التاريخ يشهد بأنّ الشعب الفلسطيني والكُردي، ويليهما المواطنون
السود في جنوب أفريقيا، ومسلمو يوغسلافيا السابقة في بوسنا وكوسوفا هم
أكثر الشعوب التي عانت الظلم والقهر والتهجير، ومُورِست بحقهم جميعاً
جرائم الإبادة الجماعية، وسياسات الفصل العنصري، والتطهير العرقي.
نالت الشعوب المذكورة حريتها واستقلالها، بينما ظلّ الشعب الفلسطيني
يرزح حتى هذه الساعة تحت نير الاحتلال. ليست كُردستان العراق وحدها من
سُمِّيت بمنطقة الجراحات والآلام والكرب والبلاء، بل العراق كله - في
ظلّ حكم البعث الإجرامي - أصبح في كربٍ وبلاء. كلّما تصفّحت تاريخ
الشعب الكُردي، كلّما وجدت حوادث محزنة تقشعرّ لها الأبدان. التاريخ
يشهد بأنّ هذا الشعب الجريح بنضاله الطويل قد وقع بين مطرقة الحكومة
المركزية وجرائمها وسندان الخلافات الداخلية والمشاحنات الحزبية
والعشائرية، وأما الحساسيات القومية التي تُثار بين الحين والآخر نتيجة
وجود قوميات غير كُردية في شمال العراق فتلك مصيبة أخرى من مصائب
العراق الذي يئنّ بسببها، والذي كان للنظام السابق أيضًا دور في خلقها.
أكبر الجرائم على الشعب الُكردي وقعت عام 1988، حيث فاجعة مدينة
(حلبجة) التي أُبِيد سكانها بفعل الأسلحة الكيماوية التي استخدمتها
قوات النظام البعثي، وحوادث (الأنفال) التي وقعت في ثمان مناطق كُردية،
وراح ضحيّتها أكثر من 150 ألف مواطن كُردي.
في عام 2007 أصدرت المحكمة الجنائية العراقية أحكاماً بإعدام علي
حسن مجيد الملقب بـ”علي الكيماوي”، ووزير الدفاع، وكذلك معاون رئيس
هيئة أركان الجيش العراقي في عهد صدام بارتكابهم إبادة جماعية وجرائم
ضد الإنسانية بحق الشعب الكُردي.
اليوم إقليم كُردستان العراق ينعم بالأمن والاستقرار، وتزدهر فيه
الديمقراطية، ويشهد تطورًا اقتصاديًا سريعًا رغم وجود خلافات بين
الحكومة المحلية والحكومة العراقية حول صلاحيات الحكومة المركزية التي
يطالب رئيس الوزراء نوري المالكي بإعادة النّظر فيها، وكذلك الخلاف حول
تقسيم عوائد النفط، والعقود النفطية التي تبرمها حكومة كُردستان مع
الشركات الأجنبية، إضافة إلى مسألة كركوك التي ظلّت عالقة، وباتت تؤرّق
جميع الطوائف والأقليات التي تقطن المدينة.
هذا الإقليم حُرم لعقود طويلة من إجراء انتخابات حرة ونزيهة، فما
كان يقوم به النظام البعثي هو إجراء انتخابات شكلية لما يسمى “المجلس
التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي بشمال العراق”؛ فقد كان معظم أعضائه
معيّنين سلفاً من قبل النظام البعثي. في الأسبوع الماضي شهدت كُردستان
حراكاً انتخابياً جميلاً، تنافس فيه 24 كياناً سياسياً على 111 مقعداً
لبرلمان كُردستان، كما تنافس خمسة مرشحين على رئاسة الإقليم، وكما كان
متوقعًا فقد فاز مسعود بارزاني مجدداً بالرئاسة.
القائمة الكُردستانية التي تضم الحزبين الرئيسيين، وهما “الحزب
الديمقراطي الكُردستاني” بزعامة مسعود بارزاني رئيس إقليم كُردستان،
و”الاتحاد الوطني الكُردستاني” بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني ..
هذه القائمة القويّة خاضت المعركة الانتخابية تحت شعار “التجديد
والإعمار”، وأحرزت 63 مقعداً من مجموع المقاعد.
بعد سقوط نظام البعث أجمعت إرادة الكيانات السياسية، خاصة المنضوية
تحت تشكيلة “الائتلاف العراقي الموحد” على مكافأة الأكراد على
تضحياتهم ونضالهم، وقرروا منح إقليمهم استقلالاً واسعًا وفقاً للدستور
العراقي الجديد. وهذا يعتبر أول وأكبر اعتراف رسمي وشعبي بحقوق
الأكراد. وتقديراً لهم؛ فقد توافقت الزعامات السياسية على منح شخصية
كُردية تولّي رئاسة الجمهورية في النظام العراقي الجديد.
المتعصّبون العرب في خارج العراق، والذين تعاطفوا دهراً مع نظام
صدام في جرائمه بحقّ الطوائف والأعراق العراقية، والذين ساهموا في صبّ
الزيت على النار الطائفي والعرقي في العراق، استعصى عليهم مشاهدة ما
ناله الأكراد من استحقاقات في العهد الجديد، فدأبت أقلامهم على التشكيك
في وطنية الأكراد، واتهامهم بالعمالة للأجنبي، ورغبتهم في الانفصال عن
وطنهم العراق. لهؤلاء الحاقدين والمتربصين بالشعب العراقي وخيراته،
خاصّة من القوميين المتعصّبين والطامعين وبعض دول الجوار التي تحرّك
خيوطها لتفتيت القوى السياسية قبيل الانتخابات البرلمانية القادمة،
نقول لهم جميعاً: موتوا بغيظكم، فالأكراد قرّروا التمسك بهويّتهم
وثقافتهم القومية، والبقاء ضمن كيان العراق الواحد الموحّد، والعيش
المشترك مع بقية إخوانهم من القوميات والطوائف. |