها
الاجتماعية، بشكل صامت، فحققت ما عجزت عنه الدولة في تنفيذ بعض
المشروعات التنموية، مما خلق لها قاعدة شعبية لا يستهان بها، تحت شعار
الإسلام هو الحل.
لا ريب أن الخلل الذي أصاب الناصرية لا يعود لأسباب داخلية فقط،
فالمرحلة التي رافقت انتكاستها شهدت تراجعاً تدريجيأً للأحزاب القومية
واليسارية، في حين تصاعد مدّ الإحيائية الإسلامية بفعل مؤشرين أساسيين:
الأول، نجاح الثورة الخمينية في إيران عام 1979؛ والثاني، فشل الاحزاب
نفسها في تنفيذ أجندتها ودخولها في حلقة من الصراع على إدارة القرار،
وفي هذا السياق تبرهن الانشقاقات والفوضى داخل التيار الناصري على
تنافس محموم بين أقطابها خاصة مع غياب القائد الكاريزماتي، مما يعني
أنه غير مؤهل على المشاركة الفعلية في إدارة العجلة السياسية، بصرف
النظر عن السيطرة الكاملة للحزب الوطني الحاكم في مصر.
الى ذلك لا بد من التأكيد على أن الايديولوجية الناصرية لم تكمل
دورتها السياسية والاقتصادية، بمعنى أنه بعد الوفاة الفجائية لعبد
الناصر، تراجعت طروحاته لأنها لم تتأطر داخل مؤسسات، ولم يتم تفعيلها
من قبل المؤيدين، غير الفاعلين، والذين يفتقدون لرؤية يديرون فيها شؤون
الدولة والمجتمع، على أساس الطروحات التي نادى بها مؤسسها.
وهنا من المهم الاشارة الى أن السياقات الاقليمية والدولية التي
رافقت المدّ الناصري في مراحله المزدهرة، تختلف بكليتها عن الأفكار
التي تسيّر العالم اليوم، فما عاد هناك من وجود فاعل للتطلعات التي
رافقت خمسينيات وستينيات القرن المنصرم تحت شعار اليسار بكل تلاوينه
وأطيافه، فالازمنة الراهنة تكشف عن ثقل حضور اليمين والنهج الراديكالي
في الشرق والغرب؛ وعليه فإن انبعاثها رهينة الرؤى التي تحكم السياسات
الدولية، وعلى هذا الأساس يمكن فهم ما أدلى به الرئيس المصري حسني
مبارك في حديثه لصحيفة " نيهون كيزاي شيمبون" اليابانية في 2 أيار/مايو
2007 حين قال : " إن الرئيس المصري القادم يجب أن ينفتح على العالم،
لتواكب حركته وسرعته، لا أن يظل أسيراً لأفكار ونظريات جامدة تعود بمصر
الى ستينيات القرن الماضي".
فهل ستساهم التحولات العالمية المستقبلية في نسف نظرية مبارك؟ وماذا
بقي من عبد الناصر في جمهورية السادات ومبارك؟ إن الأسئلة تجيب وحدها
عن الاحتمالات القادمة.
*كاتبة وباحثة لبنانية |