العدالة سمة السياسة المالية العامة

عند أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)

د. عفيف الصندوق

من دواعي السرور أن نعود إلى تراثنا العربي والإسلامي حيث الحق والعدل.

وان من أساسات طلب العلم أن ندرس الفكر الاقتصادي عند أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، حيث اختصه الله سبحانه وتعالى من بين الصحابة رضوان الله عليهم بخصائص كثيرة منها العلم الغزير، ذلك العلم الذي زقه رسول الله (ص)،حيث كان (ص) هومن رباه وأدبه وعلمه.

لقد وفقني تعالى لاختيار جذوة من مصباح رسول الله(ص) كان قد استقاها أمير المؤمنين علي (ع) منه في "السياسة المالية العامة"، حيث كتب الإمام علي (ع) إلى واليه "مالك الأشتر" يقول:

((وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فان في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله)) *(1) انتهى كلامه (ع).

المقصود بالخراج في المصطلحات الاقتصادية الحالية هوالضرائب، وهنا نلاحظ أن الإمام (ع) يلفت إلى أن الغرض من الخراج والضرائب هوالإصلاح الاقتصادي، كما يعتبر أن السياسة الضريبية الصالحة العادلة تؤدي إلى إصلاح حال الأمة، باعتبار أن ذلك يعالج الفائض الموجود في أيدي الأغنياء بالاقتطاع، في الوقت الذي يعالج فقر الفقراء بالإنفاق عليهم وسد حاجاتهم. ويعتبر (ع) أن الناس كلهم يعيلهم الأغنياء بما يؤدون من ضرائب وخراج، ولولا ذلك المال المقتطع من الأغنياء لما تم تامين الحاجات والمنافع العامة للأمة كلها.

وفي سياسة جباية الخراج أوالسياسة الضريبية يتابع (ع) في كتابه نفسه فيقول:

((وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا.)) *(2)انتهى كلامه (ع).

في الواقع هذا أبلغ ما كتب في علم المالية العامة، فالمقصود بعمارة الأرض تنميتها، وفي المصطلحات الاقتصادية الحالية هي " التنمية الاقتصادية المستدامة"، تلك التي تتحقق من خلال تدخل الدولة عبر السياسات الاقتصادية بهدف تحقيق نمومستمر للدخل القومي أو دخل الأمة. وأما استجلاب الخراج فهوالاقتطاع الضريبي في المصطلحات الحالية كما ذكر آنفا.

فالمقصود - والله العالم – هو أن التنمية أوعمارة الأرض قيد وشرط لا يتحقق تحصيل الخراج أو الضرائب إلا بتحققها،لأن التنمية أو عمارة الأرض تؤدي إلى نمو الإنتاج وبالتالي نموالدخل القومي أودخل الأمة، وهذا يؤدي إلى تحقيق الفائض الاقتصادي الذي يمكن اقتطاع الخراج أو الضرائب منه.

ثم يتابع الإمام (ع) كتابه إلى واليه فيقول:

((...فان شكوا ثقلا أوعلة أوانقطاع شرب أوبالة، أوأحالة أرض اغتمرها غرق أوأجحف بها عطش خففت عنهم، بما ترجوأن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك))*(3)انتهى كلامه (ع).

وهنا نلاحظ ضرورة تحقيق العدالة في التكليف الضريبي ودراسة الحالة المالية للمكلف، فالإجحاف الضريبي في حق المكلف ليس فقط خلاف العدالة الضريبية فحسب، بل هوسبب لنقص الحصيلة الضريبية. كما نلاحظ أن تخفيف العبء الضريبي عن المكلفين في حالات الانكماش والتعثر الاقتصاديين إذا أدى إلى انخفاض آني للحصيلة الضريبية، فانه يؤدي إلى حصيلة ضريبية وفيرة في جباية لاحقة، وذلك يشبه ترك الحب في سنبله إلى يوم فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.

ثم يتابع (ع) فيقول:

((مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم، معتمدا فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من اجمامك لهم(أي من إراحتهم)، والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به،فان العمران محتمل ما حملته،...)) *(4) انتهى كلامه (ع).

وهنا يؤكد (ع) على ضرورة المعاملة العادلة والحسنة للمكلفين بالضرائب، وضرورة الاقتطاع من فائض أوفضل أموالهم، الأمر الذي يعزز ثقة المكلفين بإدارة الخراج أوالضرائب. كما يشير (ع) إلى أن المكلفين بالضرائب والخراج عند شعورهم بالعدالة في التكليف الضريبي سيقفون إلى جانب حكوماتهم في الملمات والكوارث التي قد تقع على البلاد برمتها.

ثم يقول (ع) في كتابه نفسه إلى واليه متابعا:

((...وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع،وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر.))*(5) انتهى كلامه (ع).

وهكذا فجمع الحكومات لحصيلة ضريبية كبيرة ليس مؤشرا إيجابيا إذا لم ترافقه العدالة في التكليف الضريبي، بل على العكس من ذلك، فإذا ما بالغت الحكومات في فرض الضرائب فان الأوعية الضريبية ستتآكل إلى درجة قد نصل معها إلى دخل قومي –أو دخل للأمة -لا يمكن الاقتطاع الضريبي منه، لان ذلك الاقتطاع سيمس الحاجات الأساسية لاستمرار وجود الإنسان نفسه في المجتمع.

ثم يقول (ع) في موضع آخر من كتابه نفسه:

((ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيرا: المقيم منهم، والمضطرب بماله (أي المتردد بين البلدان)، والمترفق ببدنـه (أي المتكسب ببدنه)، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح (أي أنهم هم الذين يجلبون المنافع من الأماكن البعيدة)، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها،فإنهم سلم لا تخاف بائقته(أي لا يخشى دهاؤهم)،وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك)) *(6) انتهى كلامه (ع).

وهنا نلاحظ وصيته (ع) بالإحسان إلى التجار وأصحاب الصناعات، باعتبارهم أساس التنمية، ولان جهدهم هوركيزة الاقتصاد، فهم سبب النشاط الاقتصادي، ومن الجدير ذكره هنا أن طبيعة توجههم للضرب في الأرض والسعي في برها وبحرها وسهلها وجبلها لتحصيل الكسب يجعلهم مسالمين محتاجين إلى الرعاية والحماية وتوفير سبل السلامة والتشجيع من قبل الحكومات.

ثم يوصي (ع) بالفقراء في موضع آخر من كتابه نفسه فيقول:

((ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسى(أي شديدي الفقر) والزمنى (أي أصحاب العاهات)، فان في هذه الطبقة قانعا (أي سائلا) ومعترا (أي متعرضا للعطاء دون سؤال)، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم (أي أد لله حقهم)، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فان للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل ما قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر (البطر طغيان النعمة)، فانك لا تعذ بتضييع التافه لإحكامك الكثير المهم (أي انك مسؤول عن كل الأمور من صغيرها إلى كبيرها). فلا تشخص همك عنهم (أي لا تصرف اهتمامك عنهم)، ولا تصعر خدك لهم (أي لا تتكبر عليهم)......)) *(7) انتهى كلامه (ع).

نلاحظ براعة الوصف ودقة التمحيص في السلوك، حيث يعلمنا (ع) الرقابة على التصرفات من صغيرها إلى كبيرها وخاصة في معاملة الطبقة الفقيرة، فهو(ع) يأمر بالرعاية التامة لها، تلك التي فرضها الله سبحانه وتعالى، حيث يجب إعانتهم من الخزينة العامة للدولة ومن الإعانات المحصلة من دول أخرى، ويؤكد (ع) على أن يعامل قريبهم كما يعامل بعيدهم بغرض تحقيق العدالة في التوزيع بينهم.

لاحظنا أيها السادة والسيدات أن بضعة أسطر من كتاب كتبه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) إلى واليه على مصر "مالك الأشتر"، قد تضمن هذا البحر المتدفق من أصول الفكر والتطبيق في "علم المالية العامة ":

- حيث تضمن أساس فكرة الخراج أوالضرائب، وأكد على أن الغرض منها إصلاح الاقتصاد برمته، وأن السياسة الضريبية العادلة تصلح حال الأمة كلها.

- كما لفت إلى أن التنمية الاقتصادية وتشجيع النشاط الاقتصادي هوشرط لتحقق الفوائض التي يمكن اقتطاع الخراح أوالضرائب منها، وأن الاقتطاع الضريبي دون تنمية يؤدي إلى خراب البلاد وهلاك العباد.

- كما وجه إلى ضرورة النظر في الوضع المالي للمكلف بدفع الضرائب، وعدم الإجحاف بحقه، بل على العكس فقد أمر بالتخفيف عنه في حالات الركود والتعثر الاقتصاديين، لأن هذا يعود لاحقا بالخير على المكلف وعلى الحصيلة الضريبية.

- ثم يؤكد أن الفقر هوسبب هلاك الأمم، وغالبا ما يكون - في الظروف الاقتصادية العادية - بسبب الاقتطاع الضريبي غير العادل والذي يقوم على أساس فكرة جمع الأموال في الخزانات العامة دون النظر إلى الوضع الاقتصادي العام.

- ثم يشير إلى ضرورة المحافظة على مكانة التجار وذوي الصناعات وتشجيعهم وحمايتهم وتسهيل أعمالهم باعتبارهم أساس النشاط الاقتصادي، وبذلك يمكن المحافظة على ركائز التنمية الاقتصادية المستدامة،وزيادة معدلات نموالدخل القومي أودخل الأمة.

- ثم يأتي في موضع آخر من كتابه ليؤكد على رعاية الفقراء وضرورة الإنفاق عليهم وإعانتهم، لأن الفقراء يمثلون معظم الطلب الكلي على السلع والخدمات، فإذا لم يجدوا ما ينفقون فلن يجد التجار وذوي الصناعات مشترين، وبالتالي لوقفت عجلة الاقتصاد عن النمو.

وهكذا فالعدالة تؤدي إلى التكامل الطبقي لمكونات الاقتصاد عند أمير المؤمنين الإمام علي (ع)، فتبدأ من طبقة التجار وذوي الصناعات الذين يمثلون الطبقة المنتجة أو جانب عرض السلع والخدمات في الاقتصاد، لتنتهي بطبقة الفقراء الذين يمثلون معظم جانب الطلب على السلع والخدمات في الاقتصاد.

أردت من خلال ورقة العمل هذه أن أعرض قبسا من فكر الإمام علي (ع)، أفادنا تعالى وإياكم من تراثنا العربي والإسلامي، ومن الكنوز التي تركها رسول الله (ص).

* ورقة مقدمة الى المهرجان العالمي التاسع للإمام علي بن أبي طالب الذي عقد تحت شعار: النهج الاقتصادي للإمام علي عليه السلام.. دروس للحاضر والمستقبل في مدينة حمص في دولة سوريا

www.alferdaows.com

.....................................

المصادر:

*(1): نهج البلاغة، تأليف الشريف الرضي (رض)، تحقيق الشيخ فارس الحسون، مؤسسة البلاغ، دار سلوني، الطبعة الأولى، عام 2005م، صفحة (559).

*(2) المرجع السابق نفسه، صفحة (559).

*(3) المرجع السابق نفسه، صفحة (559).

*(4) المرجع السابق نفسه، صفحة (559-560).

*(5) المرجع السابق نفسه، صفحة (560).

*(6) المرجع السابق نفسه، صفحة (561).

*(7) المرجع السابق نفسه، صفحة (563).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 26/تموز/2009 - 3/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م