المقدمة
يتضمن كتاب نهج البلاغة المشتمل على خطب وكلمات ورسائل أمير
المؤمنين (عليه السلام) التي ألقاها في مناسبات مختلفة يتضمن مبادئ في
الاقتصاد الإسلامي فضلاً عن ممارسات ومعالجات لأزمات عانى منها المجتمع
الإسلامي ويمكن أن يتعرض إليها في كل زمن. وتشكل هذهِ الكلمات بمجموعها
منظومة في الاقتصاد يمكن اعتمادها كمدخل لمعالجة الأزمات التي تنتاب
المجتمعات البشرية.
فعندما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله سبحانه فرض في
أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتع به غني.
وأيضاً: مَن وجد ماءً وتراباً ثم افتقر فأبعده الله.
وأيضاً: من أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها.
وأيضاً وأيضاً كلمات بالمئات بل بالآلاف وهي تمدنا برؤية صائبة عما
يجري من كوارث اقتصادية وعما يجب عمله ومنها الأزمة العالمية الراهنة
التي نحاول أن نعرضها ثم نستنطق نهج البلاغة لعلنا نجد الدواء عند
الإمام علي (عليه السلام).
عرض للأزمة الاقتصادية العالمية
تعاني البشرية من شرور الأنظمة التي لم ينزل الله بها من سلطان على
رغم ألوانها البراقة الخادعة ذلك أنها تكتنز في داخلها بذور الشر، وقد
شهد العالم بالأمس نهاية النظام الاشتراكي الذي حوّل ربع البشرية إلى
فقراء معدمين واليوم يعاني مِن شرور النظام الرأسمالي الذي بلغ أوج
كبريائه وطغيانه في العقدين الأخيرين وهويغطي مفاسد فلسفته بغطاء من
العولمة، وفي كل يوم تنتاب هذه الأنظمة أزمة جديدة تسحق الفقراء
والمستضعفين، وآخرها وليس أخيرها أزمة العقارات في الولايات المتحدة،
التي كشفت لنا الطبيعة الهشة للنظام الرأسمالي قائم على قواعد رخوة
فبمجرد ما يهتز طرف من أجزاء هذا النظام يتزلزل الكيان بكامله.
ولم تكن أزمة 2008 هي الأولى في الاقتصاد الرأسمالي بل عصفت بها
أزمة كبرى عام 1929 سميت بأزمة الكساد العالمي وفي الأسبوع الأخير من
تشرين الأول عام 1997 عصفت أيضاً أزمة في الاقتصاد الرأسمالي تسببت في
هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى بدأت في هونغ كونغ
وانتقلت إلى اليابان فأمريكا مروراً بتايلند وماليزيا واندنوسيا ثم
امتدت كالوباء إلى كوريا الجنوبية وتايوان في شمال آسيا.
وعلى الرغم من فداحة الأزمات السابقة إلاّ أنها لم تكن بقوة الأزمة
الراهنة التي نشبت بسبب الرهن العقاري الذي امتد ليشمل الكثير من ذوي
الدخل المحدود الذين استفادوا من القروض لشراء المنازل وتوسعت البنوك
في القروض فعجز المقترضون عن السداد مما أدى إلى إفلاس كبرى البنوك
والمؤسسات المالية في أمريكا.
إذ بدأت الأزمة عندما نشطت سوق العقار في أمريكا،فتسارعت البنوك
الدولية والأسواق المالية للاستثمار في هذا المجال تحت وطأة الدعاية
بالإرباح الوفيرة المتوقعة فارتفعت نتيجة ذلك أسعار الفائدة في البنك
الاحتياطي الفدرالي الأمريكي منذ عام 2004 الأمر الذي شكل زيادة في
أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها فبلغت تلك القروض
نحو1.3 تريليون دولار في مارس 2007[1] مما أضطر قسماً كبيراً من
المقترضين إلى التوقف عن السداد للأقساط المالية المستحقة عليهم فانعكس
سلباً على أكبر مؤسستين للرهن العقاري وهما (فاني ماي) و(فريدي ماك)
إلى خسائر فادحة حيث تتعاملان بمبلغ ستة تريليونات دولار.
من هذه الأزمة تتجلى أمامنا ظاهرة الربا كسبب مباشر في إيجادها
وتناميها حتى أصبحت أزمة عالمية عصفت باقتصاديات دول العالم بلا
استثناء والظاهرة الثانية التي شكلت سبباً آخر لتفجّر الأزمة هي بيع
الديون من خلال شركات التسويق والتي قامت بتحويل الديون العقارية إلى
سندات وتسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية، وقد نتج عن عمليات
التوريق هذه زيادة في التزامات هذه الشركات مع عجزها بالوفاء للديون،
الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة هذهِ السندات مسببة المزيد من الأزمة
الاقتصادية.
مما تقدم تظهر لنا الأزمة بعنوانين رئيسين هما الربا والبيع غير
المعقول (بيع الديون).
وكما هوواضح أن الاقتصاد الرأسمالي يقوم بالدرجة الأولى على النظام
الربوي وعلى القروض الربوية التي باتت تشكل مشكلة أساسية في هذا
الاقتصاد نفسه حيث أن خدمة الدين وهي الزيادة المضاعفة في الفائدة دفعت
بالأفراد والمؤسسات إلى العجز عن تسديد القروض ما أدى إلى تباطؤ في
عملية الاقتصاد.
أما عمليات البيع والشراء غير المنطقية التي حصلت بسبب مضاربات
السوق (وهي إحدى آليات الاقتصاد الرأسمالي) جعلت عملية البيع والشراء
تتم عبر أسعار وهمية فهناك أسهم شركات بيعت بمليارات الدولارات مع أنها
لا تساوي مليون دولار الأمر الذي جعل هذه السندات في مهب الريح،
تتقاذفها أمواج المضاربات وتعصف بها رياح الأزمات الاقتصادية.
والآن لنرَ كيف ينظر الإسلام لهذه المشكلة:-
أولاً: نظرته إلى المعاملات القائمة على الربا أنها باطلة سواء كان
مقدار الربا قليلاً أم كثير أوكان ربا نسيئة، أم فضل، فمال الربا مال
حرام ولا حق لأحد في امتلاكه وقد قال تعالى عن الربا (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا)
كما وأن الإسلام أمر أن يكون البيع بيعاً سمحاً لا قائماً على
الأوهام وعلى وسائل النصب والاحتيال كما هي الرأسمالية فحرم الإسلام
بيع السلع قبل أن يحوز عليها المشتري فحرم بيع ما لا يملكه الإنسان،
وحرم تداول الأوراق المالية والسندات والأسهم القائمة على عقود باطلة.
وعلى غرار هذا المنهج ورد في نهج البلاغة في كلام علي (عليه السلام)
ما يدل على ذلك فقد طالب أمير المؤمنين التجار أن يتفقهوا في أحكام
السوق حتى لا ينزلقوا في المحرمات قائلاً "من اتجر بغير فقهٍ فقد ارتطم
في الربا)[2]
أما عن البيع فيقول الإمام (عليه السلام) "وليكن البيع بيعاً سمحاً
بموازين عدل وأسعار لا تُجحف بالفرقين من البائع والمبتاع فلابد
للأسعار أن تخضع للموازين العادلة وأن تكسب رضى الطرفين)[3].
أزمة نظام
ما شهده الاقتصاد الرأسمالي من انهيار في سوق العقار وسوق السندات
المالية ليس أزمة اقتصادية محدودة بل هومؤشر لأزمة في النظام الرأسمالي
الذي يقوم على الحوافز الفردية وحث الفرد على كسب المال وجمعه من مختلف
الطرق مشروعة وغير مشروعة. وهذه الحالة هي التي خلقت الأزمة في العقود
السابقة. وليس من العجب أن نسمع من أحد قادة المجتمع الرأسمالي
وهوالرئيس الفرنسي (ساركوزي) أن يهتف ويقول: لقد حان الوقت لجعل
الرأسمالية أخلاقية بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة، وهي خدمة قوى
التنمية الاقتصادية وقوى الإنتاج والابتعاد تماماً عن قوى المضاربة[4]
وهذا ما يؤكد لنا مجدداً أن جذور الأزمة في النظام الرأسمالي هوفي
الجانب الأخلاقي وإذا لم تواجه هذه المشكلة ويوضع لها حلول جذرية لا
يمكن حل هذه المعضلة بتاتاً.
معالجات الحكومة الأمريكية
خلافاً لقواعد وأصول الاقتصاد الحر التي تقوم عليها الرأسمالية
العالمية، وجدنا الحكومة الأمريكية تسرع الخطى للتدخل في حل الأزمة
الاقتصادية وذلك بدفع أموال طائلة لتعزيز موقف بنوك العقارات، ويعد هذا
الموقف خرقاً لما تعارفت عليه الرأسمالية الاقتصادية، وقد اضطر وزير
الخزانة الأمريكية (هنري بولسون) للقول بأن التدخل غير المسبوق والشامل
للحكومة يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي
بشكل أكبر. وأكد على ذلك رئيس مجلس الاحتياطي الأمريكي (بين بير نانك)
على ذلك أيضاً: أنها ضرورية لضمان أن لا تؤدي الديون المعدومة إلى
انهيار النظام المالي والاقتصاد.
وأوّلى الرئيس الأمريكي جورج بوش بدلوه أيضاً في هذا المجال حين صرح
قائلاً في خطاب له في البيت الأبيض بأن الوقت الراهن حاسم لمواجهة
الأزمة المالية[5].
وبناءً على خطة المعالجة المحكومة قررت وزارة الخزانة الأمريكية
برنامجاً حكومياً قدرت بين 50-80 مليار دولار تشطب الأصول الفاسدة
المرتبطة بالقروض العقارية في سجلات الشركات المالية الأمريكية، كما أن
الكونغرس الأمريكي أقر تخفيضاً ضريبياً بلغت قيمته مائة مليار دولار
أمريكي من أجل تحفيز الإنفاق الاستهلاكي[6].
وعلى رغم تأثير ذلك في الحد من مزيد من الانهيار إلاّ إن المشكلة
ظلت قائمة إذ شهد الاقتصاد الأمريكي انحداراً شديداً نحوالركود بين
بلغت السياسة النقدية إلى أقصى حدود الارتخاء، وأصيبت التحولات المالية
بالعجز والوهن مؤكدة أن جميع المعالجات التي طرحتها الإدارة الأمريكية
لم تكن سوى علاجات ترقيعية، إذ ظلت جذور المشكلة قائمة في النظام
الرأسمالي تتحكم بمفاصل الاقتصاد الأمريكي.
العلاج الإسلامي
إن بقاء الأزمة حتى بعد أعوام عديدة من اندلاعها يؤكد لنا عجز
الاقتصاد الرأسمالي عن مواجهة المشكلات الاقتصادية العالمية، وهذه ليست
هي المرة الأولى التي أظهرت عن عجزها في مواجهة هذه التحديات. وكما
عرفنا تكرر هذا العجز لمرات ومرات مؤكدة للعالم العربي بالدرجة الأولى
ضرورة التفكير بالبديل.
وهنا بدأ بعضهم التفكير بأطروحة أخرى تستطيع مواجهة هذه المعضلة
الاقتصادية والخطوات المتسارعة التي تسير عليها الإدارة الأمريكية في
معالجتها للأزمة تبين لنا معالم هذا البديل.
فماذا فعلت الإدارة الأمريكية لمواجهة الأزمة:
1- قامت بالتدخل المباشر.
2- قامت بتخفيض الفائدة إلى أقل ما يمكن وهو1% أي قريب الصفر.
3- قامت بتقديم الدعم المالي إلى أصحاب البنوك بلغت المليارات من
الدولارات.
وكأن الإدارة الأمريكية. الخطوات الثلاثة هذه تقوم بعملية انسلاخ عن
النظام الرأسمالي الذي يقوم على مبدأ عدم تدخل الدولة على الفائدة
المتصاعدة وعلى اقتصاديات السوق.
وقد حاول البعض أن يصوّر هذه الإجراءات بالاقتراب شيئاً فشيئاً إلى
الاقتصاد الإسلامي.
وهذا التصور خاطئ لأن الاقتصاد الإسلامي منظومة متكاملة من المبادئ
والآليات لا يمكن فصلها عن الإبعاد الأخرى للنظام الإسلامي الشيء
الوحيد الذي يمكن أن تطرحه هذه الإجراءات هو صحة ما ذهب إليه الاقتصاد
الإسلامي في تدبيره لأمور المجتمع ولوكان الاقتصاد السائد في الولايات
المتحدة هوالاقتصاد الإسلامي لما ظهرت هذه الأزمة ولتسارعت وتائر
الاقتصاد الأمريكي بشكل أفضل مما عليه الآن كيف ذلك؟.
يقوم الاقتصاد الإسلامي على المبادئ الآتية:
أولاً: مبدأ تدخل الدولة.
ثانياً: مبدأ تطبيق الضمان والتكافل الاجتماعيين.
ثالثاً: مبدأ تحريم الربا ومكافحة أي شكل من أشكال تكدس المال.
رابعاً: مبدأ تحفيز الإنتاج بالتقليل من الضرائب.
خامساً: مبدأ رعاية ذوي الحاجات.
أولاً: مبدأ تدخل الدولة
يتجلى تدخل الدولة في الاقتصاد الإسلامي في ثلاثة أمور:
1. توجيه آليات الاقتصاد نحوبناء مجتمع يتصف بالغنى والسعادة.
2. الرقابة على الفعاليات والأنشطة الاقتصادية المحرمة.
3. حماية المساهمين في العجلة الاقتصادية من تجار وصنّاع ومزارعين.
وخير نص يرسم لنا صورة عن حدود تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي هو
وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الاشتر. ففي
هذه الرسالة يطلب الإمام من واليه بأن يوازن بين الضرائب التي يجبيها
وبين الإنتاج ويأمره بأن يهتم بالإنتاج أولاً لأنه هو السبيل إلى زيادة
الخراج.
أما في جانب الإنتاج فيربط بينه وبين أصناف المجتمع كالتجار وذوي
الصناعات والزراع وهم الأساس في دائرة الإنتاج فيأمره أن يرعي شؤونهم
ويدعم مواقفهم ويحل مشكلاتهم ويأمره أيضاً أن يمنعهم من الاحتكار
والتلاعب بالأسعار لرفع الضرر عن العامة.
ثم يأمره أن يتولى تدبير شؤون المحتاجين بأن يخصص جزاءاً من المال
لهؤلاء الفقراء، ثم يأمره بأن يرفق بأهل الخراج عند أخذ الضريبة منهم،
ثم يأمره بإقامة الأمن ويحثه على طلب الصلح حتى مع أعدائه.
وتالياً فإن هذا النص هو وثيقة اقتصادية في تحديد وظائف الدولة في
الجانب الاقتصادي وهي:
1. القيام بتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية.
2. جمع الضرائب.
3. مكافحة الفقر والعوز.
4. دعم التجارة بنوعيها الخارجية والداخلية.
5. تشجيع ذوي الصناعات على القيام بأعمالهم الحرفية.
6. دعم الإنتاج وإعطائه الأولوية حتى لواقتضى ذلك الامتناع عن أخذ
الخراج.
7. حفظ الأمن والنظام.
8. توكيد الاستقرار الاقتصادي.
9. اخضاع التسعيرة لقاعدة التراضي.
10. منع ما يمكن أن يسبب في تكدس الأموال مثل الاحتكار وما شابه
ذلك[7].
ثانياً: مبدأ الضمان والتكافل الاجتماعيين
من تجليات الجانب الإنساني في الاقتصاد الإسلامي إقراره لهذا المبدأ،
فالدولة ضامنةُ لأي فرد في المجتمع – الدخل الذي يستطيع أن يعيش من
خلاله، فإذا كان قادراً على العمل تضمن له مجالات العمل المناسب. وإذا
لم يكن قادراً على العمل تضمن له ما يستطيع أن يعيش به هووعياله) وفي
مجال التكافل الاجتماعي هناك مسؤولية يلقيها الإسلام على افراد المجتمع
هو التكافل فيما بينهم فالغني يسعف الفقير وارباب العمل يوفرون العمل
للعاطلين، وهكذا يصبح كل فرد في احضان هذا المجتمع يمده بالمال اذا
افتقر، يفرضه اذا احتاج اليه، ويسدد ديونه إذا عجز عن الدفع. يقول أمير
المؤمنين (عليه السلام) "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات
الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك"[8].
وقد بارك أمير المؤمنين لأولئك الأغنياء الذين يتحملون مسؤولية
إغاثة وإعانة الفقراء والمحتاجين.
(انعم الناس عيشاً من عاش في عيشه غيره)[9].
ولنا شاهدُ عمليٌ على ذلك إذ مر الإمام علي (عليه السلام) بشيخ
مكفوف يسأل الناس فقال أمير المؤمنين: "ما هذا؟" فقيل له: يا أمير
المؤمنين أنه نصراني. فقال أمير المؤمنين: "استعملتموه حتى إذا كبر
وعجز منعتموه أنفقوا عليه من بيت المال"[10]. وما كاد هذا ليتحقق إذا
لم يكن المجتمع قائماً على مجموعة الفضائل كالورع والتواضع وأداء
الأمانة وإتقان العمل وهي صفات مؤثرة في الاقتصاد إذ أنها الحاضنة
الأولى للاقتصاد الإسلامي القائم على مبدأي الضمان والتكافل حتى لغير
المسلم.
ثالثاً: مبدأ تحريم الربا ومكافحة الأنشطة المحرمة وما يتسبب في
تكديس المال ذكرنا موقف الإسلام من الربا وخطورته على المجتمع، بقي أن
نبين موقف الإسلام من البخل الذي اعتبره آفة لا تقل عن آفة الربا وقال
فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): "البخل جامع لمساوئ العيوب وهوزمام
يقاد به إلى كل سوء"[11].
ويرجع إليه انهيار المجتمع (وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير
آخرته بدنياه)[12]، ويقارن الإمام علي (عليه السلام) بين الشحيح
والفقير قائلاً: "الشحُّ اضرَّ على الإنسان من الفقر، لأن الفقير إذا
وجد اتسع والشحيح لا يتسع وإن وجد"[13]، ذلك لأن البخيل جَمَّد جزءاً
من أموال المجتمع حيث يجب عليه أن يساهم بهذه الأموال في عجلة الاقتصاد
يقول الإمام علي (عليه السلام): "اجتماع المال عند البخلاء احد
الجدبين"[14] وعلى العكس من ذلك دعى الإسلام إلى الإنفاق والإقراض.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "طوبى لمن ذل في نفسه وطاب كسبه
وصلحت سريرته وحسنت خليقته وأنفق الفضل من ماله"[15] والفضل هو الزيادة
أي الإنفاق عما يزيد عن الكفاية.
ويقول أيضاً: "والمال تَنقصه النفقة"[16] فلا يكتمل المال إلا
بالإنفاق.
وبهذه الكلمات يمهد الإمام (عليه السلام) الطريق أمام الاستثمار
ويقول عن هؤلاء الذين يستثمرون أموالهم "وبعضهم يحب تثمير المال ويكره
انثلام الحال"[17] أي أنهم يحبون إنماء المال بالأرباح ويكرهون تناقصه،
وهذا النص يؤكد لنا أن عملية الاستثمار كانت موجودة في العهد الإسلامي
كنوع من الأنشطة، وكانت تلقى تشجيعاً كبيراً من لدن الحاكم الإسلامي.
رابعاً: مبدأ تحفيز الإنتاج
ويبني الإسلام مجتمعاً منتجاً فلا مجال للكسل والترهل، فالجد في طلب
الرزق الحلال والاكتساب بالعمل هوما قامت عليه اقتصاديات المجتمع
الإسلامي يقول الإمام علي (عليه السلام): "لا يُدرك الحق إلا
بالجد"[18] ويقول أيضاً: "والحرفة مع العفة خير من الغنى مع
الفجور"[19] ويقول أيضاً: "من وجد ماءاً وتراباً ثم افتقر فأبعده
الله"[20]
ويأمر واليه على نص "وليكن نظرك في عمارة ارض ابلغ من نظرك في
استجلاب الخراج"[21] فالأولوية يجب أن تعطى للإنتاج، وتقوم موارد
الدولة على مصادر الإنتاج قبل الضرائب التي تضعها على المنتجين لأنه من
طلب الخراج بغير عمارة خرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم إلا قليلاً
وهذا ما عناه أمير المؤمنين (عليه السلام) لواليه على مصر.
وليس ادعى إلى الإنتاج من هذا النص الذي قاله أمير المؤمنين (عليه
السلام): "من أحيا أرضاً ميتةًً من المسلمين فليعمرها، وليؤدِ خراجها
إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها واضر بها، فأخذها
رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها
فليؤدِ خراجها إلى الإمام"[22] فليس هناك من نص اقتصادي أروع من هذا
الذي يرغب كل أبناء المجتمع إلى إحياء الأرض من خلال النشاط الزراعي أو
الصناعي بوعد قاطع أن الأرض ستكون ملكاً له بمجرد الإحياء، وعلى هذا
المبدأ استطاع الإسلام أن يحوِّل الصحار القاحلة إلى روضات وجنات.
خامساً: رعاية ذوي الحاجات
اقتصاد أي مجتمع عرضة للاهتزاز، والتدهور والانحطاط، وينجم عن كل
هزة شركات وبنوك بالآلاف تعلن إفلاسها، ومصانع بالمئات تعلن توقفها،
أضف إلى مئات الآلاف من الفقراء وذوي الحاجة، وهنا يأتي دور الحكومة
لرعاية كل هؤلاء بمدهم بما يحتاجون إليه من قروض وأموال والتخفيف من
مديونيتهم وحتى تقديم الإعانات لهم.
لنقرأ ما يقوله أمير المؤمنين إلى واليه مالك الأشتر، يوصيه أن يبذل
الأموال للتجار والصناع إذا تعرضوا إلى أزمة: "وأفسح له في البذل ما
يُزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس"[23].
وأما المزارعون وأصحاب الحقول الذين يتعرضون للكوارث الطبيعية: "فإن
شكوا ثقلاً أوعلةً أوانقطاع شرب أوبالة (إي المطر) أوإحالة أرضٍ
اغتمرها غرقٌ أوأجحف بها عطشٌ خففت عنهم، بما ترجوأن يصلح به أمرهم،
ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فأنه ذخرٌ يعودون به عليك في
عمارة بلادك وتزيين ولايتك"[24]
الخاتمة
من خلال هذا الاستعراض لسير الأزمة الاقتصادية العالمية عبر الرؤية
الاقتصادية في نهج البلاغة تبين لنا أن في نهج البلاغة رؤية متكاملة
وواضحة عما يمكن أن نسميه بالأزمة الاقتصادية العالمية. كما نجد في
النهج الحلول الناجعة لهذه الأزمة من خلال حث النهج على:
أولاً: التمسك بالمناقبيات التي تجتث حالات الأثرة والطمع
والاستغلال والاحتكار.
ثانياً: إعطاء الدولة الدور الأكبر في التوجيه والرقابة والرعاية.
ثالثاُ: دعوة الأغنياء إلى تكفل الفقراء بما يفضل من مالهم.
رابعاً: دعوة الفقراء إلى العمل والجد لبلوغ مراتب الغنى المالي بعد
غنى النفس.
خامساً: استئصال أي مظهر من مظاهر تكدس المال وجموده من خلال
العمليات الربوية والاحتكار والدعوة إلى البذل وإشاعة ثقافة الاقتراض
في المجتمع الإسلامي.
وهذه هي مؤشرات الحل التي أخذت تتحرك في أفقها المحافل الاقتصادية
أوفي الأقل دعت إلى الأخذ بها كمعالم للنظام الاقتصادي البديل الذي بدأ
الكلام حوله منذ اندلاع الأزمة.
* ورقة مقدمة الى المهرجان العالمي التاسع للإمام
علي بن أبي طالب الذي عقد تحت شعار: النهج الاقتصادي للإمام علي عليه
السلام.. دروس للحاضر والمستقبل في العاصمة دمشق في دولة سوريا
www.alferdaows.com
....................................
مراجع البحث
الكتب:
1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد
أبوالفضل إبراهيم، دار التراث العربي، بيروت.
2- الموسوي، محسن: الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة،
دار الهادي، عام 2002، بيروت.
ملفات الانترنت:
1- الأزمة المالية العالمية 2008 موقع إسلام أون
لاين نت.
2- الأزمة الاقتصادية العالمية.. الطريق الأول
هوالحل: اشرف محمد دوابه، موقع إسلام أون لاين نت.
3- الأزمة الاقتصادية العالمية: أسباب وحلول، عاهد
ناصر الدين، موقع إسلام أون لاين نت.
4- الاقتصاد الإسلامي طوق نجاة من الأزمة المالية،
الصادي عبد الحافظ، موقع إسلام أون لاين نت.
5- الاقتصاد الأمريكي مقامر لا مغامر، فريد مان
توماس، موقع إسلام أون لاين نت.
6- تسمونامي الرهن العقاري، أسباب وتداعيات وحلول
عبد الحميد حسين أحمد، موقع إسلام أون لاين نت.
.....................
[1] الأزمة الاقتصادية العالمية.. الطريق الأول
هوالحل، أشراف محمد دوابه، موقع إسلام أون لأين
[2] قصار الكلمات رقم 247.
[3] نهج البلاغة رقم 53.
[4] الأزمة الاقتصادية العالمية أسباب وحلول موقع
الإسلام أون لاين.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه
[7] الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة ص97.
[8] قصار الكلمات 328.
[9] ابن أبي الحديد 20/300 رقم 432.
[10] وسائل الشيعة 11/49.
[11] قصار الكلمات 378.
[12] قصار الكلمات 372.
[13] ابن أبي الحديد 20/335 رقم 344.
[14] ابن أبي الحديد 20/335 رقم 839.
[15] قصار الكلمات رقم 123.
[16] قصار الكلمات 147.
[17] قصار الكلمات 23.
[18] خطبة 29.
[19] رسائل 31.
[20] وسائل الشيعة: الحر العاملي 17/41
[21] رسائل 53.
[22] وسائل الشيعة 2/100 43
[23] رسائل 53.
[24] رسائل 53. |