لعل أفضل تعريف للإسلام بكلمة واحدة نقول: الإسلام يعني الحياة.
فالإسلام هو دين بناء الحياة بالعلم والوعي والتنمية والعمران، هدفه
استصلاح أمر العباد بانتشالهم من وحل الجهل ومشكلة الفقر، وأزمة
الحرمان، ومخالب الظلم والظالمين، هدفه عمارة البلاد ببناء مشروعات
التنمية الاقتصادية، واستثمار الموارد الطبيعية وتطوير أساليب الإنتاج
ضمن خطط مدروسة تواكب مستجدات التطور التقني، والنهضة العلمية الصناعية
والزراعية والتجارية، ليعيش العباد في سعادة وأمن ورفاهية، يقول الله
سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله
وللرسول إذا ما دعاكم لما يحييكم ..)[1].
ويركز الإسلام في بناء الحياة، وإدامة مشروعه النهضوي والتنموي على
محور الحياة وجوهر الوجود وهو الإنسان، كنقطة ارتكاز للانطلاق نحو
إقامة الحياة الطموحة، فيعتني الإسلام بصياغة الإنسان – خليفة الله على
الأرض – صياغة متوازنة، تكشف عن نقاط القوة والضعف في شخصيته التكوينية،
وأثر محيطه وبيئته على تربيته وتطلعاته، لتتم عملية التزكية للنفس
وتطهيرها من الشوائب الكامنة فيها، والعالقة العارضة عليها إثر
الاحتكاك والتأثر بالمحيط السلبي، حيث تتفاعل مع الترسبات بالخلقة
لتزيد الأمر تعقيداً في تراكم الحالة السلبية، وهنا يأتي دور الإنسان
ومدى إيمانه بحكمة الله سبحانه وعدله، ليخوض تجربته الإمتحانية
والابتلائية في الحياة بنجاح، يقول الله سبحانه: (ونفسٍ وما سواها
فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها.....)[2].
وسر النجاح يكمن في جعل حركته الإنمائية ضمن دائرة الالتزام الواعي
بالشريعة.
إن هذا التركيز على تربية الإنسان في بنائه النفسي يعتبر تتويجاً
للفطرة الإنسانية السليمة، والنجاح في هذه العملية ذات الأهمية الكبرى
يعني بناء الأساس الفولاذي المتين الذي يقوم عليه بناء الحياة
الاجتماعية السعيدة، والحياة الاقتصادية العامرة بالغايات النبيلة،
والاهتمامات المتوازنة، والخيارات السوية، وذلك لأن السيطرة على
الغرائز النفسية بتهذيب تطلعاتها وتوجيه طموحاتها تدخل الإنسان
والمجتمع إلى عالم العزّة والكرامة والتنمية والسعادة بثقة واطمئنان،
لذلك يقول الإمام علي عليه السلام في صدد تربية النفس – منطلق بناء
الحياة- بتصميم شجاع وتدبير محكم.
(وأيم الله يميناً لأَرُوضَنَّ نفسي رياضةً تهِشُّ معها إلى القرص
إذا قدرتْ عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولأدعَنّ مقلَتي كعينِ
ماءٍ، نَضَبَ معينُها، مستفرغةً دموعَها، أتمتلئ السائمة من رعيها
فتبرُك؟ وتشبع الربيضةُ من عشبها فتربِض؟ ويأكل عليٌّ من زاده فيهجَعْ
! قرّتْ إذاً عينُه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة،
والسائِمة المرعيّة..)[3]
عقبتان في طريق البناء:
العقبة الأولى:
تتلخص بالانبهار العام من قبل عموم المسلمين لبريق التقدم الصناعي
المادي، وما حققه من انجازات علمية وخدمية في عالم المعادن الصلبة،
ومما لاشكّ فيه إن هذه التطورات اعتنت بالإنسان في جانبه المادي فذللت
له صعاب الطبيعة وقربت البعيد، وعمّرت الحجر، إلا أن الإنسان بتكوينه
المزدوج من مادة وروح لا يمكن بناؤه من جانب واحد، لأنه سينمو في طرف
دون آخر، ويكون أعرجاً وحضارته عرجاء، وهذا ما نلمسه من الحضارة
المادية التي أهملت بناء الروح والمعنويات في شخصية الإنسان، والحقيقة
إن الإنسان بخلقته المزدوجة من جوهر ومظهر، بل إنما أساس حركته
المظهرية تستند إلى روحه وعقله وقيمه، فالبناء المادي مهما بلغ في
تطوره إنما يعبر عن حضارة بلا روح ولا قلب ولا مشاعر، فيتحول إلى كائن
حي يلهث وراء تحقيق لذاته وغرائزه بأية صورة وجدت، لا تحدّها حدود
القيم وخلقية الانضباط وسلوكية الالتزام العرفي أو الشرعي.
إن لهذه الإنجازات بريق خادع يرسم سراب السعادة الشكلية – الظاهرية،
فيتسلح بالقوة العسكرية حباً للتسلط على الآخرين والسيطرة على حقوقهم
ليزداد المحرومين حرماناً والفقراء فقراً والبؤساء بؤساً، فيقول الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام ضمن رسالة إلى أحد عماله:
(فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعْتَ الكرّة وعاجلْتَ الوثبة،
واختطفتَ ما قدرْتَ عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف
الذئب الأزل دامية المعزى الكسيرة...)[4].
العقبة الثانية: ابتلاء المسلمين بالقراءة المغلوطة للشريعة السمحاء،
والحق أن الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، فلا وحي بعد القرآن
الكريم والرسول المصطفى محمد (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين.
يقول الله سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينا)[5].
هذه الرسالة الخاتمة أرادها الله أن تكون الحاكمة في الحياة حتى
تقوم الساعة.
حيث يقول عز وجل: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس
بما أراك الله)[6].
هذه الرسالة الخاتمة الحاكمة لابدّ أن تحمل ضمانات البقاء
والاستمرار بالشكل الذي أرادها الله سبحانه وتعالى وطبقها الرسول
والأئمة الكرام عليهم السلام حتى قيام الساعة وبكلمات مختصرة نعتقد بأن
الله سبحانه حفظ القرآن الكريم من محاولات التحريف والتبديل حيث قال: (إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[7].
هذا الأصل الأول، أما الأصل الثاني- السنة النبوية الشريفة- فقد
حفظت عند أئمة الهدى من أهل البيت (ع)، لذلك ضمن الرسول صلى الله عليه
وآله النجاة بإتباعهم بقوله: (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من
ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)[8]،
فهم ضمانة بقاء الاستقامة والأصالة للشريعة، وما يصدر عنهم إنما هو
امتداد لسنة النبي (ص) وحجة على العباد، تقول سيدتنا فاطمة الزهراء
عليها السلام في خطبتها الشهيرة: (وإطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا
أماناً للفرقة)[9].
والابتلاء اليوم بالقراءات المغلوطة التي تفسر القرآن برأي أصحابها
وهواهم، فتعكس الحقائق وتقلب الموازين كما فعل الخوارج مع سيدنا
وإمامنا علي عليه السلام، فتنطلق في مسيرة الاعتداء على الحقوق باسم
الإسلام والجهاد، وتشيع في الأرض فساداً وخراباً وناراً ودماراً تحت
شعار الجهاد، فتتحول إلى مشروع فتنة تبيح دماء الآمنين وممتلكاتهم
لتورث الأمة ويلات الضعف والهزيمة، وفي الوقت ذاته تقدم خدمة مجانية
لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر.
إن هاتين العقبتين- بريق التطور المادي والصناعي من الخارج، وشيوع
الفكر الظلامي والتكفيري الهدّام من الداخل- وما بينهما من تنسيق
وترابط تزوّدان الأمة ثقافة عدم الثقة بالحل الإسلامي العادل حيث تحصر
الإسلام في زوايا العبادة والتربية الروحية بل تدفع المسلم للاستسلام
أمام المشكلات العصرية فيفضل الموت على الحياة، وانتظار ساعة النزول
إلى القبر على شحذ الطاقات والهمم لتعمير الدنيا!! وبالنتيجة تكون
الضحية هي الأمة حيث ستصاب بالمشكلات والأزمات من أبرزها الفقر والبؤس
والاستضعاف والمسكنة.
هنا يتلمس الطامحون لنهضة الأمة عطاء المصلحين، هنا يبرز دور
العلماء الواعين لإنارة طريق البناء، هنا تأتي ضرورة اللجوء إلى مدرسة
النجاة وشمس الحرية ونور الكرامة، هنا في معالجات الإمام علي عليه
السلام نكتشف روح التحدي البنّاء، والتصميم الحازم على يديه الكريمتين
ونهجه القويم حيث استلم الأمة وهي تعيش أعباء الفقر والبطالة وسوء
التوزيع وتكديس الأموال والقراءة الأمية للشريعة، ونحن اليوم إذ ندق
جرس الإنذار، نقف بإذعان وأدب لنستلهم الدروس ونتزود من بركات الإمام
العادل أنموذج التطبيق الواعي للإسلام.
فقدم للأمة معالجاته الفذة التي جسّدت إرادة الحق في حاكمية الرسالة،
فجاءت تعاليمه كبلاسم الشفاء لجراح المعْدمين والفقراء والمعوزين، حيث
سياسة العدل والمساواة المقترنة بصورة استثنائية مع زهده وصلابته، تلك
الصورة الرائعة في ظروفها القاسية شكّلت صورة القدوة الحسنة لحياة
المسلمين في كل عصر ومصر بعد رسول الله (ص).
لذلك حزن البرجوازيون من اجراءاته، وتألم الانتهازيون من تعاليمه،
وبكى المصلحيون على دنياهم من عدله، فسارعوا للخروج عليه والتآمر على
نهجه، لكنه يبقى رغم ذلك النهج القويم الذي يحمي الإنسان في عصر سَحْق
الكرامات، فلقد بنى للأمة مجداً عظيماً – انطلاقاً من القرآن والسنة
وعلمه- فأعاد الثقة بالإسلام باعتباره دين الحياة، وبالإنسان باعتباره
جوهر الحياة، وبفكره الاصلاحي والتغييري باعتباره إمام المسلمين، فبنى
حضارة الإسلام قاهراً للفقر، مبعداً للمسكنة، داحراً لليأس، وكأنه
اليوم وعلى ضوء العقبتين المشار إليهما- يعاصر أزمتنا ويوضح طريق
الخلاص، مؤكداً على أن الحضارة المادية سقطت في أزمة تأليه المال
والقوة والسلطة، وعبدت الشهوة واللذة، متنكرة ألوهية الخالق المبدع
الكريم، فتحوّل الإنسان إلى آلة داخل منظومة العمل والإنتاج، مفرّغاً
من القيم والأحاسيس النبيلة والمشاعر الإنسانية، وبالتالي تمّ استغلال
الإنسان وعقله وطاقاته تحت هذا البريق الخادع وكذلك سحقت كرامة الإنسان
في ظل الممارسات العنفية للفكر التضليلي التكفيري الهدّام، تقتله
العصبية الباطلة، وبالتالي استبيحت الحرمات وأريقت الدماء وغصبت الحقوق
واحتلت البلدان، إنها بحق فضيحة الحضارة المادية، وبالنتيجة تفرز
إنساناً متعباً ومجتمعاً مرتبكاً ينوء من ثقل أطنان من الأزمات الخانقة
لحياته وكرامته أبرزها مشكلة الفقر واليأس والإحباط.
الإمام علي عليه السلام يفكك لنا تلك الأزمة القاتلة عقدة عقدة في
منهجية علمية رائدة، ما أحوج الأمة الإسلامية بل البشرية إليها.
معنى الفقر وأثره في الحياة:
المعنى اللغوي:
قال تعالى: (فظنّ أن يفعل بها فاقره)[10].
الفاقرة: هي الداهية، يقال: فقرته الفاقرة أي كسرت فقار ظهره،
والفقير عند العرب: المحتاج والمسكين من جهة الذلة، فإن كان من جهة
الفقر فهو فقير مسكين وحلّت له الصدقة، وإن كان لغير الفقر فلا تحل له،
... الفقير مأخوذ من كسر الفَقار من شدة الحاجة[11].
أما المعنى الشرعي للفقير:
فهو الذي تقصُر أمواله عن مؤونة سنته[12]، وتعني المؤونة المصرف
لنفسه وذوي نفقته الواجبة، أكلاً ولباساً ومسكناً وسفراً وتداوياً
للمرض وهدايا في الموارد التي تقتضي مكانته ذلك، هذا هو معنى الفقير في
الإسلام.
أما الاصطلاح الاجتماعي:
فالفقير هو العاجز عن تلبية حاجيات المعيشة لنفسه ولعياله إلى درجة
شديدة وكأنها كسرت فقرات ظهره فلا يقدر أن يلبي طلبات نفسه وأسرته
فيلجأ إلى طلب العون من الآخرين.
أثر الفقر:
يعدّ الفقر وباءاً نفسياً واجتماعياً ولو استفحل في الحياة أدى إلى
ضياع القيم والدين فضلاً عن تلويث الفطرة وانتزاع الرحمة والعطف من
الإنسان.
إن انتشار الفقر يعني انتشار الظلم الاجتماعي بهيمنة أصحاب رؤوس
الأموال على القانون وطاقات الإنسان وبذلك تزداد نسبة القلق النفسي
والاضطراب الاجتماعي، ومعنى ذلك تفشي الفساد الخلقي وشيوع الاستغلال
للضعفاء وانتشار الرشاوى، ومعنى ذلك – أيضاً- توسع ظاهرة الأمية والجهل
وتقليص فرص التعليم، فتتحجم المواهب الخلاقة الساعية للبناء والعمران
ويصطدم واقع حياة الفقراء بجدار اليأس، فتنزلق طموحاتهم إلى الخيال
والسراب فتأخذ الخرافة والسحر والشعوذة وكذلك المخدرات سبيلها إلى
أوساطهم لتعويضهم بالأحلام عن دنياهم الفاضلة، وبذلك تزداد نسبة
الجريمة والسرقة والاعتداء والقتل والخيانة بشكل عجيب.
فالأثر ليس على مستوى السلوك الشخصي فقط، بل يتعدى نحو التعامل
الاجتماعي والاقتصادي، بل ينال الجانب العقلي والثقافي فيتحول إلى وباء
مدمّر، ومرض فتاك يردي المجتمع إلى حفرة اليأس والقنوط والإحباط
والتقهقر، فتكون الجريمة في نظره عادية، والاعتداء أمراً طبيعياً،
والجنون شأناً مألوفاً.
إن الفقر مشكلة قديمة حديثة لو لم تعالج تنال صميم الإنسان فيتحول
إلى كائن حي يألف الجريمة لغرض إشباع حاجته، فلا يفهم معنى للإنسانية
والكرامة والأخوة والعواطف، مشكلة الفقر تعد من الابتلاءات العسيرة
التي يُمتحن الإنسانُ بها لذلك تعوّذ الرسول الكريم من الفقر، وقال
الإمام علي عليه السلام لولده الحسن عليه السلام:
(يا بني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصةٌ
للدين، مدهشةٌ للعقل، داعية للمقت...)[13]
إن الفقر من أعظم المصائب والكوارث في حياة البشر، لذلك قيل: كاد
الفقر أن يكون كفراً، وإذا دخل الفقر بلداً قال للكفر خذني معك.
وقال الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري: (عجبت من لا يجد قوت يومه كيف
لا يخرج إلى الناس شاهراً سيفه).
لذلك يعده الإمام علي عليه السلام بمثابة الموت البطيء الذي يصيب
الإنسان والأمة وهذا النوع من الموت هو الموت الأعظم في الحياة حيث
يقول: (الفقر الموت الأكبر)[14].
لأن الإنسان في حالة الفقر لو استفحل في وضعه يمشي بجسده ولكنه ميت
بروحه وكيانه وكرامته بل وعقله أيضاً، فلذلك يقول أمير المؤمنين عليه
السلام: (الفقر يخرس الفطن عن حجته)[15] فلا يمتلك الشجاعة في إبداء
رأيه وموقفه، بل إن عقله يتعطل عن الاستجابة للكرامة والحرية لشدة ما
يشعر من نقص ذاتي وذلة داخلية تغطّي المعاني الايجابية في تكوينه
وشخصيته.
أسباب ظهور آفة الفقر:
لقد اصطدمت النظريتان المشهورتان (الرأسمالية والماركسية) بصخرة
الفطرة الإنسانية عند التطبيق وذلك لخطأ تشخيص أسباب الفقر وطرق
معالجتها، وباختصار لقد انتزعت الرأسمالية معاني القيم والمثل والأخلاق
والعواطف في تعاملها، مادام الهدف استحصال أكبر قدر ممكن من المال
وتكديس الثروة عبر أية خطوة منتجة على المستوى التقني أو الخدمي، فلذلك
عمّرت الحجر وطوّرت الصناعات ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تلبية حاجات
الإنسان الفطرية التي تنطلق من أحاسيس الأخوة وعواطف المودة، ففي الوقت
الذي ألّهت فيه المال عمدت على طمس نور البصيرة الفطرية في الذات،
فاصطدمت بصخرة الفطرة، ومع ما جرى من تلويثها إلا أنها بقيت عصيّة أمام
سياسة الإلغاء، فبعد تحرير الإنسان من قيود الفطرة ونظم الحياة
الأخلاقية، زُج بإفراط لاشباع لذاته وغرائزه بشتى الطرق والأساليب،
وبعد ذلك عاد الإنسان لحيرته الأولى بصورة أدق يبحث عن السعادة في
حياته، ولسان حاله يقول: ماذا بعد؟ وأين السعادة؟ إنها نداءات الفطرة،
يقول سبحانه وتعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق
الله ..)[16].
إن اللهاث المادي الذي أصاب الإنسان بحثاً عن رزقه وتطوير حياته على
ضوء النظرية الرأسمالية كانت ضحيته الكبرى القيم ومعاني العزة والشرف
والكرامة، ويخطأ من يظن أنه لوحده قادر على ترتيب رزقه وتطوير حياته
دون رعاية من الخالق الكريم الذي خلق الإنسان وتكفل برزقه شرط حركته
وسعيه.
نقرأ في دعاء شهر رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله
ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة..)[17].
أما النظرية الماركسية المادية التي تحاول إسعاف الطبقة الكادحة
البائسة عبر الاستيلاء على مصادر الإنتاج لتتحقق العدالة والمساواة بين
الناس، لا بتطوير الفقير إلى الغنى، وإنما بتضعيف الغني ليصبح كالآخرين
فقيراً ومن ثم تكون الطبقة السياسية الحاكمة شيئاً فشيئاً هي صاحبة
السلطة والنفوذ والغنى، وبذلك اصطدمت هي الأخرى عملياً بجدار الفطرة
الإنسانية رغم محاولات تلويثه بالانحراف السلوكي والخلقي، فتقهقرت تلك
النظرية ولكن يسعى أصحابها بإتباع السياسة الترقيعية لغرض تجميلها
وتسويقها ثانيةً.
ويأتي الإسلام هذا الدين الرباني الذي يتوّج الفطرة الإنسانية
ويدعمها لتنمو بشكل طبيعي في الحياة لغرض البناء والتطوير، فهو يدعم
الملكية الفردية ويشجع على تنميتها لكن بالطرق المشروعة التي تضمن
احترام الحقوق وكرامة الإنسان ورعاية البيئة والحيوان والنبات، الإسلام
يعالج مشكلة الفقر، فيوزّع المسؤوليات على الدولة والأغنياء والفقراء
ليتم التفاعل والتعاون عبر قنوات الإصلاح والأخلاق والواجبات لينتشل
الفقير من بؤسه دون منّة من أحد عليه، لأن هذه المعالجة الواعية تعمّ
بخيراتها على حياة الجميع.
أسباب ظهور وانتشار الفقر:
1- نتاج النظم الاقتصادية النابعة عن تصورات البشر، سواء كانت
رأسمالية أو ماركسية أو مختلطة وهذا ما أشرنا إليه أنفاً، والمعالجة
الإنسانية التي تقدمها هذه النظم نادرة وبسيطة لا تعالج أزمة مستفحلة
وعميقة الجذور، وهذه النقطة توضع في إطار ظلم الإنسان لنفسه (وما
ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)[18].
2- ادعاء أن الفقر ناتج عن ضعف عطاء الطبيعة في قلّة الأرزاق ادعاء
باطل، لأننا نؤمن بأن الله سبحانه هو الخالق لعباده وهو الذي يضمن
رزقهم، فالأرزاق مضمونة لكل الأحياء في هذا الكون، ورحمته وكرمه وعطاؤه
للجميع.
يقول الإمام علي عليه السلام: (الحمد لله الذي لا يفِرُهُ المنع
والجمود، ولا يُكديه الإعطاء والجود.... وهو المنّان بفوائد النعم،
وعوائد المزيد والقِسَم، عياله الخلائق، ضَمِن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم،
ونهجَ سبيل الراغبين إليه....)[19]. فهو الخالق المدبر الكفيل بأرزاق
العباد.
يقول العلامة البحراني في شرحه: ولا ينقصه عطاؤه وجوده........
وفي أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام: (يا من لا يزيده كثرة
العطاء إلا كرماً وجوداً)، وفيه سر لطيف فإنه لما كان جوده سبحانه غير
متوقف إلا على وجود الاستحقاق، وكانت كلُّ نعمة صدرت عنه معدّةً لمحلها
ومهيئة له لقبول نعمة أخرى كانت كثرة عطائه مستلزمة لكثرة الإعداد
المستلزمة لزيادة الجود)[20]، وفي كلمة (ضمن أرزاقهم) معاني الضمان
الحياتي للعيال بما يصلح حالهم في الدنيا - كما لا يخفى-.
3- ومن الأسباب، تكديس الأموال عند طبقة ثرية خاصة ولعلها من بطانة
الحاكم، فحسم الأمر بقوله عليه السلام في عهده للأشتر:
(ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامّتك قطيعة ولا يطمعنّ منك في اعتقاد
عقدةٍ تضر بمن يليها من الناس....)[21].
4- ضعف الإنفاق في مجالات البر والإحسان، يعود للحرص على الدنيا أو
للبخل وشدة حب الأموال وعدم الإحساس بضعفاء المجتمع، فقد قال عليه
السلام في العهد ذاته: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في
استجلاب الخراج)[22]، ثم حارب الاحتكار لحماية الفقراء – كما سنرى-.
إن تلك الخطوات المباركة لو تطبق اليوم لخرجت البشرية من عنق
الزجاجة الخانقة إلى رحاب الرفاه بعزة وكرامة.
خطوات المعالجة عند الإمام عليه السلام:
باشر الإمام منذ بداية عهده في إدارة شؤون المسلمين وغيرهم في إطار
الدولة الإسلامية، بوضع الحلول الجذرية لظاهرة الفقر التي عمّت البلاد،
وكانت بحق تركة ثقيلة ولكن الإمام بعلمه ودرايته وخطواته العلاجية
النابعة من القرآن الكريم والسنة النبوية وما يكتنزه من علوم وبصائر،
استطاع أن يقود الأمة في ثورة اقتصادية جذرية ضمن حركته الإصلاحية
العامة، فلقد حدد مسؤولية وواجبات كل من الدولة والحاكم والوالي وبيت
مال المسلمين، وكذلك واجبات وحقوق الأغنياء والفقراء والأمة عموماً،
وحينما قدّم برنامجه العادل لم يضعه في إطار النظرية والكلام وإنما جعل
سيرته الشخصية أكثر دقة في التطبيق وأشد وأقسى في إطار الإنفاق والصرف
والاستهلاك.
لذلك أصبح النموذج القدوة في العمل والنشاط كما في الصبر والإنفاق،
كما في المحاسبة والموازنة، لذلك خُلّدت سيرتُه لتكون الأبرز في صفحات
العدالة الإنسانية.
ويمكن حصر المعالجة في ثلاثة اتجاهات هي:
الاتجاه الأول: المعالجة الأخلاقية.
الاتجاه الثاني: المعالجة النفسية.
الاتجاه الثالث: المعالجة العملية الميدانية، للحد من البطالة
والفقر والحرمان.
وقبيل الدخول في بيان اتجاهات المعالجة، نشير إلى أهمية وعي التجربة
الحياتية لكل نظام وإنسان ومجتمع في هذه الدنيا، وذلك باعتبار الدنيا
هي دار ابتلاء وقاعة امتحان للبشر، ونحن لم نخلق عبثاً وإنما وراءنا
حساب وجزاء، ومن مظاهر الابتلاء مسألة الغنى والفقر، وتفاوت الأرزاق
والإمكانيات والطاقات الخاصة والعامة.
يقول عز وجل: (والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق..)[23].
فما دامت الدنيا دار اختبار، يفتح الإسلام باب التنافس نحو الخير
بين العباد باتجاه رعاية الفقراء والضعفاء والمحتاجين، وبجعل ذلك من
صفات النبل والسمو والكرم.
الاتجاه الأول/ المعالجة الأخلاقية:
يتوجه الإمام نحو طبقة الأثرياء بتوصيات عامة أولاً ثم يحدد
واجباتهم، وبالمقابل يوصي الفقراء ويحدد سلوكهم بشكل يضمن للطرفين
سلامة الفطرة بإبعادها عن التلوث في بواطن الإثم من الغش والكذب
والخداع، وفي الوقت ذاته يضمن المعيشة المقبولة للفقير الإنسان، وهذه
الخطوة الأساسية لا تنجح إلا عبر الترويض التربوي الشاق لكل من الغني
والفقير، بحيث يتحمل الغني مسؤوليته اتجاه الفقير، وبالمقابل يتحمل
الفقير هذا الامتحان في تذوق الحرمان دون أن يفقد توازنه، فهو مضمون
بالحدّ الأدنى ويستقي الرحمة بالصبر والدعاء والاستغفار حتى يصل إلى
الرضا بالقناعة والزهد كي يبقى متماسكاً في خُلُقه ومبدئه، إنه
الاختبار والابتلاء للطرفين.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال لبعض أصحابه: (أما تدخل السوق أما
ترى الفاكهة تباع والشيء مما تشتهيه؟
فقلت: بلى.
فقال: أما إنّ لك بكل ما تراه ولا تقدر على شرائه وتصبر عليه حسنة)[24].
وفي وصية أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمد بن الحنفية:
(يا بني ....الرزق رزقان، رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك،
فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك، وكفاك كلُّ يوم ما هو فيه، فإن تكن
السنةُ من عمرك فإن اللهَ عز وجل سيؤتيك في كل غدٍ بجديد ما قسم لك،
وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بغمٍّ وهمٍّ ما ليس لك؟ وأعلم أنه
لن يسبقَك إلى رزقك طالبٌ ولن يَغْلبَك عليه غالب ولن يحتجبَ عنك ما
قُدَّر لك...)[25].
وينسب هذا الشعر للإمام وهو يدعو لترك الحرص واللهاث الشديد نحو
المال فيقول:
دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من المال فلا تدري لمن تجمع
ولا تدري أفي أرضك أم في غيرها تُصرع
فإن الرزق مقسوم وحرص المرء لا ينفع
فقير كلُّ من يطمع غنيٌّ كلُّّ من يقنع[26]
وفي مهج الدعوات لإبن طاووس، عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه
السلام أنه قال: (من تعذر عليه رزقه وتغلقت عليه مذاهب المطالب في
معاشه ثم كتب له هذا الكلام في رقِّ ظبي أو قطعة من أدم وعلّقه عليه أو
جعله في بعض ثيابه التي يلبسها فلم يفارقْه وسّع الله رزقه وفتح عليه
أبوابَ المطالب في معاشه من حيث لا يحتسب وهو:
اللهم لا طاقةَ لفلان بن فلان بالجهد ولا صبرَ له على البلاء ولا
قوةَ له على الفقر والفاقة، اللهم فصلّ على محمد وآل محمد ولا تحظر على
فلان بن فلان رزقَك ولا تُقتّر عليه سعةَ ما عندك ولا تحرمْه فضلك....
ولا تكِلْه إلى خلقِك ولا إلى نفسِه فيعجزَ عنها ويضعُفَ عن القيام
فيما يصلحه ويصلَح ما قبله............
(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)[27].
وهكذا فإن الله سبحانه هو الضامن لرزق جميع المخلوقات فقد قال
سبحانه: (وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرّها
ومستودعها)[28].
فليطمئن العبدُ إلى الرزقِ المقسوم والعطاءِ الدائم النازل من الله
سبحانه وتعالى، وما يدريك إن زيادة الأرزاق الدنيوية في صالح العبد،
يقول الإمام عليه السلام:
(ولقد كان في رسول الله صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوئِ
الدنيا وعيوبِها، إذ جاعَ فيها مع خاصّته، وزُويتْ عنه زخافُها مع عظيم
زلفته، فلينظره ناظرٌ بعقله، أكرمَ الله محمداً بذلك أم أهانَه! فإن
قال: أهانه، فقد كذب- واللهِ العظيم- بالإفكِ العظيم، وإن قال: أكرمه،
فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس
منه)[29].
الاتجاه الثاني المعالجة النفسية:
ركّز الإمام عليه السلام على البناء النفسي على أساس الفضيلة
والتقوى وعالج من خلال هذا البناء القويم ظاهرة البخل وعدم الإنفاق،
والأنانية في التصرف والاحتكار والحرص والتبذير والإسراف لدى طبقة
الأغنياء، وبالمقابل قدّم طروحاته وتوصياته نحو طبقة الفقراء مؤكداً
على ضرورة القناعة والعفة والصبر وذم اللهاث نحو الدنيا، ومن
المعالجتين النفسيتين للطبقتين يستحصل الوفاق والترابط بفتح قنوات
التواصل بنسبةٍ تَحِدُّ من شدّة الفقر من ناحية ومن طغيان الغنى من
ناحية أخرى، كل ذلك عبر الترويض النفسي لاستيعاب صدمة الفقر ومواصلة
حالة التصدي الشجاع لتحمّل المشكلات والبحث عن الحلول.
والبداية تأتي من ترسيخ مبدأ القناعة والعفاف والكفاف إلى جانب
السعي الحثيث نحو التطوير واستحصال التقدم.
يقول الإمام علي عليه السلام: (ذَلّلْ نفسك بالطاعة وحَلِّّها
بالقناعة وخفضَنَّ في الطلب وأجملْ في المكتسب..)[30].
وعن الإمام علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من
لم يرضَ بما قسمه اللهُ له من الرزق وبثّ شكواه ولم يصبر ولم يحتسب لم
تُرفع له حسنةٌ ويلقى الله عز وجل وهو عليه غضبان إلا أن يتوب)[31].
وحتى ينظر الإنسان إلى الدنيا باعتبارها ليست الهدف الأكبر، يقول
الإمام عليه السلام: (من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير)[32].
وقال الإمام عليه السلام: (العَفافُ زينةُ الفقر، والشكر زينةُ
الغنى)[33]، و(لا ملك أذهب للفاقة من الرضا بالقنوع)[34].
الاتجاه الثالث المعالجة العملية الميدانية:
قد يتصور البعض بأن الإسلام دين يفضِّلُ حالة الفقر على الغنى ويحبذ
المسكنة والتصوف والرهبنة باعتبار كون الثروة المالية كلّما قلّتْ كان
الوقوفُ يوم الحساب أقل وأيسر، بينما الإسلام في حقيقة الأمر يربط بين
الدنيا والآخرة في وحدة حياتية تكاملية، وما ورد من الزهد والقناعة
والرضا بالقليل من باب ترسيخ حالة النقاء النفسي والالتزام المبدئي في
التعامل بعيداً عن حالة الغش والخداع والخيانة والكذب طلباً للإثراء
وسدّ الحاجيات ومواكبة الأغنياء بأية صورة متاحة.
يقول الإمام علي عليه السلام محدداً منهجه العملي الذي وضعه لواليه
على مصر محمد بن أبي بكر مبيّناً في رسالته حيويةَ الإسلام في البناء
والإبداع والعمران حيث يقول:
(واعلموا عبادَ الله أنّ المتقين ذهبوا بعاجلِ الدنيا وآجلِ الآخرة،
فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركوا أهلَ الدنيا في آخرتهم،
سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوها بأفضل ما أُكلت،... أصابوا لذةَ
زهدِ الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيرانُ الله غداً في آخرتهم...)[35].
إنها الطريقة المتزنة في استثمار أرزاق طيبات الحياة في بناء الدنيا
والآخرة، إنها الطريقة التي تعبر عن عين الذكاء والنباهة، فيعمل المؤمن
وينتفع من الدنيا كأنه يعيش فيها أبداً، ويوجه عمله لبناء آخرته كأنه
يموت غدا.
والحديث في هذا الاتجاه على المحورين الأساسيين في تكوين الحياة.
الأول: ما يتعلق بالفرد والمجتمع.
الثاني: المعالجة الإدارية، نظام بيت المال بوجود الدولة الإسلامية
أو المرجعية الدينية.
ما يتعلق بالفرد والمجتمع:
ففي إطار المعالجة العملية يهذّب الإسلام غريزة (حب الذات) ليتوجه
الإنسان إلى حب الآخرين كما يحب نفسه، فيربي النفس على مبدأ البذل
والعطاء- على مستوى الوجوب أو الاستحباب- فتسود أخلاق المحبة والإيثار
والتعاون والتواد مع الآخرين، ويأتي إلى عقبات البذل فيذللها أمام
الباذلين، وبذلك يتخلص المؤمن من مرض الأنانية والفردية على حساب
المجتمع.
وهنا الحل العملي يفرضُ جوَّ السلام والوئام في الحياة، وهذا الحل
يُعدُّ جذرياً في عملية البناء بينما الماركسية- كما أشرنا سابقاً-
تعتبر الملكية الخاصة أساس غريزة حب الذات، فإذا سلبت الملكية الخاصة
تُنتزع هذه الغريزة من عمق الإنسان، والحقيقة إن هذا العلاج أوقع
أصحابه في نفقٍ أعمق، وفاتهم أن النزعة الفردية تستقي مشروعيتها من
طبيعةِ الإنسان وسجيتِه، وأن حربَ الاستئصال ضدها لا يُجدي نفعاً،
بينما الإسلام يقرّ هذه الغريزة ويدعمها في الإطار الإيجابي بمعالجة
جذرية بالتهذيب والتوجيه، ليحصل التوافق بين المصلحة الشخصية والمصلحة
العامة.
ومن هنا يدعو الإمام عليه السلام كلَّ فردٍ قادرٍ على التعلم والعمل
والإنتاج إلى المبادرة والانطلاق نحو ساحة الزراعة أو الصناعة أو
التجارة أو الخدمات بمختلف مستوياتها، وذلك بنبذ الكسل والضجر والتمني
الخيالي، بل بالتحلي بالنشاط والهمّة والعزيمة ليؤمِّنّ لقمةَ العيش
بشرفٍ لنفسه وعياله.
يقول الإمام علي عليه السلام: (الكسل يفسد الآخرة)[36]، (من دام
كسلُه خاب أملُه وساءَ عملُه)[37]، (إن الأشياء لما ازدوجت ازدوجَ
الكسلُ والعجز فنتجا بينهما الفقر)[38]، (العجز آفة)[39].
وقال في وصيته لولده محمد بن الحنفية: (أشرفُ الغنى تركُ المُنى)[40].
وقال أيضاً: (إياك والاتكالَ على المنى، فإنها بضائعُ النّوكى)[41]،
(الأماني بضائع النّوكى)[42].
النوك يعني الحمق، الأنوك بمعنى الأحمق وجمعه النوكى[43].
وقال عليه السلام: (من وجد ماءً وتراباً ثم افتقر فأبعده الله، من
أحيا أرضاً ميتةً للمسلمين فليعمرْها وليؤدِ خراجَها إلى الإمام من أهل
بيتي وله ما أكل منها)[44]، إنها دعوة مفتوحة لإحياء الأرض الميتة التي
تعود سلطتها للإمام عليه السلام.
وإلى جانب هذا الدفع نحو الجدّ في العمل وطلب الرزق دعاه إلى
الاقتصاد في الاستهلاك وعدم التبذير والصبر عند الضائقة، حيث قال عليه
السلام: (الاقتصاد ينمّي القليل)[45]، (من صحبَ الاقتصاد دامت صحبةُ
الغناءِ له، وجَبُرَ الاقتصادُ فقرَه)[46]، (الكمالُ كلُّ الكمالِ
التفقهُ في الدين والصبرُ على النائبة والتقديرُ في المعيشة)[47].
ومن الوسائل المهمة في التربية النفسية على الصبر توافر حالة
القناعة بما رزقه الله في دار الدنيا مع عدم ترك السعي لتحقيق الأفضل
وذلك كي يحافظ المؤمن على إيمانه وتماسكه الأخلاقي، قال الإمام عليه
السلام: (ولكِن الله سبحانه جعل رُسلَه أولي قوةٍ في عزائمهِم ... مع
قناعةٍ تملأ القلوبَ والعيونَ غِنىً..)[48]، (كفى بالقناعة مُلكا)[49]،
(ولا كنزَ أغنى من القناعة)[50]، (القناعةُ مالٌ لا ينفد)[51]، (لا تكن
ممن ... إن أُعطي منها الدنيا لم يشبع وإن منع منها لم يقنع)[52]، (طوبى
لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنعَ بالكَفاف ورضي عن الله)[53]، (من
زهَد في الدنيا استهان بالمصيبات)[54]، (العجزُ آفةٌ والصبر شجاعةٌ
والزهد ثروة)[55]، (الزهد كلُّه بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه
(لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) ومن لم يأس على
الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهدَ بطرفيه)[56].
الحقوق المالية في خدمة الإنسان:
إن مسألة التنمية وتوسيع الملكية إلى جانب رعاية الفقراء والمحتاجين
ليست مسألة اقتصادية وحسب تتعاطى معها الأمة كمفردة معزولة تسبح في
شاطئ بحر الأمة مطوّقة بخصوصيتها، وإنما هي قضية عقدية وأخلاقية
وإدارية تعيش ضمن منظومة الحياة، فالتطور الاقتصادي وزيادة التحصيل
المالي لوحده لا يحقق سعادة للأمة إلا أن يكون السعي المتنامي ضمن
مشروع التنمية العامة التي تشمل مساهمة الأغنياء في عملية انتشال
الفقراء من وحل الجهل والفقر والحرمان، ليأمن الغني على ماله وعرضه
وكرامته إلى جانب الفقير، ويتحلى الفقير بالقيم السامية ما دامت الأمة
تحتضنه وتسعى لتطوير وضعه.
يقول الإمام عليه السلام: (خير أموالك ما وقى عِرضَك)، (خير الأمور
ما أدى إلى الخلاص)، (خير البر ما وصل إلى المحتاج)، (خير الناس من
تحمّل مؤونة الناس)[57].
هذا والشريعة الإسلامية تقرّ مبدأ التكافل بين الناس ليرتفع وضع
الفقراء، يقول الإمام عليه السلام: (إن الله سبحانه فرض في أموال
الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني، والله
تعالى سائلهم عن ذلك)[58]، (الزكاة صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل
المسكنة والفقر..)[59].
وفي بيان مواضع المعروف يقول الإمام عليه السلام: (فمن آتاه الله
مالاً فليصِلْ به القرابة، وليُحسنْ منه الضيافة، وليفكَ به الأسير
والعاني، وليعطِ منه الفقير والغارم، وليُصبّرْ نفسَه على الحقوق
والنوائب ابتغاء الثواب، فإنَّ فوزاً بهذه الخصال شرفُ مكارمِ الدنيا،
ودركُ فضائلِ الآخرة إن شاء الله)[60]، (من كفارات الذنوب العظام إغاثةُ
المَلهوف والتنفيسُ عن المكروب)[61].
المعالجة الإدارية:
وهنا بيت القصيد، حيث القانون والنظام الإداري، وبيت المال، والضمان
الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي، واستيعاب طبقات المجتمع وربطها على
أساس التعاون والأخوة مع بعضها البعض.
إن مشكلة الفقر التي أصابت الإنسان، هذا الكائن الذي اختاره الله
لموقع خلافته على الأرض (إني جاعل في الأرض خليفة..)، وكما يذهب بعض
المفسرين إلى أن الاستخلاف هذا لا يختص بالنبي آدم عليه السلام وإنما
يشمل الجنس البشري كله[62].
هذا الإنسان المختار لهذا الموقع الكريم تصيبه آفةُ الفقر لظلمٍ
اجتماعي أو استبدادٍ سياسي أو لسوءِ التوزيع للثروات الطبيعية، أو
لحالة الكسل وضعف الهمة أو لاستغلال طاقة الناس من قبل الأثرياء وغير
ذلك.
إن علاجَ هذه الآفة وإن كان عاماً يشمل الفرد والجماعة ولكن العلاج
الأهم يأتي من النظم الإدارية في حياة المسلمين لحلحلة الأزمة، ابتداءً
من بيت المال والتوزيع العادل، وانتهاءً بالصورة الحية التي يقدّمها
شخص الحاكم لرعيته بوضوح، ومروراً بالمحاسبة للولاة والحواشي والسوق
لرعاية الأسعار ومنع الاحتكار وتشجيع القرض، والوصايا المكثفة بالطبقات
المعدومة خصوصاً غير القادرة على الاكتساب وفتح آفاق العمل والنشاط
لأجل الكسب للقادرين على العمل، وهنا بالتحديد تكمن أسرار العظمة في
شخصية الإمام علي عليه السلام، لذلك أصبح أنشودة حبٍّ على لسان
المحرومين والمُعدمين وطلابِ الحرية والكرامةِ والعزةِ في الحياة.
بداية ينفي الإمام قلّة الموارد الطبيعية وقدرتها على استيعاب مطالب
الناس مهما كثروا، وإنما يدعو للنشاط المكثف لاستخراج كنوز الأرض،
زراعة وصناعة وتجارة وخدمات، ويقدّم شواهد كثيرة حتى من أحوال الأنبياء
في هذا الاتجاه ليدعم مسيرة البناء والعمل، بل يذكر شواهد من عالم
الحيوان كعامل تحفيزي للانطلاق نحو ميدان النشاط والأداء، يقول الإمام
عليه السلام في صدد بيان أحوال الأنبياء عليهم السلام:
(وإن شئت ثلّثتُ بداوود صاحبِ المزامير وقارئِ أهل الجنة، فلقد كان
يعمل سفائفَ الخُوص بيدهِ، ويقول لجلسائه: أيُّكم يكفيني بيعها ويأكلُ
قرصَ الشعير من ثمنها... وإن شئت قلتُ في عيسى بن مريم......دابتُه
رجلاه وخادمُه يداه)[63].
ومن عالم الحيوان نذكر مثالاً واحداً، يقول الإمام عليه السلام:
(انظروا إلى النملة في صِغَرِ جثتها، ولطافةِ هيئتها، كيف دبّتْ على
أرضها، وصبّتْ على رزقها، تنقل الحبة إلى جُحْرها وتُعدّها في مستقرّها،
تجمعُ في حرّها لبردِها لا يغفلُها المنانُ ولا يحرمُها الديان)[64].
أما في صدد بيان نفيه لقلة موارد الطبيعة فيقول في خطبة الأشباح:
(وهو المنّانُ بفوائدِ النعمِ، وعوائدِ المزيد والقِسم، عيالُهُ
الخلائق، ضمِنَ أرزاقَهم، وقدّر أقواتَهم، ونهجَ سبيلَ الراغبين إليه
والطالبين ما لديه،
[ حتى يقول] ولو وهبَ ما تنفسّتْ عنه معادنُ الجبال، وضحكت عنه
أصدافُ البحار، من فِلِزِّ اللُُجيْن والعِقيان، ونُثارةِ الدُّرِ
وحصيدِ المَرجان، ما أثّر ذلك في جوده، ولا أنْفَذَ سعةَ ما عنده،
ولكان عنده من ذخائرِ الأنعام ما لم تُنفِدُهُ مطالب الأنام، لأنه
الجوادُ الذي لا يغيضُه سؤالُ السائلين، ولا يبخلُه إلحاحُ الملحين)[65].
والآن لنرفع النقاب عن المعالجة الإدارية للإمام ضمن النقاط المهمة
التي أشرنا إليها:
بيت المال- الاحتياط المنقذ للجميع:
يقول الإمام عليه السلام: (ولا ينبغي لي أن أدعَ الجندَ والمصرَ
وبيتَ المال وجبايةَ الأرض والتوزيعَ العادل بين المسلمين هو سبيلُ
الصلاح)[66].
عن موسى بن بكر قال لي أبو الحسن عليه السلام: (من طلب هذا الرزق من
حلّهِ ليعودَ به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب
عليه ذلك فليستَدن على الله وعلى رسوله ما يقوت به عيالَه فإنْ مات ولم
يقضِهِ كان على الإمام قضاؤه.. (إنما الصدقات للفقراء..) فهو فقير
مسكين مغرم)[67].
حديث الضمان الاجتماعي:
تسعى الدولة أو من بيده بيت المال في عصر غياب الدولة عنه، إلى سد
حاجيات الفقير إلى حدّ الاكتفاء ليعيش إنساناً سويّاً مكتفياً عبر
إيصال الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس والكفارات إلى مستحقيها، أو
الحقوق المستحبة كالصدقات العامة ليبلغ الوضع الاقتصادي للفقير الحالة
الطبيعية من الاكتفاء، بذلك يتم حماية عناصر المجتمع في الحياة بشكل
عام.
ومما يذكر في هذا الصدد في سيرة الإمام علي عليه السلام أنه مرّ
بشيخ مكفوف كبير يسأل الناس [ يستعطي على الطرقات]، فقال أمير المؤمنين
عليه السلام: ما هذا؟
فقيل له: يا أمير المؤمنين إنه نصراني.
[ لاحظوا قول الإمام عليه السلام (ما هذا) ولم يقل: من هذا؟ فهو
يريد معالجة أمر هذه الظاهرة الخطيرة]، فقال عليه السلام: استعملتموه
حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال.[68]
وبالفعل قرّر له راتباً تقاعدياً يكفيه وعياله، وبذلك أصبح الإمام
مؤسس الضمان الاجتماعي لا للموظف الحكومي وإنما لكل إنسان يعيش في ظل
عدالة الإمام، إن هذا الإنسان مهما كان دينه ومذهبه ومعتقده خدم الناس
وكبر يستحق الراتب التقاعدي من بيت المال.
ويقول الإمام عليه السلام في عهده للأشتر:
(ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين
والمحتاجين وأهل البؤس والزّمنى فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً،
واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسْماً من بيت مالك، وقسماً
من غلات صوافي الإسلام في كل بلد.. وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقّة في
السن ممّن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه... واجعل لذوي الحاجات
منك قسماً تُفرغُ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله
الذي خلقك وتُقعِدَ عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشُرطِك حتى يكلمك
متكلمهم غير متعتع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير
موطن (لن تقدّسَ أمةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي)[69].
فالمسؤول عن الناس يبحث عن ضعافهم ويداريهم نفسياً أيضاً ليوفر لهم
ما يحتاجونه لنيل الحياة الكريمة، فيوزع عليهم من بيت المال وعطاء
المحسنين ما يسدّ طلباتهم، بل ويرعى الفقراء الصامتين الذين لا
يتظاهرون بالفقر ولا يشْكون أمرهم لأحد لعفة نفوسهم.
ظاهرة الاحتكار وأسعار السوق:
يتناول الإمام من وحي المسؤولية فيقفل بذلك باب استغلال الضعفاء
والفقراء.
فيقول الإمام: (وليكن البيعُ بيعاً سمحاً، بموازين عدل، وأسعار لا
تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)[70].
وهذا البيع القائم على أساس التراضي هو الذي يحقق العدل في الحياة
الاقتصادية، وعلى الوالي أن يمنع الاحتكار إنصافاً للفقراء.
يقول الإمام في عهده للأشتر:
(واعلم مع ذلك أن في كثيرٍ منهم (التجار) ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً
واحتكاراً للمنافع... فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه
وآله منع منه... فمن قارف حِكْرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه في
غير إسراف)[71].
وكان عليه السلام يقول للتجار وبيده الدّرة: (يا معشر التجار: خذوا
الحقَّ وأعطوا الحقّ تسلَموا ولا تردوا قليل الحقِّ فتُحرموا كثيره، ما
مُنع من حقٍّ إلا ذهبت في باطلٍ أضعافه)[72].
يقول العلامة القرشي: (الإمام علي عليه السلام أول خليفة في الإسلام
قام بالرقابة على السوق، وكان يتجوّل بين الباعة، ويوصيهم بتقوى الله
تعالى وينهاهم عن المعصية، ويأمرهم بالاستقامة في معاملاتهم، وكان يقول:
أحسنوا، أرخصوا بيعكم على المسلمين فإنه أعظم للبركة)[73].
وينقل عنه عليه السلام في سوق الإبل لما توسطه رفع صوته قائلاً: (يا
معشر التجار إياكم اليمين الفاجرة، فإنها تنفقُ السِّلعة، وتمحق البركة)[74].
ما أعظمك يا أمير المؤمنين، إنه يعرف أن بعض المحتكرين الاستغلاليين
لا يرتدعون بالنهي القانوني فلو خالف أحدهم لابدّ له من العقوبة لأنه (من
أمن العقوبة أساء الأدب) ولكن دون إسراف.
الإمام علي عليه السلام هو القدوة العظمى:
لنقف عند هذه الفقرة بلا تعليق وإنما لنستمع إلى عليٍّ وهو يتحدث عن
علي، رحم الله الشيخ الدكتور الوائلي حيث يصفه في نونيّّته العصماء
فيقول:
فرأيت أن أرويك محض روايةٍ للناس لا صِوَرٌ ولا تلوينُ
فلأنت أروعُ أن تكون مجرداً ولقد يضرُّ برائع تثمين
ولقد يضيق الشكلُ عن مضمونه ويضيع داخلَ شكله المضمونُ
حتى يقول:
في الحرب أنت المستحمُّ من الدما والسلمُ أنت التينُ والزيتونُ
والصبحُ أنت على المنابر نغمةً والليلُ في المحراب أنت أنينُ
تكسو وأنت قطيفةٌ مرقوعةٌ وتموت من جوعٍ وأنت بطينُ
وترقُّ حتى قيلَ فيك دعابةٌ تنفخُّ حتى يفزغ التنينُ[75].
فإلى عليٍّ وهو يصف قدوة المؤمنين والحكام الصالحين فيقول عليه
السلام:
(ألا وإن لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن
إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا
تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ وعفةٍ وسداد، فوالله ما
كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وَفْراً، ولا أعددتُ
لبالي ثوبي طِمرا، ولا حُزْتُ من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا كقوت
أتانٍ دَبِرَة)[76].
(إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس
كيلا يَتَبيَّغ بالفقير فقره)[77].
(والله لقد رقّعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي
قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: أُعزب عني، فعند الصباح يَحْمَدُ القومُ
السّرى)[78].
ويقول أيضاً: (ولو شئت لاهتديتُ الطريق إلى مصفى العسل، ولباب هذا
القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى
تخيّر الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد
له في الشبع، أَوَ أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى أو أكون
كما قال الشاعر:
وحسبُك داءً أن تبيت ببطنةٍ وحولك أكبادٌ تحنّ إلى القدِّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره
الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل
الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقمُّمها،
تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها...)[79].
ومما يذكر في أيام حكمه أنّه لقي رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام
وتحته وسق من نوى يعني مكيال يسع ستين صاعاً، فقال له: ما هذا يا أبا
الحسن تحتك؟
فقال: مائة ألف عذق إن شاء الله.
قال: فغرسه فلم يغادر منه نواةً واحدة.
فلذلك نقرأ في سيرته أنه أعتق ألف مملوك من كدّ يديه[80].
الوقاية من ظاهرة الفقر:
لما علمنا بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، والغنى والفقر من جملة
مظاهر الامتحان الإلهي، فالمؤمن يسعى للتخلص من هذه الآفة والتعوّذ
منها لأنها سبب البلاء والانحراف في الحياة، حتى الغني من الناس لأنه
قد يتحول الامتحان عنده من حالة لأخرى فلا ضمان لبقاء الغني في غناه،
يقول الإمام عليه السلام:
(لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى، بينا تراه معافى
إذ سقم، وبينا تراه غنياً إذ افتقر)[81].
ولتحصين الحياة من هذه الآفة طرق متعددة نجدها في توجيهات الإمام
علي عليه السلام منها: - الالتزام بالواجبات والاستغفار والتوبة.
- حج بيت الله الحرام.
- الصدقة وأداء الأمانة.
- السعي لتحقيق رضا الله ورضا الوالدين.
يقول الإمام عليه السلام: (الاستغفار سبباً لدرور الرزق)[82]، (حج
البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب)[83].
بالدعاء يقول الإمام عليه السلام: (اللهم انشر علينا غيثك وبركتك
ورزقك ورحمتك)[84]، (اللهم .... فاسترزق طالبي رزقك)[85].
وفي صدد الصدقة أي دفع المال للفقراء مساهمة لرفع فاقته، يقول عليه
السلام: (لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه)[86]، (استنزلوا
الرزق بالصدقة)[87]، (إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة)[88].
ومن العوامل الموجبة للفقر وبالمقابل خلافها تزيد في الرزق:
عن سعيد بن علاقة قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام يقول: (ترك نسج العنكبوت في البيت يورث الفقر، والأكل على
الجنابة يورث الفقر، وترك القمامة في البيت يورث الفقر، واليمين
الفاجرة تورث الفقر، والزنا يورث الفقر، وإظهار الحرص يورث الفقر،
والنوم بين العشائين يورث الفقر، وترك التقدير في المعيشة يورث الفقر،
وقطيعة الرحم يورث الفقر، واعتياد الكذب يورث الفقر، وكثرة الاستماع
إلى الغناء يورث الفقر، ورد السائل الذكر بالليل يورث الفقر.
ثم قال عليه السلام: ألا أنبئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق، قالوا:
بلى يا أمير المؤمنين.
فقال عليه السلام: الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد
الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح
الفنا (الساحة أمام البيت) يزيد في الرزق، ومواساة الأخ في الله عز وجل
يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد
في الرزق، واستعمال الأمانة... وقول الحق... وإجابة المؤذن... وترك
الكلام في الخلاء... وترك الحرص... وشكر المنعم... واجتناب اليمين
الكاذبة... والوضوء قبل الطعام... وأكل ما يسقط من الخوان... ومن سبّح
الله كل يوم ثلاثين مرة دفع الله عز وجل عنه سبعين نوعاً من البلاء
أيسرها الفقر)[89].
* ورقة مقدمة الى المهرجان العالمي التاسع للإمام
علي بن أبي طالب الذي عقد تحت شعار: النهج الاقتصادي للإمام علي عليه
السلام .. دروس للحاضر والمستقبل في مدينة حمص في دولة سوريا
www.alferdaows.com
.......................................................
[1] سورة الأنفال: 8/ 24.
[2] سورة الشمس: 91/ 7-9.
[3] نهج البلاغة: باب الرسائل رقم 45،
تهش إلى القرص: تنبسط إلى الرغيف وتفرحُ به، نَضَبَ:
غار، معينها: ماؤها الجاري، السائمة: الأنعام التي تسرح، رعيها: الكلأ،
الربيضة: الغنم مع رعاتها، الربوض للغنم كالبروك للإبل، يهجع: يسكن،
الهاملة: المتروكة.
راجع الصالح وصبحي: فهارس نهج البلاغة رقم 3929 وما
بعده.
[4] نهج البلاغة: باب الرسائل رقم 41
الأزل: السريع الجري، الدامية: المجروحة.
[5] سورة المائدة: 5/ 3.
[6] سورة النساء: 4/ 105.
[7] سورة الحجر: 15/ 9.
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك بإسناده إلى الصحابي
أبي ذر الغفاري ج3 ص151، وأمالي الشيخ المفيد ص120، والبحار 23/ 105
وغيرها.
[9] القزويني، السيد محمد كاظم: فاطمة الزهراء من
المهد إلى اللحد: ص387
[10] سورة القيامة: 75/ 25.
[11] الطريحي، الشيخ فخر الدين: مجمع البحرين،
المجلد الثالث، مادة: فقر، ص1406- 1407 تحقيق قصم الدراسات الإسلامية،
مؤسسة البعثة في قم المقدسة.
[12] المحقق الحلي: شرائع الإسلام- مع تعليقات السيد
صادق الشيرازي كتاب الزكاة 1/ 125
[13] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 319
[14] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 163
[15] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 3
[16] سورة الروم: 30/ 30.
[17] مفاتيح الجنان: الشيخ عباس القمي، دعاء شهر رجب
[18] سورة النحل: 16/ 118.
[19] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 91 (خطبة الأشباح)
في بدايتها، يفرُه المنع: يزيد في ماله، وهو من وَفَرَ وفُوراً.
يكديه: يفقره ويُنفِذُ خزائنه.
[20] كما ل الدين ميثم، البحراني: شرح نهج البلاغة
2/ 336-337
[21] نهج البلاغة: باب الرسائل، رقم 53
[22] نهج البلاغة: باب الرسائل، رقم 53
[23] سورة النحل: 16/ 71.
[24] من ثواب الأعمال: ص180
[25] من لا يحضره الفقيه: ص275/ باب 126، حديث رقم:
10.
[26] جامع الأخبار: ص108
[27] مهج الدعوات لابن طاووس: ص126ـ والآية الكريمة
من سورة الطلاق 65/ 2-3.
[28] سورة هود: 11/ 6.
[29] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 160.
عظيم زلفته: عظيم منزلته العليا عند الله سبحانه.
[30] غرر الحكم: رقم الحديث 40.
[31] من لا يحضره الفقيه: 4/ 7 الباب الأول الحديث
رقم 1.
[32] أعلام الدين: ص175.
[33] كنز الفوائد: ج2/ رقم 193.
[34] كنز الفوائد: ج2/ رقم 194
[35] نهج البلاغة: باب الرسائل، رقم 27.
[36] مستدرك الوسائل: 13/ 45 باب 15/ حديث رقم 3.
[37] غرر الحكم: 2/ 162/ حديث رقم 263.
[38] فروع الكافي: 5/ 86 حديث رقم 8
[39] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 4.
[40] من لا يحضره الفقيه: 4/ 275، باب 176، حديث رقم
10.
[41] مستدرك الوسائل: 13/ 46 باب 16، حديث 2.
[42] غرر الحكم: 1/ 34 حديث 681.
[43] لسان العرب: 1/ 501.
[44] وسائل الشيعة: 17/ 41، 13/ 86.
[45] غرر الحكم: 1/ 24/ 389.
[46] غرر الحكم: 2/ 241/ 1512.
[47] دعائم الإسلام: 2/ 255، حديث 969.
[48] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 192.
[49] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 229.
[50] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 371.
[51] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 57.
[52] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 150.
[53] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 44.
[54] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 31.
[55] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 4.
[56] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 439.
[57] غرر الحكم: رقم 8291، 2933، 8895، 8413.
[58] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 328.
[59] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 192. مقطع (عود إلى
التحذير).
[60] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 142.
[61] نهج البلاغة: باب الحكم رقم 24.
[62] الإسلام يقود الحياة: محمد باقر الصدر/ ص133
[63] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 160.
[64] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 185.
[65] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 191.
تنفس المعادن، كناية عن انغلاقها عن الجواهر، ضحك
الاصداف: كناية عن انفتاحها عن الدرّ وتشققها، الفلز: الجوهر النفيس،
اللجين: الفضة الخالصة، والعقيان: ذهب ينمو في معدنه، نشارة الدر:
منشوره، حصيد المرجان: محصوده.
راجع: الصالح، د. صبحي: فهرس شروح الألفاظ رقم 1008
فصاعداً.
[66] نهج البلاغة: باب الخطب رقم 119.
[67] فروع الكافي: 5/ 93 حديث رقم 3.
[68] وسائل الشيعة للحر العاملي: 11/ 49
[69] نهج البلاغة: باب الرسائل رقم 53.
[70] نهج البلاغة: باب الرسائل رقم 53، (عهد
الأشتر).
[71] نهج البلاغة: باب الرسائل رقم 53.
[72] عن ربيع الأبرار: 4/ 144.
[73] القرشي، باقر: موسوعة الإمام ص44.
[74] عن الغارات: 1/ 105.
[75] ديوان الشيخ أحمد الوائلي: ج1/ ص19.
[76] نهج البلاغة: باب الرسائل، رقم 45. الطمر:
الثوب البالي، السداد: التصرف الرشيد، التبر: فتات الذهب والفضة قبل
الصياغة،
وفرا: المال، أتانٍ دبره: هي التي عُفّر ظهرها
فَقَلّ أكلها.
[77] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 209. يتبيّغ: يهيج
به ألم الفقر فيهلكه.
[78] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 160.المدرعة: ثوب
من صوف، السُّرى: السير ليلاً.
[79] نهج البلاغة: باب الرسائل، رقم 45. القزّ:
الحرير، الجشع: شدة الحرص، القرص: الرغيف، بطون غرثى: جائعة، أكباد
حرّى: عطش، البطنة- بكسر الباء- البطر والأشر، القدّ: سير من الجلد غير
مدبوغ، الجشوبة: الخشونة، تقمّمها: التقاطها للقمامة أن الكناسة.
[80] الكافي: 5/ 74/ 4.
[81] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 426.
[82] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 143.
[83]نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 110.
[84] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 143.
[85] نهج البلاغة: باب الخطب، رقم 225.
[86] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 67.
[87] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 137.
[88] نهج البلاغة: باب الحكم، رقم 258.
[89] الشيخ الصدوق: كتاب الخصال، أبواب الستة عشر/
ص504. |