رَوَى زُرَارَةَ عَنْ الإمَامِ الصَادِق (ع) أَنَّهُ قَال: (إِنَّ
لِلْغُلامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ. قَالَ؛ قُلْتُ: وَلِمَ؟
قَالَ: يَخَافُ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ. ثُمَّ قَالَ يَا
زُرَارَةُ: وَهُوَ الْمُنْتَظَرُ، وَهُوَ الَّذِي يُشَكُّ فِي
وِلادَتِهِ! مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَاتَ أَبُوهُ بِلا خَلَفٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَمْلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ
وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ وَهُوَ الْمُنْتَظَرُ
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ
الشِّيعَةَ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ الْمُبْطِلُونَ يَا زُرَارَةُ.
قَالَ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الزَّمَانَ
أَيَّ شَيْءٍ أَعْمَلُ؟ قَالَ (ع) يَا زُرَارَةُ: إِذَا أَدْرَكْتَ
هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي
نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ
نَبِيَّكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ
تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ
عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ
ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي)(1)
اشتغل الفلاسفة والمفكرون وكذلك الساسة بتحديد الأولوية في البناء
الحضاري، هل هو الإنسان؟ أم الدولة ومرافقها الحيوية؟ وخلصوا منذ القدم
إلى أن للإنسان الأولوية في عملية البناء الحضاري وعليه فإن الجهود
والإمكانات ينبغي أن تتوجه إلى بنائه باعتباره المحور والمرتكز في
النهوض والوجود الحضاري بل وديمومتهما أيضا.
ومن هذا المنطلق أصبح هذا المفهوم شعارًا يرفعه الجميع (مصلحون
ومصلحيون) ويعمل من أجله الجميع ولكن وفقًا للمنطلقات والأهداف
واستنادًا إلى الخلفية الفلسفية والعقدية في تحديد هوية الإنسان والدور
المناط به.
المصلحيون
فمثلا: حينما يقتل المحتل والمستعمر الناس، ويظلمهم الظالم والمستبد،
فإنهم يعتقدون بأفضليتهم على سائر البشر استنادا على رؤية فلسفية خاطئة،
وتلتقي هذه الرؤية الخاطئة مع أطماعهم في التسلط والتوسع فتبتلي
البشرية بقبيح أعمالهم من سفك الدماء وظلم العباد وهتك الأعراض وسرقة
خيرات الشعوب.
وفرعون موسى (ع) هو واحد من هؤلاء الذين تفننوا في الظلم والقهر
والعدوان بدم بارد ( كما هو حاصل اليوم من جرائم الصهاينة والغرب).
قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (4)} سورة القصص
مع أن أمثال هؤلاء العابثين يزعمون من فعلتهم تلك الإصلاح والبناء
ولكن ساء ما كانو يفعلون.
قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12)} سورة البقرة
ويكشف القرآن الكريم الخلفية التي يستند عليها هؤلاء الطغاة حيث
يشعرون بالرفعة في المكانة والمنزلة والرتبة على سائر البشر، فهم
المالكون للأرض وما فيها ومن عليها، وسواهم ما هم إلا عبيد عليهم أن
ينضبطوا وفقا لإرادة الحاكم والسير معه وإن قادهم ذلك إلى الهاوية في
الدنيا والآخرة.
قال تعالى:{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)}سورة الشعراء
وكانت النتيجة: قال تعالى:{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ
أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67)} سورة الشعراء
المصلحون
والنموذج الآخر هم المصلحون وفي طليعتهم الأنبياء والرسل والأئمة
والأوصياء والعلماء وأصحاب الدعوات المخلصة والهادفة إلى بناء الإنسان
وتحريره من الأغلال والقيود.
والرؤية التي يستند عليها هؤلاء تبتني على المساواة بين بني البشر
وعدم الولاية لأحد على أحد ذاتا إلا بإذن الله.
قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ
أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
أَحَدًا(110)}سورة الكهف
وقال رسول الله (ص) في خطبة حجة الوداع: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ
رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ
مِنْ تُرَابٍ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ وَلَيْسَ
لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلا بِالتَّقْوَى؛ أَلا هَلْ
بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ (ص): فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ
الْغَائِب).(2)
ويهدفون من عملهم رفع القيود النفسية والخارجية عن الإنسان والسير
به في مسيرة تصاعدية نحو السعادة والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة في
الدنيا، والفوز برضوان الله في جنات النعيم.
قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (157)}سورة الأعراف
مرتكزات البناء
والسؤال الآن هو ما هي المرتكزات التي ترتكز عليها عملية بناء
الإنسان؟
أولا العقيدة
مبدأ الإنسان ومعاده والغاية من وجوده وأسئلة كثيرة أخرى تفرض نفسها
على الإنسان مما تجعله مهتما بها قبل كل شيء وفوق كل الأشياء، فمثلا:
من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ من أوجدني؟ إلى أين أنتهي؟ لماذا خلق الله
الكون؟ وما هي الغاية من وجود البشر؟ وما هو السبيل الأقوم في الحياة؟
وغيرها تبقى تقفز دائما في ذهن الإنسان لتكون في المقدمة تبحث عن
إجابات شافية، وعليها يتحدد سلوكه وخط سيره في الحياة الدنيا والآخرة.
وهذه الإجابات الشافية التي يتشكل من مجموعها العقيدة ينبغي أن
يؤمن الإنسان بها عن علم ويقين، ولذا قال الفقهاء في تعرضهم لتحديد
موارد التقليد: محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العملية، فلا
يجري في أصول الدين. (3) وحيث أنّ الإيمان بها عن علم ويقين يعني
الاجتهاد في الأصول وهو أعقد منه في الفروع مما يمكن الجزم بتعذر
الأغلب من الاجتهاد والتحقيق في جميع ما يرتبط بالعقيدة ودفع جميع
الشبهات التي تحوم حولها. لذا يمكن القول أن المراد بالاجتهاد في
الأصول الاعتقاد عن طريق العلم بحيث أن المكلف يقطع بهذه الأمور سواء
أكان ذلك من خلال المحاكاة لأراء العلماء أو من خلال البحث والتمحيص.
وقد "أجابت العقيدة الإسلامية عن كلِّ ذلك بمنتهى الصدق والعمق،
عندما أعلنت أنّ للإنسان خالقاً حكيماً قادراً لا ينال بالحواس ولا
يقاس بالناس، وأنّ الإنسان وجد لغاية سامية وهي عبادة الله تعالى
والوصول من خلالها إلى أرفع درجات التكامل والخلود. كما تولِّد هذه
العقيدة أيضاً عواطف وأحاسيس خيِّرة، يتبنى الإسلام بثها وتنميتها من
أجل بناء الإنسان الكامل في الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسلوكية،
وتكوين الشخصية العقائدية التي تتمتع بعقلية هادفة وسلوك قويم، واتجاه
رسالي، على العكس من الشخصية اللامنتمية، التي تنصبّ اهتماماتها جميعاً
على الذات ومصالحها ورغائبها، فتعاني من الفراغ العقلي والتأزم النفسي
وفقدان الهدفية في الحياة".(4)
وواضح انعكاس هذه العقيدة على سلوك وتطلعات المسلمين الأوائل،
وأثرها في بناء الحضارة الإسلامية المجيدة، فالتحول لم يكن حبيس الذهن
وإنما أثر في كيانه وارتقى به نحو الكمال الإنساني الذي يتطلع لإحقاق
الحق في الجوانح والجوارح وفي الأسرة والمجتمع بل فيما أمكن من أرض
الله وعباده.
وهنا يأتي السؤال عن الرواية التي صدرنا بها حديثنا والدعاء الوارد
فيها حيث أنه ربط معرفة النبي (ص) بالله جل جلاله، ومعرفة الحجة (عج)
بمعرفة النبي (ص) وهذا أمر طبيعي إذ أن معرفة المرسِل تقود إلى معرفة
المرسَل ومعرفته تقود إلى معرفة خليفته، فالخليفة لا يُعرف إلا بمعرفة
المُستخلف وهو الحجة (عج).
ولكن في ذيل الدعاء ورد (اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ
إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي). (5) مما يعني
أنه باب الله الذي منه يأتى، وهو الدليل إليه سبحانه وتعالى.
وقد ورد هذا المعنى عن المعصومين (ع) منها ما في الصحيح أو الحسن عن
زرارة عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: )بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةِ
أَشْيَاءَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ
وَالْوَلاَيَةِ. قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ وَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الْوَلاَيَةُ أَفْضَلُ لأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ
وَالْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ. قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِي يَلِي
ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ؟ فَقَالَ: الصَّلاَةُ ). (6)
وهذا يعني أن معرفة الحجة (عج) والانتماء إلى نهضته المباركة - بما
تحمل من آفاق وتطلعات وأهداف تصل إلى تمكن قيم الخير والعدل والفضيلة
في العالم أجمع- توصل الإنسان إلى النبي الخاتم ومنه إلى الحق جل وعلا
فتحدث فيه انقلابا تنهدم من خلاله مداميك الشر والخبث والرذيلة
والخيانة، وتتنامى مداميك الخير والطهر والفضيلة وكل الصفات الخيرة في
الإنسان فتصنع منه ما صنعت بالسابقين العارفين بالنبي الخاتم المؤمنين
به (ص). فكما كان للخاتمية ذلك الأثر الكبير في نفوس العارفين المؤمنين
كذلك تكون المهدوية.
ثانيا القيم الثابتة
يقول أستاذنا السيد المرجع المدرسي دام ظله: أن القيم كيان رصين
هرمي الشكل في قمته يتجلى نور التوحيد، ومن ثم أسماء الله الحسنى،
وبعدها يأتي دور الإيمان كصلة بين الحق والخلق، ومن الإيمان تجري روافد
القيم. (7)
وعليه تقوم منظومة القيم الثابتة بدور الحفاظ على خط الإنسان
ومسيرته في الحياة، فتنقذه من الوقوع في الفتن ومضلاتها، والبدع
وفنونها، والنفس ونوازعها، والشيطان وشراكه... وهكذا.
وهنا ينبغي أن ننبه إلى أن البعض يزيد من الثوابت ويضفي عليها صفة
القيمية ثم يدافع عنها ويعتبرها حدا من الحدود التي يستميت في تثبيته
أو الدفاع عنه، والصحيح هو أن الزيادات والاختراعات ما لم تستند إلى
الدين بالدليل والبرهان فهي لا تعنينا، نعم لها من المكانة والاعتبار
بمقدار ارتباطها وقبول الشارع والعقل لها.
ثالثًا الإيمان
الرابط بين العقيدة والقيم هو الإيمان، وتعني "التسليم للحق، وفي
البدء التسليم للحي القيوم الذي به قامت السماوات والأرض. ثم التسليم
لأسمائه الحسنى التي تتجلى في سننه في الخليقة وفي شرائعه وحدود أحكامه"(8)
قال تعالى:{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا
مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65)}سورة النساء
وسئل الإمام الصادق (ع) عن المراد بالتسليم الوارد في هذه الآية
فقال (هُوَ التَّسْلِيمُ فِي الأُمُور). (9)
ولعل الرواية الواردة عن الإمام الرضا وهي مما أملاه (ع) على الفضل:
(الإِيمَانُ هُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ
وَعَمَلٌ بِالأَرْكَان).(10) تبين لنا دوره كأداة فاعلة تقوم بالربط
بين هذه الأمور.
.........................................
(1)الكافي، ثقة الإسلام الكليني، ج 1 ص 337.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 73 ص 350.
(3) العروة الوثقى، السيد اليزدي، ج 1 ص 57.
(4) دور العقيدة في بناء الإنسان، ص 8.
(5)الكافي، ثقة الإسلام الكليني، ج 1 ص 337.
(6) وسائلالشيعة ج 1 ص 13.
(7) التشريع الإسلامي، السيد المرجع المدرسي، ج2
نسخة الكترونية.
(8) التشريع الإسلامي، السيد المرجع المدرسي، ج2
نسخة الكترونية.
(9) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج2 ص 200.
(10) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج10 ص 360. |