أشواك في حدائق الذاكرة.. إطلالة على الفجر وما تلاه لـ سلام البنّاي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: كم يحتاج الشاعر من الوقت كي يفرض شعره على القارئ المتفاعل؟،  سنة أم اثنتين، عقداً أم عقدين، قصيدة أم قصيدتين، مجموعة أم مجموعتين؟ ثم هل فكر الشاعر بهذا الأمر ؟ ، وهل فكر القارئ من جانبه بالكم الشعري لشاعر بعينه كي يُقبِل على قراءته أكثر من أقرانه الشعراء، إنها أسئلة مشروعة ولطالما فكرت بها كقارئ وليس ككاتب، نعم أنا أصطف الى جانب القارئ قبل الكاتب شاعرا او ساردا او ناقدا، والسبب يكمن في كثرة القرّاء اذا ما قسنا ذلك مع نسبة الكتاب شعراء أو غيرهم، ومع كثرة القراء سنجد من هم أكثر جدية من غيرهم ومع قلة الأدباء سنجد من هم أكثر تشابها وأقل أصالة، هذا الأمر يدفعني الى تفضيل القارئ على الكاتب من جهة ولأن الأخير لن يجد له حضورا أو ثباتا أو جدوى في غياب القارئ من جهة أخرى.

 لقد دفعني الشاعر (سلام محمد البناي) عنوة إلى هذه التوطئة، فهو شاعر بدأ التعاطي مع الشعر قبل عقدين، وما يلفت الانتباه انه لم ينتج سوى مجموعتين صغيرتين في حجمهما الكتابي، فلقد بدأ رحلته مع الشعر كتابةً أواخر عقد الثمانينيات ثم صمت سنوات وسنوات وسنوات ليعود إلى الكتابة الشعرية قبل أعوام وليسجل حضورا متجددا بعد ذلك الصمت أو الغياب الطويل، فهل وجد له موطئ قدم في ساحة الكتابة الشعرية الضاجة بأشكال الشعر والشعراء؟!.

 من وجهة نظر شخصية وقبل أن أطل على (مجموعته الشعرية) الجديدة التي حملت عنوان (الفجر وما تلاه) أرى أن البناي عاد لكي يبقى في ساحة الشعر، وهذا يشكل بداية لثبات الحضور وإدامة زخمه، إنني ألمس فيه إصرارا لتدعيم المطاولة وأتقصى لديه نفسا شعريا لن يعاني مرة أخرى من (الربو) الذي قاده سابقا الى الاختناق ثم هَجْرِ الشعر إلى ساحات أخرى لا تناسبه وهو الذي امتلك سمات الشاعرية منذ أن بدأ يعاقر الشعر قبل سنوات طويلة.

في مجموعته الثالثة هذه حدائق شعرية تنطوي على الكثير مما يبحث عنه القارئ في هدأة الليل ولا أقصد هنا أنها ذات نفس فيروزي، بل هي حدائق تحمل من عطر الشعر شذاه الأقرب لمجسات الطفولة، وهي أيضا حدائق الأحلام الشعرية التي يقدمها البناي لقارئه بصفاء تام، إنك كقارئ ستلمس من دون عناء براءة الشاعر وشعره وصفاء الشاعر وشعره لأنه باختصار يعزف على وتر الطفولة بعذوبة ونقاء وينفخ في ناي الزمن الماضي المترع بالحنين، وإذا كنت من القراء الحالمين فإنك قطعا ستجد ضالتك في القصائد القليلة التي ضمتها هذه المجموعة، ولأن القارئ الشاعري غالبا ما يحيل الفعل القرائي إلى حقل الأحلام، فإنه سيجد يقظته مكتظة بأحلام الشعر الحميمة في رحلته مع الفجر وما تلاه، لقد قال باشلار في كتابه جماليات المكان (أن نقرأ الشعر يعني أساسا أن نمارس أحلام اليقظة) هنا سينسجم فعل القراءة تماما مع الصور الشعرية الغائصة في بطون الطفولة كي تستغور بهاءها الأخّاذ، إنها تقدم لك مشاهد حالمة لحدائق الذاكرة، غير أن ثمة أشواكا تبرز هنا او هناك، إن هذه الأشواك لا تفسد جمالية الشعر بل هي لون من ألوان الجمال، إنها تنتمي إلى الحزن وربما إلى الحنين الجارف، ويمكن أن أسميها بأشواك الفقدان:

 لا أحد

 يمنحني جدارا

 يسدّ عليَّ هروبي

 ويطلق أنفاسي

 بعناق يطول

 ... لا أحد ...

 ليس في الرمال إلاّ العبث

 وبراعم تحترق من الهلع

 ... ليس في المدينة

 غير أبواب تنحني

 عليها دموع الأمهات ...

 كل المحطات القادمة

 لا

 أحد منها يعود... لا أحد 

 من قصيدة – لا أحد - ص8 

إن الذاكرة هي ملعب الشعر لدى سلام البناي وهي حديقته الغنّاء، فهو يتجول فيها بهدوء وحرية تامة لكنه في الأغلب يقتنص أشواكها كالفلاح الذي يرغب أن تبقى حقوله خالية من النباتات او الأدغال الدخيلة، ولربما لا يعلم أو (لم ينتبه) الى أن هذه الأشواك الشعرية كما أريد أن أسميها، هي التي تعطي لقصائده حضورها وفعلها الشعري المؤاخي لذائقة القارئ، والسبب ببساطة شديدة ان هذه الأشواك تتواجد في ذاكرة الإنسان منذ أن يبدأ وعيه بالاشتغال على تفسير الوقائع وخزنها، أي أن ذاكرة البناي الشعرية هي ذاكرة جمعية والأفضل أن أطلق عليها بالذاكرة الإنسانية الشاملة، تلك التي تنطوي على حيوات متماثلة إلى حد التشابه، فهي تحفل بالمشاهد الحالمة وتغصّ بأحزان العالم المتوارثة عبر الأجيال وتنوء بآلام طفولية رقيقة يؤازرها الشعر حد التوحد:

 ... أتعكز على سيف الكلمات

 إلى ذاكرة

 أيقظها شوق المجهول ...

 ترتجف كلماتي ،

 عند اتساعها

 تئن تحت ظلال ...

 تدغدغني كل صباح ... /

 من قصيدة – رائحة القلق - ص9 

 إن الحلم كمفردة وكصور شعرية تأخذ حيزا واسعا في الفجر وما تلاه، ولعل السبب في ذلك يعود لطبيعة الشاعر او تكوينه النفسي والأخلاقي، إن من يعرف سلام البناي سيحكم عليه بالهدوء والدعة المطلقة، وإذا كان القول بتشابه الأرواح مع الإفرازات الإبداعية التي تنتج عنها دقيقا، فإنني سأجد تبريرا لتكرار مفردة الحلم وصوره المنحوتة بجمال في قصائد البناي، كما إنني يمكن أن أحيله الى فئة الناس الهادئين الحالمين، أولئك الذين لا يقبلون الحياة إلاّ إذا تحولت من جديتها المقيتة إلى خميلة حالمة:

 ... كنت أحلم

 فيسحرني الموت بالحياة

 وأصرخ تدفعني خطاي

 إلى أبواب لا مفاتيح لها ...

 وأعلم

أن بصائري

آمنت بكل هذا الشوق /

 من قصيدة – التي مشت بي – ص16

 إن ألق الذاكرة يتكرر كثيرا، انه هاجس شعري مقيم في قصائد سلام محمد البناي، كأنه يغترف من نبع واحد اسمه الذاكرة، حتى انك تتساءل أين هي الحياة الراسخة القائمة بكل حضورها الآني الحاد في هذه القصائد، لكنك ستجيب بسرعة خاطفة، ثمة مسافة تفصل بين الذكرى والراهن، وثمة مسافة تعزل الحلم عن الحقيقة القائمة، وفي هاتين المنطقتين أو المسافتين العازلتين، يقيم شعر البناي في مجموعته هذه:

ذاكرتي الخرساء

أنثرها

على درب غيابك

... أمدني إليك أكفا من الجمر

أدندن مع الوجع النازل

من أعماقي

وبي رغبة للدفء

أدنو إليك

كخطى النعاس

في ثنايا الجسد ...

وتغيب عني

كما البساتين في الأفق .

من قصيدة – الفجر وما تلاه – ص 17.

إن هذه الإطلالة الحالمة على حدائق البناي الشعرية ستتيح لي حرية التجول فيها وقتما أشاء، ذلك إنني لا أبغي اكتشافها دفعة واحدة كي أترك لنفسي فرصة اللقاء بها مجددا، لا سيما في الأوقات التي تكون فيها السماء صافية والليل يستحم في بحيرة الهدوء والنجوم تتدلى كثمار شعرية قابلة للقطاف والتلذذ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 19/آب/2009 - 27/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م