في الدول المتحضرة، التعليم يواكب متطلبات سوق العمل. هذا الأسلوب
العلمي والعملي يضمن مستقبل الطلبة والأجيال القادمة، وفي نفس الوقت
ينمّي الحراك الاقتصادي. أوروبا تخطت جدلية التعليم والعمل المهني قبل
أكثر من ستة عقود.. هذه الجدلية شغلت بال الأكاديميين والاقتصاديين
خاصة في الخمسينات من القرن الماضي، وقد استطاعت في نهاية المطاف بناء
خارطة طريق سليمة، بعد أن ربطت التعليم بسوق العمل، فأخذا يسيران جنباً
إلى جنب في مسيرة النهضة العلمية والاقتصادية، وكانا ومازالا يكملان
بعضهما البعض في حركة النمو، فلم يعد هناك تكدس مفرط للمهارات والمهن
في أسواق العمل مثلما هو حاصل لدينا.
أحد أهم أسباب الأزمة التي عانت وتعاني منها البلاد هي الفجوة
الكبيرة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل. منذ الثمانينات من
القرن الماضي توجّهت شريحة كبيرة من الطلبة نحو التخصصات التجارية
والبنكية والمناهج النظرية في الاقتصاد حتى تشبّع السوق من هذه المهنة.
الأزمة المالية العالمية التي ضربت أسواق المال، أدّت إلى تسريح مجموعة
من الموظفين، وكانت سبباً في تغيير شريحة غير قليلة من الطلبة
الملتحقين بالجامعات في تغيير اتجاه بوصلتهم التعليمية واختيارهم
تخصصات علمية وتطبيقية.
أتذكّر حينما كنت وعائلتي مقيمين في السويد، بقيت لابني سنتان على
إنهاء المرحلة الثانوية، ووفق الإستراتيجية التعليمية يتوجّب على
الطالب اختيار مسار تعليمي في هذه المرحلة، وعليه أن يختار إحدى
التخصّصات التي تضمن له مستقبلاً وظيفيًا. وتسهيلاً على الطالب توفّر
مكاتب العمل في السويد سجلاً كاملاً للمهن والوظائف التي يحتاجها سوق
العمل السويدي حتى عشرين سنة قادمة.
ابني كان حيران في اختيار مساره التعليمي، فكان يميل إلى المهن
التطبيقية أكثر من النظرية، ومنذ طفولته كان يهوي اللعب بالطائرات
والمركبات، وبعد أن كبر في السن كان يقرأ الصحف التي تكتب عن الطيران،
وكل ما يخص تركيب الطائرات المدنية والعسكرية. قلتُ له بما أنك ترغب في
التخصص في مجال صيانة الطائرات فاذهب إلى مكتب العمل، وابحث عما هو
متوفر من المناهج والمستقبل الوظيفي في هذا المجال.
وفي اليوم التالي جاءني مبتسماً وبيده استمارة التحاق بمدرسة متخصصة
في صيانة الطائرات تقع في شمال السويد، والمعلومات التي وجدها في سجلات
مكتب العمل تفيد بأنّ السوق السويدي بحاجة إلى سبعة آلاف وظيفة لغاية
2011، وعلى ضوء ذلك التحق بالمدرسة وأكمل تعليمه في سنتين، فبقيت له
سنة واحدة لإجراء دورة تطبيقية في إحدى الشركات، لكن ظروف عودتنا إلى
البحرين حالت دون تحقيق ذلك، أما زملاؤه السويديون والأجانب فالتحقوا
بسوق العمل بعد إنهاء دورتهم التدريبية.
في تصفحي لصحيفة “اليوم السابع” المصرية بتاريخ 18 مايو 2009
استغربت جداً من تصريح لرئيس لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشعب
المصري حسام بدراوي الذي رفض ربط التعليم بسوق العمل، وبرر ذلك “
بالتحديات التي تواجه مصر في قضية التحوّل نحو اقتصاد المعرفة، والأكثر
أهمية هو الإصلاح والتطوير في نظام التعليم والبحث العلمي لجعله يوافق
احتياجات السوق والصناعة، وأشار “إلى أنّ التحديات تنحصر في معوقات
التطبيق، التي غالباً ما تترجم إلى أولويات وإلى خطة موازنة، ومن ثم
ندخل في إطار الاختيار الصعب والتي عند ساعة الصفر تتجه فيها الحكومة
والبرلمان إلى وضع الموازنة في أمور الحياة اليومية الضرورية، دون
النظر إلى المستقبل”، إلا أنني ارتحت جداً من تصريح القائم بأعمال
الأمين العام لمجلس التعليم العالي السيدة منى البلوشي التي ناشدت
أولياء أمور الطلبة من التحقق من متطلبات سوق العمل البحريني قبل
التسجيل في الجامعات. باعتقادي، إذا التزمت وزارتا العمل والتربية
والتعليم وجميع المؤسسات التي تعمل تحت مظلتهما أو تسير ضمن نفس
مسارهما في ربط التعليم بسوق العمل فإنّ البحرين ستشهد قفزة نوعية في
حركة النمو في شتى المجالات. |