18 عاماً مرت حتى الآن على الرعاية الأميركية للتسوية في الشرق
الأوسط بدءاً بمؤتمر مدريد 1991 ومروراً بوادي عربة فأسلو 1993
وانتهاءً بخارطة الطريق2003 وأنابوليس 2005 ، ورغم ما صاحبها من آمال
عريضة لطوي الصراع العربي الإسرائيلي لكن النتيجة كانت واحدة في ظل
الانحياز الأميركي الفاضح والتعنت الإسرائيلي المتعاظم والانقسام
العربي الفاقع وهي المزيد من الحروب والضغوط على العرب، والمزيد من
التنازلات والقضم والهضم للحقوق الفلسطينية.
الغاية تبرر الوسيلة
بيل كلينتون انتهج سياسة المسارات المنفصلة والحلول الثنائية لكن
بوش الابن قام بهدم كل ما بناه من جسور ثقة مع العرب عندما قرر اعتماد
سياسية الحروب الإستباقية والمواجهة والإهمال والتجاهل المتعمد للقضية
الفلسطينية – أم القضايا- فكانت نتيجة ذلك المزيد من التورط الأميركي
في ملفات الشرق المتشابكة سياسياً وعسكرياً، والمزيد من الحروب الخاسرة
في العراق وأفغانستان وباكستان,وبروز منافسين كبار للنفوذ الأميركي
كروسيا والصين وأوربا والهند ليجد نفسه مضطراً في سنته الأخيرة لإبداء
بعض الجدية آملاً في إحراز تسوية ما في المسار الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
أوباما اليوم وهو يرفع شعار التغيير ويعد بمرحلة جديدة من التصالح
مع الشرق الأوسط يريد استكمال ما بدأه بوش بإصرار وعزيمة ظاهرها التقدم
باتجاه التسوية وباطنها إيجاد المخارج للورطات الأميركية بالشرق
المضطرب وما خلفته من أزمة مالية واقتصادية عالمية باتت تهدد أميركا
بالإفلاس والتفكك.
إذن فالاهتمام الاستثنائي بالتسوية في سنة بوش الأخيرة وسنة أوباما
الأولى ليس له علاقة مباشرة بالسلام، خصوصاً وأن الرؤية الأميركية
لازالت غائبة حتى الآن لسبب بسيط هو تشابك قضايا الأوسط الكبير
واستعصاء فصل مساراتها المتلازمة، ولذا نجد أوباما حريصاً على رفض
المسارات المنفصلة والحلول الثنائية في وقت تعتقد قيادة الجيش الأميركي
بأن حلاً للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي سوف يساعدها في كل من العراق
وباكستان وأفغانستان، بل وفي وضعه الأسيوي عموماً، خصوصاً وأنه يتواجد
في 21 دولة آسيوية.
الجنرال بتريوس قائد القوات الأميركية في معرض توضيحه لهذا
الاستنتاج خلص إلى أن الصراع الحامي على فلسطين يزيد من تعقيد الوضع
المتردي لقواته فيما إيجاد حل ما يساعده في الخروج من ذلك التدهور
وربما المساعدة على تحقيق الأهداف التي يسعى إليها, إن لم يكن كلها
فالرئيس منها؛ بمعنى آخر نحن أمام مرحلة فاصلة لتقرير مصير ومستقبل
النفوذ الأميركي العالمي سلباً أو إيجاباً لاسيما حينما تكون كل
الجبهات مشتعلة وتتكاثر أعداد القتلى والجرحى وتُسد آفاق الانتصار
العسكري أمام أميركا ولكن هذه المرة من بوابة الشرق الأوسط تحت شعار
الحل الإقليمي والسلام الاقتصادي في قالب جديد للعبة القديمة المتجددة
يحاول فيها أوباما التعامل بواقعية لاعبي الشطرنج مع السياسة بالتزامن,
أي منشغل في الوقت ذاته مع لاعبين آخرين إقليميين ودوليين، وحسب كيسنجر
فقد افتتح أوباما لعبته بنقلة غير مألوفة عندما مدَّ يَده التصالحية مع
العرب والمسلمين من قاهرة المعز وبات كل شي الآن منوطاً بما ستكون عليه
ردة فعل الطرف المقابل، ثم كيف يواصل أوباما لعبته، لكن المشكلة هنا أن
اللعبة حتى الآن تدور بين طرفين هما ملك الشطرنج الأوبامي والوزير
الإسرائيلي فيما الطرف العربي الفلسطيني المعني أساساً بالمواجهة لا
يزال غائبا وكان الأمر لا يعنيه ولا يتعلق بحاضره ومستقبله.
توافق وتناغم
ثمة حقيقة يتجاهلها الكثير وهي أن معظم تفاصيل العلاقات الأميركية
الإسرائيلية لا تجرِ في العلن وأن ما يجري في الكواليس أكبر وأعمق
وأكثر دلالة مما هو معلن لغايات دبلوماسية ,أي أننا أمام علاقة
استثنائية لها جذورها وشروطها ومحرماتها وإن وجدت هناك ثمة اختلافات في
بعض الأوقات فهي في التفسير وليس المبدأ حول ما إذا كانت رؤية أي منهما
تحقق مصلحتهما معا أو أحديها في الحاضر والمستقبل, ما نجد دلالته في
موقف اوباما ونتنياهو من التسوية وفق شروط وأولويات معينة وما إذا كانت
تصب في هذه المصلحة أم لا.
والمتتبع لموقفهما في الفترة الأخيرة يجد اشتراكاً فاقعاً إلى حد
التناغم في القضايا الأساسية، وتحديداً تلك المتعلقة بالمسار الفلسطيني
وهو أمرٌ مُعتاد خاصة في قضية يتقاسم فيها الطرفان الاهتمام والحوار
والمتابعة كما هو حال التوافق على الحق الديني والتاريخي لليهود في
القدس والدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح، ورفض أي ترتيبات في إطار
اتفاق سلام يمكن أن يهدد إسرائيل مستقبلاً، وحل قضية اللاجئين
الفلسطينيين خارج حدود الخط الأخضر ووقف كافة أشكال المقاومة المسلحة
والضغط باتجاه التطبيع والاعتراف بيهودية الكيان قبل الشروع في أي
تسوية، وبذلك يكون هذا الثنائي الرائع قد ألقى الكرة في الملعب العربي
في دلالة واضحة على مدى عمق أواصر الصلة بينهما، وعدم إمكانية انفصالها
لأي مبرر.
على أن الايجابية الوحيدة في موقف أوباما هو القبول المبدئي بالمضي
في التسوية بما يلبي طموحات أطرافها وينقل المنطقة إلى عهد جديد من
المصالحة لكن مع التأكيد على أنها ستكون شاقة وطويلة ومعقدة باستثناء
خلاف شكلي حول المستوطنات نفته استثناءات النمو الطبيعي ومقايضة
التجميد بالتطبيع والاعتراف كيما يُصار إلى مناقشة المواصفات السيادية
والأمنية للدولة الفلسطينية الموعودة ولكن في ضوء الوقائع الميدانية.
السلام الاقتصادي
إعادة صياغة العلاقات العربية - الإسرائيلية على أسس اقتصاديه جديدة
تحتل فيها إسرائيل موقع المركز والعرب موقع الأطراف, فإسرائيل الأكثر
تقنية بخبراتها وأموال النفط العربي واليد العاملة الفلسطينية الرخيصة
من شأنه تحويل إسرائيل إلى نقطة الاستقطاب والتصدير في نفس الوقت.
نتنياهو يطالب بإقامة مشاريع مشتركة ينفذها كيانه تتضمن تحلية مياه
الخليج العربي ونقل الغاز والنفط الخليجي إلى البحر الأبيض المتوسط عبر
فلسطين المحتلة واستغلال الطاقة الشمسية.
اوباما بدوره جدد مطالبته للعرب باتخاذ خطوات ذات مغزى وأفعال ذات
أهمية تساعد إدارته على التحرك نحو تحقيق أهدافها فيما يتعلق بالتسوية
الشاملة، وبما أن وزراء خارجية العرب قد أبدوا في 24حزيران /يونيو
الماضي الاستعداد لاتخاذ ما يلزم من خطوات لتسهيل مهمة أوباما لذا فهم
اليوم مطالبون باتخاذ خطوات ايجابية لإنهاء عزلة إسرائيل في المنطقة في
إطار مقايضة التطبيع بتجميد المستوطنات وليس تفكيكها أو إزالتها طبعاً
واللافت هنا أن ورقة التطبيع هي آخر ما تبقى لدى العرب من أوراق الضغط
والقوة وهي أيضاً جوهر المبادرة العربية ولذا بدا الرهان حولها جدياً
هذه المرة.
المقترحات الأميركية الأخيرة تضمنت مجموعة من الإجراءات ذات مغزى
بشأن المستوطنات مقابل خطوات ذات مغزى يتخذها الفلسطينيون بشأن نبذ
العنف ويعلن العرب بعض الخطوات باتجاه التطبيع لكن أميركا ستكون أمام
مهمة شاقة في إقناع الأطراف المختلفة بتحقيق هذا التتابع .
في التفاصيل ما يريده أوباما حالياً من العرب:
- السماح للطيران التجاري والمدني الإسرائيلي بالمرور من أجواء دول
الخليج العربي والعراق في رحلاته إلى بلدان الشرق الأقصى، وهذا من شأنه
تقصير المدة الزمنية والكلفة لكن العقبة في تحقيق ذلك هي الرفض السعودي
السابق والحالي خصوصاً وأنه المعني بهذا الطلب أكثر.
- اعادة فتح مكاتب لرعاية المصالح في تل أبيب والتي كانت تعمل في
الماضي في الخليج العربي وشمال إفريقيا والتي اضطرت لإغلاقها في
السنوات الأخيرة، وقد نشطت هذه المكاتب في كل من المغرب وتونس وعمان
وقطر والسماح لإسرائيل بفتح مكاتب للمصالح التجارية في سفارات دول أخرى
بعواصم عربية لا تُقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وتحديداً الرياض
وأبو ظبي.
- السماح باستقبال اتصالات الهواتف الخلوية الإسرائيلية على الشبكات
المحلية العربية ودخول السياح ورجال الأعمال الذين بحوزتهم جوازات سفر
تحمل التأشيرة الإسرائيلية أو أختام دخول وعقد اجتماعات مباشرة بين
كبار المسئولين والتبادل الثقافي.
- مطالبة العرب بتشجيع السلطة الفلسطينية على الاعتراف بيهودية
إسرائيل ودعم خيار التوطين للاجئين الفلسطينيين ودعم سلطة عباس على
بناء مؤسساتها ومواصلة محاربة الإرهاب ووضع حد للتشجيع عليه، وتشجيع
حماس على الإندماج في العملية السياسية ونبذ العنف.
الرد العربي كان متجاوباً في بعضه حسب ميتشل كدفعة أولية على حساب
تسوية سياسية شاملة فيما يرى البعض الأخر أنه لن تكون هناك مكافئة
مسبقة، ولذا فدرجة التجاوب العربي متوقفة على حجم الفعل الإسرائيلي
فيما يتعلق بالمستوطنات.
وبالعودة إلى قواعد التفاوض السليمة نجدها واضحة لجهة عدم المبادرة
لتقديم تنازلات لخصمك حتى لا يبدو أنك متلهف على التسوية ويتصور الخصم
أنك ضعيف فإن اضطررت لتقديم تنازل كبير حتى تحرك عملية التسوية لا
يمكنك أن تبادر بتنازل آخر للخصم قبل أن يقدم لك تنازلاً مُكافئاً وإلا
اصطبغ النموذج التفاوضي بهيمنة واضحة للخصم حتى نهاية العملية
التفاوضية.
ولكن ذلك في الممارسة العربية طبعاً بدا على النقيض تماماً ما
جعلهم مطالبين مع كل نقطة مفصلية بتقديم تنازلات محسومة لتحريك ركود
التسوية بحيث لم يتبقى لديهم من أوراق الضغط سوى ورقة التطبيع وهو
سلوك مدمر للمطالب العربية.
في ضوء المقايضة الأخيرة نجد أن المقابل تجميد أو وقف الاستيطان
وليس تفكيك المستوطنات التي تعد العقبة الرئيسية أمام إتمام التسوية ما
يعني أن الاحتلال مازال محتفظاً بأراضٍ استولى عليها في 67 والأخطر من
ذلك أن المستوطنات تمثل جوهر النظام العالمي لأمن إسرائيل، خصوصا وأنها
تحتضن 550 ألف مستوطن 300 ألف منهم في الضفة و250 ألف بالقدس الشرقية
بواقع 7%من يهود الكيان في حين أن نسبة النمو تتجاوز 3 أضعاف النمو
داخل الكيان فكيف بنا أن نتصور إسرائيل بدون مستوطنات وغير بعيد من ذلك
موافقة أوباما مؤخراً على بناء 2500 وحده استيطانية بالضفة.
كل هذا يشير باتجاه واحد لاسيما إذا ما عرفنا بأن القسم الأكبر من
المساعدات الأميركية لإسرائيل يذهب لصالح المستوطنات وهذا الاتجاه هو
ببيع اوباما العرب الريح مقابل تنازلات مجانية وحاسمة من شانها
المساعدة على تكريس الاحتلال بصيغ التفافية ومضللة والتأكد على مطامعه
في الأرض، والقبض على مستحقات السلام ومنع قيام أي ميزان قوي غير موات
لأميركا وإسرائيل ما يسهل أكل الحقوق وتصريفها.
عبارة بارزة
الرد العربي كان متجاوباً في بعضه حسب ميتشل كدفعة أولية على حساب
تسوية سياسية شاملة فيما يرى البعض الأخر أنه لن تكون هناك مكافئة
مسبقة، ولذا فدرجة التجاوب العربي متوقفة على حجم الفعل الإسرائيلي
فيما يتعلق بالمستوطنات. |