لأن الحكمة منبعها اليمن ولأن التاريخ يحدثنا عن جذورنا الضاربة في
عمق الأرض اليمنية وعن بلقيس ومأرب والشيخ الأحمر، ولأن رموزنا
الحضارية ما تزال تطل علينا من هضاب اليمن وسهوله والقيم الكبرى
المنحدرة مع هجرات ملأت الأرض وسادت في بلاد الشام وما بين النهرين
فأسست أمة تنجب الأنبياء والرسل حتى خاتمهم محمد بن عبد الله صلوات
الله وسلامه عليه.
لكل هذا وغيره من ظواهر وشواهد نعتز بها كعرب من أقصى المحيط لأقصى
الخليج كانت دهشتنا كبيرة ونحن نسمع ونرى شلال الدم المتدفق من جسد
الشعب اليمني وشرايين الوطن اليمني في أكثر من مكان وعلى غير نموذج.
الشرطة والجيش والأمن تخسر من رجالاتها في اشتباكات مع أبناء جلدتهم
الذين يقتلون أيضاً وبأعداد أكبر في مواجهات الشوارع الغاضبة وغير
المنضبطة وكما يقال فالدم يستجلب الدم وقد غاب الحكماء ليتولاها الحمقى
والموتورون وزارعي الحقد بين الإخوة من كلا الطرفين.
استخدام الذاكرة أمر مهم في الإضاءة على بعض القضايا وهي مهمة
للغاية في استذكار الدروس والشواهد علها تمنع ولو قطرة دم يمني أن تراق
فتستدرج الحريق الذي قد يلتهم الجميع.
الاتفاقات السابقة بين الحكومة وحزبها الحاكم والمعارضة بمن فيها
المشترك تؤكد أنه بغير لغة الحوار والمزيد منه لن يخرج اليمن من محنته
الراهنة وهي اتفاقات موثقة منذ اتفاق 2006 وحتى اتفاق 2009 وكذلك ما
جرى تثبيته في مجلس النواب حول الحوار البرلماني المستهدف إعادة النظر
في القوانين والدستور وطريقة إجراء الانتخابات وتأجيلها والذي شهد
الجميع بحكمة تأجيل انتخابات التشريعي لمدة عامين والتمديد على مخالفته
للدستور ومنطق الحياة الديمقراطية بسبب وحيد هو أن ذلك يمنع إراقة
الدماء حين تحتدم التناقضات ويعلو صوت " الحكماء " الذين يرسمون اليوم
خارطة وطنهم بالدم.
نرجو أن يتوقف كل هذا بأي شكل وبأي ثمن حتى يعود الجميع لحكمة النبع
الذي أشرنا له في مطلع مقالنا والذي يجب على أساسه أن يقال للجميع في
الحكم وفي المعارضة بأنكم تتحملون بالموافقة الضمنية أو الصريحة
مسؤولية ما جرى ويجري وإن كانت المسؤولية أكبر لمن يتحكم في مقدرات
البلد والمقصود هنا الحكومة وحزبها وكذلك رئيس البلاد الذي يجب أن يشكل
المرجعية والحكم العادل بين كل مكونات المجتمع اليمني، وهو الذي بادر
ودعا للحوار بدون شروط لكن أجهزته أعملت سيفها خارج القانون في أكثر من
واقعة من تعبيرات الاحتجاج والغضب التي اجتاحت العديد من المدن.
المشترك يحرد ولا يريد الحوار إلا بمواصفات معينة والحكومة تقدم
الذريعة له بمنع مؤتمر الإصلاح من الانعقاد في مدينة أو أكثر وينحشر
الاشتراكي فيعلن أنه سيعيد النظر في كل التكتيك باتجاه الاقتراب أكثر
من الحراك الجنوبي وتأتي ردة فعل السلطات وأجهزتها غير منضبطة وموتورة
فنسقط جميعاً في لجة العنف والاتهامات المتبادلة وترتفع حرارة
المواجهات ويسكت الكل أو ينددون وتستمر المدحلة في قضم ما تبقى من ثقة
اليمنيين ببعضهم وبحكمتهم القديمة ولا تنفع دعوات الرئيس أو نداءات
المعارضة ويبقى التوتر سيد الموقف...لماذا ولماذا؟؟؟
لقد أمل الجميع أن يكون اتفاق تأجيل الانتخابات البرلمانية فاتحة
خير لليمن ويعطي الفرصة كما توقع الجميع من أجل نقاش هادىء للقضايا
الخلافية الكبيرة كما المعضلات التي يعترف بوجودها الجميع وبحجم يقترب
من الكارثة بسبب شمولها كافة مناحي الحياة في اليمن لكن الذي جرى كان
عكس هذا وبدا أن أبواب جهنم قد فتحت ليمر شيطان الفتنة منها لمدننا
وشوارعنا وما لبث الأمر أن تحول إلى ما يشبه العصيان في بعض المناطق
ناهيك عن تهديد الإنجاز الأهم لليمن في العصر الحديث وهي وحدته التي
تعمدت بالدم والعرق.
نتذكر اليوم ما قاله الرئيس على عبد الله صالح قبل بضعة أشهر حول
حدة الأزمة التي يعيشها اليمن على جميع الأصعدة وقد عددها بدءاً
بالاقتصاد وفي تعقيبه على أحداث شهر إبريل هذا العام قال الرئيس أنه لو
حدث شيء للوحدة فإن خطراً شديداً سيواجه اليمنيين حيث سيكون القتال من
بيت لبيت ولن يكون الانقسام مجرد شطرين بل تمزق لن يسلم منه أحد.
إذن هناك إدراك لحجم المخاطر التي يواجهها البلد من قبل الجميع
وخاصة رأس هرم السلطة ومع هذا نجد الطريقة الخاطئة في معالجة
الاضطرابات الناجمة عن ذات المشاكل التي يعترف بوجودها السيد الرئيس
وكل الأطراف في اليمن.
إن حجم الفقر المنتشر والبطالة والتهميش والفساد والتمييز واحتكار
السلطة وإدارة الظهر لقضايا الناس خاصة في الجنوب سينتج حتماً ظواهر
احتجاج تأخذ طابعاً عنيفاً في كثير من الأوقات فهل نقابلها بالعنف كما
تفعل السلطات؟ وهل من المناسب أن تقوم الأجهزة باعتقال الصحفيين وغيرهم
من غير المحسوبين على السلطة؟
لقد دعونا في مقال سابق إلى الحوار وبعدها طالبنا بالاستجابة لدعوة
الرئيس للحوار وتمنينا على الحراك والحوثيين وقف أعمال العنف
والاحتجاجات لإعطاء فرصة للتنفس وترتيب البيت الداخلي لإجراء الحوار
بعد وضع الإطار المناسب له وجدول الأعمال الذي لابد أن يتناول كيفية
وقف إراقة الدماء. اليمن لا يزال تحت نفوذ النظام القبلي مما يعقد
الأمور ويجعل وقف المواجهة أمراً صعباً خاصة مع انتشار السلاح ووجود
مجموعات دينية متطرفة تحرض على النظام وكذلك التمرد الحوثي والقاعدة
والقراصنة وغير ذلك من عوامل التوتير المباشرة بخلاف الأزمات البنيوية
في الاقتصاد والشأن الاجتماعي ولهذا لابد أن يستوعب الجميع أنه لا
إمكانية للنصر في المواجهة الداخلية لأن العدو يقبع بين ظهرانينا ونحن
عاجزون عن توحيد صفوفنا في مواجهته، وهو عدو له ارتدادات خارجية على
المستوى الإقليمي وعلى المستوى الدولي.
كل مشكلة تجد لها حلول باستثناء الحقد والتحامل والانقسام الداخلي
فهو مرض عضال ندعو الله أن لا يترسخ في اليمن، ولعل التجربة الفلسطينية
المريرة تنبه كل الأطراف لخطورة ما يجري وبالتالي تقديم المرونة
والتنازلات المطلوبة من أجل إخراج الوطن اليمني من دوامة العنف ولجة
الدم.
[email protected] |