الجاليات العربية والاسلامية في الغرب تصدع ام اندماج؟

هلال آل فخرالدين

قبل الاجابة على هذا السؤال الشائك الخطير الشغل الشاغل لكثير من المؤسسات البحثية والمدنية وغيرها فلابد من تقديم مقدمات مختصرة ضرورية او تبيان مفاهيم فكرية اساسية لكلا المدرستين الشرقية والغربية تلقي الاضواء على قضية حيوية متشعبة عميقة لنستشرف سمات ظواهر التوتر والترقب والريبة لدى كل فريق نتيجة لنظريات عنصرية او مواقف متطرفة لفئة او جماعة او هجمات ارهابية يرتكبها افراد مجندين لقوى متخلفة او ظلامية او عدوانية لها اجندتها القائمة على زرع الفساد واثارت النعرات وتاجيج بؤر الصراع لاثارة الفزع والمخاوف وضرب بعضا ببعض لتسويق بضاعاتها وتضخيم الاجهزة الاعلامية لتلك الاحداث لتنفيذ مأرب شيطانية خبيثة تحت مسميات براقة تعبث بالمشاعرلاحياء الفتن ونبش الكوامن من التراث وبلاساءة الى الرموز المقدسة بذرائع الحرية او حرية التعبير..

فلايصح تعميم ما ينتهجه البعض وسحبه على شرائح كبيرة او اعراق وشعوب وامم متعددة واديان كبرى ياخذ بها مئات الملايين الابرياء من البشر فهذا المنحى لايستقيم مع منهج الدين وسيرة المرسلين وينافى ومنطق العقل بان تتهم اجناس اوديانات وتعاقب عقابا عدوانيا جماعي او يرتكب بحقها تميزعرقي او ديني او طائفي بما يرتكبه حفنة من المجرمين امثال ستالين وهتلروصدام وابن لادن وكارلوس..او ماتشنه منظمات ارهابية من تفجيرات تطال الابرياء كالالوية الحمراء الايطالية وايتا الاسبانية او الجيش الايرلندي او القاعدة وطالبان.. وكذلك ماتقوم به انظمة عدوانية اوعنصرية من غارات مدمرة على الشعوب الامنة..الخ

فهذا لايجب ان يسري بالكامل على شعوب مسالمة واديان سماوية منفتحة واعراق غير متطرفة بعينها وهي تتبرأ من كل تلك الفضائع الارهابية او مجازرالابادة الجماعية والعنف الدموي...سواء للافراد او للمنظمات ام للانظمة تلك....ولاجل تبيان مواطن الخلل في امثال تلك الممارسات غير الانسانية وتجنب الاحكام المسبقة والنظرات الاستعلائية والمواقف الشوفينية..وتبقى طبيعة الانظمة والسياسة المتبعة في تشريع القوانين في دول الغرب التي تقطنها جاليات او اقليات مسلمة الاثر الكبير في ردود الافعال سلبا او ايجابا فبمقدار ما تحمله تلك التشريعات من نظرات ايجابية في احترام عقائد واعراف المكونات وما تتبناه مؤسسات المجتمع المدني من اسس العدالة والتسامح والشفافية وكذلك اثرالاجواء الثقافية السائدة المحفزة والمشجعة على التعايش السلمي للجميع في اطارالاحترام والالتزام بالمسؤليات وتكافؤ الفرص وافساح المجال للابداع وبناء المجتمع وتوظيف الامكانيات للحياة الكريمة السعيدة لكل اطياف المجتمع دون تميزاو تعصب وهذه الاسس والاليات الصحيحة لها دور كبير في اندماج الجاليات في مجتمعاتهم وعكسها يحدث شرخا وتصدعا...

ويستحسن تسليط الاضواء على مفاهيم لها مساس كبير بما نحن في صدده وهي: الهوية،التطرف،الاساءة، التسامح لهما بحث طويل سنتناوله بعد الانتهاء من هذه الحلقات... ونبدأ اولا :

الهوية بين خصوصيات الانغلاق وافاق الانفتاح

في البداية لايسعنا الا وقفة تامل في مفهوم الهوية ببعديها الضيق والواسع فالهوية شأنها شأن كثير من الظواهرلا الاجتماعية تبدأ من الاسفل في خط بياني صاعد منطلقة من السكن مركز العالم الاول الى العائلة الاكبر :العشيرة ثم القبيلة ومن الحي والزقاق الضيق الى المدينة فالمنطقة والاقليم وصولا الى انتماء الى امة.وكان هذا التطور ولايزال هو المراة العاكسة لصيرورة التاريخية ونبضها والمفسر لحركتها.

وبالقدر الذي تتطور فيه المجتماعات البشرية وتزدهر وتتسع فضاءات الهوية وتصبح اكثر إنسانية ورحابة مستجيبة في ذلك لقانون التراكم والتعاقب والتحول متجاوزة شبكة العلاقات القديمة عشائرية وقبلية وطائفية وفئوية وبنياتها ومؤكدة زيف مقولة انسداد التاريخ..

وبديهي ان تجاوز شبكة العلاقات القديمة هو السبيل الى تضعضع جملة المرتكزات التى اسست عليها.إن هذا التجاوز هو الوحده القادر على الاسهام في تشكيل بنيات جديدة على اسسس مدنية يكون من نتائجها انبثاق ثقافات واعراف وتقاليد جديدة تختزن في رحمها مخاضات الولاة لهوية تقوم على اساس المصالح المشتركة وتصبح تعبيرا عن خصوصية ملامح المرحلة الوليدة.لكن التطور التاريخي قد افرز انماطا حكومية جديدة كما افرز نظما سياسية حديثة تستند الى العلاقات التعاقدية بين ابناء المجتمع الواحد وبين اعراقه ومذاهبة في بنيتيه السفلى والعليا أحد أهم عناوينها الوحدة الوطنية تتأسس من خلالها هوية جديدة هي ما نطلق عليها الهوية الائتلافية الجامعة التي يمثل نشوء الدولة المدنية بعناصرها المعروفة احد تجلياتها وتعابير الانتماء إليها وذلك هو قمة الارتقاء بمفهوم (الوطن ).

هذه المقدمة تعني أن الهوية الضيقة او الجزئية أصبحت ضرورة البقاء واستمرار النوع الانساني عندما بدأت البشرية تلمس خطواتها الاولى.وكانت هذه الهويات عناصر الازمة منذ بدء الانسان في التجمع والاستيطاني فى خضم الصراعات المحتدمة من أجل الحصول على الكلا والماء معبرة عن خصوصية ثقافة وعادات وتقاليد كل مجموعة وعن تمايزاتها لتفصل بينها بشكل حاسم وبين المجموعات الاخرى.وقد بقى لهذه الهويات شأن لا يستهان به قبل نشوء الدولة المدنية الحديثة حيث كانت الهوية الذاتية او الجزئية الحصن المنيع الذي تتمترس خلفه المجموعات المضطهدة او البدائية او العنصرية دفاعا عن كينونتها أمام هجمات الاعداء او الاغراب والمتطرفين.

أما ان الحركة التاريخية والتطورالانساني قد أفرغا تلك الهويات من مبررات وجودها وجعلا من تجاوزها أمرا ملحا وضرورة قصوى وفق منطق الديمقراطية وصناديق الاقتراع ومباديء العدالة وحقوق الانسان..إذا ما أريد للامة (الدولة) أن تحقق نهضتها فإن محاولة بعثها أو التشبث بتركتها تغدو فعلا معوقا لمشاريع التنمية والنهضة والعصرنة وتصبح الهوية المغلقة في هذه الحالة عامل تاخر وتفتيت وتناحر وهي فى ذلك على النقيض من الهوية الوطنية المنفتحة الجامعة التي تتحدشد تحت فيئها الجموع من اجل تحقيق منظمة من الاهداف والتطلعات المشتركة.

بمعنى اخر الهوية الجامعة ناتج وحدة المجتمع تتسق مع التحولات الانسانية المتجهة نحو كتل كبرى من الشعوب.وهي التي بمقدورها نقل المجتمع العربى والاسلامي ضمن اطياف متمازجة متعايشة متاحبة تحكمها اسس العدالة من واقعه المتخلف الى مجتمع مدني حديث متقدم تسوده قيم المواطنة الصالحة وايضا لكونها تتسق مع اقتصادات الابعاد الكبيرة.

نحن إذن إزاء معادلتين:الاولى جامعة تزج بطاقات الشعب باسره من دون تميز او تفريق في معركة البناء والتقدم وتجسدها الهوية المفتوحة الجامعة بينما الهويات الشوفينية المنغلقة او الجزئية من أبناء الوطن كتلا متصارعة تسعى كل كتلة الى الاهتمام بحيثياتها الخاصة واطرها الضيقة.وتنعزل الهويات الجزئية في (غيتوهات) لتمارس طقوسها وتقاليدها خارج التاريخ والنتيجة المنطقية لسيادة منطق الهويات المنغلقة المتناحرة والصراع بين أبناء الوطن الواحد وقيام كانتونات معزولة عن بعضها البعض وهم كل فئة التهام الاخرى او اقصائها والغائها وما ينتج عن ذلك من استنزاف لكل الطقات والموارد.

في الهوية الجامعة:الهوية الوطنية يصبح الحديث عن المجتمع المدني متجانس متضامن متكافل الكل سواسية امام القانون والتفاضل بين افراده او مكوناته بالابداع والانتاج والكافاءات والمؤهلات والقدرات وتطابقا بين الواقع والمضمون حيث تتحدد وظيفة مؤسسات المجتمع المدني كجزء مكمل لمهام المؤسسات الثلاث :التنفيذية والتشريعية والقضائية وكعنصر ضاغط لتلبية الحاجات الاجتماعية المدنية وتكون وظيفة هذه المؤسسات كما هي في الانظمة الديمقراطية رعاية مصالح القوى الاجتماعية الممثلة فيها وفق معايير العدالة والانشاطة.أما الهويات الجزئية فإنها عوم في مواجة التيار إنها تعبير عن أنماط المجتمعات القبلية ما قبل التاريخ وهي أيضا تأخذ أشكالا إثنية وطائفية تستمد مشروعيتها من تسلطها او العودة السحيقة الى التاريخ ليس في عناصره المتوثبة الحية الفاعلة بل في اتجاهات ناكسة ومعادية للمستقبل والانفتاح والتسامح.

في الهوية المنفتحة الجامعة يحدث تفاعل مبدع بين الزمان والمكان بين التاريخ والجغرافيا فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الاصيلة والحية في التاريخ بما في ذلك الاسهامات الفكرية والثقافية الانسانية العالمية لاثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل.أما الهوية المنغلقة الجزئية.فنها انتقائية في علاقاتها بالتاريخ كونها تختار منه ما يعزز عزلتها وانغلاقها ويرسخ ديمومة حضورها.أما في ما يتعلق بما هو إنساني وعالمي فوار ومتحرك فانها منغلقة بامتياز على عطاءاته وابداعاته.

الهوية المنفتحة في ظل الدولة المدنية هي بطبيعتها تجريبية نقدية لانها تؤمن بالعلم والعمل وكل شثيء خاضع للتحليل والبرهان ولذلك تتواصل عملية الكشف والنضال المعرفي لايجاد مستقبل أفضل للجميع اما الهوية المنغلقة فإنها استقرائية كونها تخضع التاريخ لتفسيراتها الخاصة المتكلسة العنصرية المتبلدة.إنها تعتقد بمعرفتها لكل شىء وخبرتها في كل شىء وانها هي الفرقة الناجية في حين أنها في حقيقتها تغفل عن ابسط أبجديات القراءة لانغلاقها وتطرفها وارهابها.

في تاريخنا العربي والاسلامي مثلت رسالة الاسلام هوية جامعة للمسلمين وبالاسلام تحققت فكرة الامة كما عبرت عنها رسالة السماء (خير امة اخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وتطور الانتماء العربي الجامع من ارهاصاته الجنينية حيث الاعتداد بالعرق والنسب الى الارتقاء بالهوية من حالة الانغلاق والتخلف الى اعتبار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهي عن التنابز ولافضل الا بالتقوى والخيرية هي العناصر الرئيسية في تكوين الامة حيث علمنا الرسول (ص) :(ان الرب واحد والاب واحد والدين واحد وليست العربية باحدكم من أب ولام وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي ) ووتاكيد مدرسة اهل البيت على احترام كافة مكونات المجتع ووجوب رعاية الجميع وفق منطق العدالة واحترام الادمية بغض النظر عن الدين او الون او العرق وان المفاضلة بينهم تكون على اساس التقوى والعمل الصالح والمسارعة في الخير ويجمعهم جميعا الوفاء للوطن اين كان كما اسس لمفهوم الوطنية الصالحة السباق لعصره الامام علي بقوله :(الوطن ما حملك).

 هكذا انتقل العرب من عصر العصبية والتطرف والجهل والانغلاق والتقهقر الى هوية انسانية منفتحة متسامحة متكافئة تحقق فيها التفاعل الانساني الخلاق باسمى صوره ابراز حضارة عالمية صاغتها عقول امم وشعوب متباينة كثيرة انضوت فيها فتكونت دولة مترامية الاطراف وبشروا بالقيم الاخلاقية والمباديء الانسانية حيث شاءت إرادة الله...

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 16/آب/2009 - 24/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م