قراءة في كتاب: تراث المدُن الإسلامية

محاولة لربط تراث المدُن من حيث الشكل والمضمون والمكونات

 

 

 

 

 

الكتاب: تراث المدن الإسلامية

المؤلف: دكتور خالد عزب

الناشر: كتاب الهلال

عدد الصفحات: 280

 

 

 

 

شبكة النبأ: هذا الكتاب يعد امتدادا لمحاولات الدكتور خالد عزب المستمرة لسبر أغوار المدن الاسلامية والعمارة، هو محاولة لأعمال العقل لربط تراث المدن الإسلامية من حيث الشكل و المضمون والمكونات ببعضه، فالدراسات عادة حينما تتناول عمارة المدن أو تخطيطها تأخذ طابعا جافا، و هو ما يجعل الكثيرين يعزفون عن قراءتها و بالتالي لا توجد ثقافة واسعة لأهمية هذه المدن و تراثها. تري المؤلف في هذا الكتاب يستعين تارة بالدراسات التاريخية و تارة أخرى الاجتماعية و ثالثة المعمارية و رابعة بعلم أصول الفقه و خامسة بتخطيط المدن، فهو من حيث مصادره نراها متنوعة، و لكنه أخرج منها رؤية محددة المعالم متكاملة الأركان هكذا أراد الدكتور خالد عزب مؤلف الكتاب.

لذا نراه يبدأ الفصل الأول من كتابه بالبحث عن جذور تخطيط و عمارة المدن الإسلامية في المدينة المنورة في عصر الرسول صلي الله عليه و سلم، فعندما استقر بها قام بتحديد الوظائف الأساسية للمكان، و منها محورية المسجد الجامع، و بساطة و فاعلية المسكن، و السوق و دور الضيافة و غيرها.

وهو ما يعني أن هناك أسسا وضعت منذ فترة مبكرة للمدن الإسلامية، قامت علي استيعاب تراث السابقين و تقديم الجديد الذي يتلاءم مع روح الدين الإسلامي و قيمه.

يقودنا المؤلف بعد ذلك إلى المدينة في التراث العلمي الإسلامي في الفصل الثاني من الكتاب، فهو هنا يبرز أحوال الإنسان في الاجتماع و الأسباب الموحية لاتخاذ المدن، فالاجتماع الإنساني فطرة مجبول عليها الإنسان للحصول علي منافعه في الدنيا و الآخرة، بدأت بالعجز الفطري الذي دفع إلى الخضوع للخالق و من ثم البحث عن الرزق، ثم التعاون لسد حاجات البعض للبعض لتنتهي إلى اتخاذ المدن، و هي الصورة الإنسانية للاستقرار المؤقت الذي يدوم بدوام الحياة و ينتهي عندما يرث الله عز و جل و من عليها.

المؤلف عني أيضا بالتعرف علي أهمية المدينة عند علماء الحديث، فقد ربط علماء الحديث بالمن، فحينما تذكر مدينة بمعالمها و يذكر معها علماء الحديث بها و طبقاتهم، أما المدينة عند الفقهاء فقد اهتموا بأحكام البناء بها، كما كان لهم دور كبير في صياغة أحكام الأوقاف التي كان لها دور فاعل في نمو المدن.

استطرد المؤلف في هذا الفصل في رؤية الجغرافيين المسلمين للمدينة، الذين درسوا المدن وفق قالبين منهجيين الأول منهج دراسة المدن من الخارج، والثاني منهج دراسة المدن من الداخل، ويندرج تحت المنهج الأول كتب الزيوج والجداول الجغرافية، وهي الكتب التي تحدد مواقع المدن باستخدام مخطوط الطول ودوائر العرض.

أما منهج دراسة المدن من الداخل فيندرج تحت كتب الخطط كما هو في الكتب التي وضعت عن خطط مصر منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري مثل ما كتبه ابن عبد الحكم والكندي والمقريزي والأخير وضع دراسة مفصلة مشهورة لخطط مصر. ويندرج تحت هذا المنهج الكتب التي أفردت لتواريخ المدن الكبرى كمكة المكرمة وبغداد ودمشق، وكتب الرحلات الجغرافية، وكتب الحضارة والعمران وهذه تبحث في مدينة العرب وأحوال البوادي والأرياف وعن خصائص مواقع ومواضع المدن وضوابطها البشرية والطبيعية وعوامل قيامها وزوالها ومن أشهرها مقدمة ابن خلدون.

أفرد المؤلف هذا الفصل لدراسة تحليلية مفصلة لشروط اختيار مواقع المدن وصفات مواضعها، فابن خلدون يري أن من شروط اختيار المدن، أن تحاط بسور يدفع المضار، أن تحتل موضعا ممتنعا من الأمكنة علي هضبة أو علي نهر أو باستدارة بحر، مراعاة اتخاذ الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء للسلامة من الأمراض. جلب الماء بأن يكون البلد علي نهر أو بإزائه عيون عذبة. طيب المراعي لسائمتهم.

مراعاة المزارع فان الزروع هي الأقوات. يري ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك في طبائع الملك، الذي يعد أول من تناول مقدمة ابن خلدون بالشرح، أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمان: دفع المضار، و جلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية و دفعها بإدارة سياج السور علي المدينة، و وضعها في مكان ممتنع، إما علي هضبة متوعرة من الجبل، و إما باستدارة بحر أو نهر حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور علي جسر أو قنطرة فيصعب منالها علي العدو، و النوع الثاني من المضار سماوي و دفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لن ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياها فاسدة، أو منافع متعفنة أو مروجا خبيثة يسرع المرض فيها للحيوان الكائن فيه لا محالة. و يكشف عن أن هناك علاقة طردية بين كثرة ساكني البلد و حركة الهواء فيها، و يضرب لذلك مثلا بفاس التي كانت عند استبحار العمران بأفريقية كثيرة السكان فكان ذلك معينا علي تموج الهواء و تخفيف الأذى عنه، و عندما خف ساكنوها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن و المرض.

والأصل الثاني جلب المنافع، و هو يتأتي بمراعاة أمور منها، توفر الماء و قرب المزارع الطيبة لأن الزرع هو القوت، و لا خفاء في أن هذه الأمور تتفاوت بحسب الحاجة و ما تدعو إليه ضرورة السكان.

اختتم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن طرق المواصلات بين المدن الإسلامية و خاصة بين المدن ذات الصفة التجارية، حيث أقيمت الخانات علي الطرق لأمين راحة التجار و الدواب.

ينتقل المؤلف بنا إلى الفصل الثالث الذي يتناول فيه مكونات المدن الإسلامية، هذا الفصل الثري و الذي تتشعب موضوعاته، و هو ما يدفعنا أن نركز علي بعضها، ففي دراسته عن الحياء السكنية يري أن تخطيطها يكشف عن قانون متماسك، لتتابع سلسلة هرمية لكل من المآوي و المداخل، تستجيب لنماذج من العلاقات الاجتماعية ترتبط بخصوصية المجتمع الإسلامي. فنظام المدينة الإسلامية هو نتيجة طبيعية للتوازن بين التجانس و التبيان الاجتماعي، في نظام اجتماعي يتطلب كلا من: فصل الحياة السرية، و المشاركة في الحياة الاقتصادية و الدينية للمجتمع، و م ثم تشكلت المدينة من نظام يقوم علي تقسيم المدينة من حيث التخطيط إلى ثلاث مستويات هي:-

- الأماكن العامة: و هي التي تقع علي جانبي الشارع الرئيسي للمدينة و تشمل الأسواق المركزية، و المتاجر الكبرى المغطاة و المكشوفة، و ورش المهنيين، و الحمامات و ما إليها.

- الأماكن نصف العامة: و هي التي تقع علي جانبي الشوارع المركزية للأحياء و التي تتفرع من الشارع الرئيسي للمدينة، و يتخللها بعض المباني السكنية.

- الأماكن الخاصة: و هي التي تقع علي امتداد الحواري و المسالك المسدودة الضيقة أو المنعطفات، والتي تتفرع من الشوارع المركزية للأحياء.

لاحظ المؤلف من خلال دراسته وجود مظاهر للخصوصية في الصورة العامة للمدينة منها: التزام مباني الأحياء بارتفاع يكاد يكون ثابتا فيما عدا المساجد. تعدد الأفنية ة تداخلها بين مجموعات المباني و في المباني لاستقطاب حياة الناس إلى الداخل، انسياب السواق المغطاة و امتدادها خلال الكتلة العمرانية للمدينة، مشكلة محاور للحركة و لتلاقي السكان بين الأحياء المختلفة. تلاحم الأحياء المختلفة و المباني بعضها ببعض، معبرة عن التلاحم و الترابط الاجتماعي في المدينة.

تشعب مسارات الشوارع و الدروب و الطرقات في خطوط ملتوية منها أيضا شجيرات من المسالك المقفولة لتوفير الحماية للمدينة.

إن ما يلفت الانتباه بين ثنايا هذا الفصل اهتمام المؤلف بالرباع و الرباع هي منازل بنيت طبقات فوق بعضها يحتل الطابق الأول منها محلات تجارية و ورش للصناع، كانت تؤجر لسكن الفقراء و أشهرها ربع السكرية في القاهرة. و نراه يعرج علي المكتبات العامة التي اهتم بها الخلفاء و السلاطين و الملوك، و كانوا يتباهون بما يجمعون فيها من كتب مخطوطة، و ينفقون عليها ببذخ شديد، فانتشرت خزائن الكتب من نجاري إلى فاس و قرطبة، كان يعمل بكل مكتبة موظفون يرأسهم الخازن و هو أمين المكتبة و الذي كان يختار من أهل العلم و المكانة، و من أشهر خزائن المكتبات سهل بن هارون و ابن مسكويه و أبو سيف الأسفرايني، كان بكل مكتبة عدد من الناسخين و المترجمين و المجلدين، بالإضافة إلى عدد من المناولين الذين يحضرون الكتب.

ومن المنشآت الأخرى التي اهتم بها المؤلف دور الضيافة، فقد اشتهر العرب بكرمهم، و حسن استقبالهم للضيف، و حث الإسلام علي إكرام الضيف و بصفة خاصة أبناء السبيل، تنقسم دور الضيافة إلي ثلاثة أنواع، النوع الأول دور الضيافة العامة و من أشهرها دار مدينة بولعوان بالمغرب التي شادها أهالي المدينة لتكون دار ضيافة يستضاف فيها الذين يمرون بالمدينة بالمجان.

والنوع الثاني من الدور، هو دور ضيافة الحجاج التي انتشرت بكثرة في مدن العالم الإسلامي علي طرق الحج، و من أشهرها دار ضيافة الحجاج ببغداد. و النوع الثالث دور الضيافة الرمضانية، و التي كان يقدم بها الطعام للفقراء.

ومن الموضوعات المثيرة للجدل في هذا الفصل موارد المياه، فالماء عصب الحياة و عامل لنشوء الحضارات، في حالة توفره، كما انه عوامل انتهائها في حالة ندرته، فعندما لا تتوفر في مدينة ما أسباب الزرع و تربية الحيوان، فإنها لا تلبث أن تضمحل و تنتهي و الأمثلة علي ذلك كثيرة، فمدينة العمار في صحراء راجاسان بالهند، فقدت أهميتها و هجرت نتيجة لنقص الماء. لذا فقد حرص الخلفاء العباسيون علي توفير المياه لعاصمتهم بغداد فأقيمت في عهد المنصور قناة تأخذ مياهها من كرخايا أحد روافد الفرات، و تجري في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالآجر من أعلاها، و استخدمت أساليب أكثر تركيبا مثل إمداد مدريد بالمياه بواسطة القنوات الجوفية و التي تجلب المياه من أماكن بعيدة.

أما المراصد الفلكية فقد عدها المؤلف من المنشآت المعمارية التي انتشرت في المدن الإسلامية، كان لها دور هام في تقدم علم الفلك عند المسلمين، و أبرز هذه المراصد، مرصد مراغة، بني المرصد خارج المدينة، و قد أنشأه مانجو فان أخو هولاكو في القرن السابع الهجري، و يعد مرصد مراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف، إذ وقفت عليه عقارات و أراضي، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به.

ربط المؤلف أيضا كل هذا بجماليات المكان من خلال تعرضه للحدائق في المدن الإسلامية خاصة حدائق الهند المغولية و حدائق المدلس.

أما الفصل الرابع من الكتاب فيقدم تلك الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة لتنشيط الوعي بأهمية التراث الحضاري و المعماري للمدن الإسلامية، طارحا و مناقشا قضايا الحداثة و العولمة في المدن، و المحافظة علي المدن القديمة، ثمن المؤلف في هذا المضمار جهود منظمة المدن العربية التي أسست في الكويت سنة 1967 م موضحا أهدافها و دورها، كما تعرض للمؤسسات التابعة لها كمعهد إنماء المدن في الرياض و الذي يقوم بتدريب الكوادر البشرية لرفع مستوي الداء في مختلف قطاعات المدن، فضلا عن إجراء البحوث و الاستشارات و توثيق التراث.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/آب/2009 - 21/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م