تأسست حركة عدم الانحياز في مدينة باندونغ الاندونيسية عام 1955
بمبادرة من اربعة رؤساء وهم تيتو اليوغسلافي وعبد الناصر المصري ولال
نهرو الهندي وسوكارنو الاندونيسي،وكانت الحرب الباردة في اوجها بين
القطبين الرئيسيين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
وحلفائهما،ولذلك جاء تأسيس الحركة في وقته ولأهداف تتلخص في الرغبة في
الحياد والحفاظ على الاستقلال الذي تحقق لبعض الدول مؤخرا حينها
والابتعاد عن التحالفات الدولية التي لا تنفع الدول النامية بل تجعلها
مقيدة ضمن شروط تلك التحالفات.
كانت الحركة مؤثرة في بداية تكوينها واستقطبت الكثير من دول العالم
الثالث وحتى لو بصفة شكلية فقد اصبحت مثل الموضة في حينها!واخذ البعض
يفتخر ولو بدون وعي او استقلال حقيقي في الانتماء اليها دون ان يعي
ماهيتها والاهداف الحقيقية الناشئة عنها لبناء عالم خال من الصراعات
الدولية والتي تتحكم به الدول الكبرى ووفق مصالحها.
لكن الان ومنذ انتهاء الحرب الباردة عام 1990 فقد انتهت صلاحية تلك
الحركة بشكل رسمي واذيعت شهادة وفاتها الحقيقية ولم يبقى سوى هيكل هزيل
لا يغني ولا يسمن كمثل جامعة الدول العربية، وبالتالي لم تعد لها تلك
الهالة التي تجعل الانتماء اليها فخر ومنهاج حقيقي للعمل السياسي الحر
وفلسفة جديدة للفكر السياسي المعاصر الخاص بالدول النامية والبعيد عن
النظريتين الرئيسيتين الاشتراكية والرأسمالية.
لكن هل فعلا هنالك عدم انحياز؟! سواء بعد تشكيل الحركة او في الوقت
الراهن؟!....
الجواب بكل تأكيد: كلا!...لم يكن هنالك عدم انحياز حقيقي الا لعدد
محدود جدا لايتجاوز عدد الاصابع للبلدان التي تتبع وبحق عدم الانحياز
والابتعاد عن التحالفات الدولية التي تفقدها استقلالها الحقيقي...
لكن متى بدأ ذلك الانحراف في دول حركة عدم الانحياز؟!...والاسباب
الناشئة منه؟....
للجواب على ذلك...نقول ان بداية التحول في استقلالية دول عدم
الانحياز الحقيقي لم يكن الان بل بعد عدوان 1956 على مصر وهي احد
البلدان الرئيسية في تأسيس الحركة!ولم يكن وليد النظام العالمي الجديد،
فمنذ ذلك العام تحولت مصر وبصورة شبه كلية الى المعسكر الاشتراكي
وبالتحالف مع الاتحاد السوفييتي الذي وقف بجانبها اثناء العدوان
الثلاثي وأن كان بصورة جزئية الا انه اخذ في الاتساع في بداية عقد
الستينيات وبالتالي لم يكن لمصر اي استقلالية حقيقية حينها ولم تعد
تحتاج سوى الاعلان الرسمي للتحالف مع دول المعسكر الاشتراكي واخذ
التحالف يأخذ ابعادا عسكرية واقتصادية اضافة الى المجالات السياسية
وخاصة بعد حرب 1967، ولكن بقي هامش الاستقلالية كبير لدى مصر،حتى جاء
التحول الكبير عندما طرد السادات البعثات العسكرية السوفيتية عام 1972
وهو بذلك يعني انتهاء التحالف مع ذلك المعسكر والذي استفادت منه مصر
كثيرا بعكس المعسكر الاشتراكي الذي لم ينتفع منها!.
اما التحول المصري نحو المعسكر الرأسمالي الغربي فهو كان عام 1974
بعد اتفاقات الهدنة مع اسرائيل وتبعتها زيارات نيكسون وكيسنجر ثم
التحول الى درجة التحالف الكامل مع الغرب بعد زيارة السادات الى القدس
عام 1977 وبدأ المقاطعة العربية ومنذ ذلك الحين فقدت مصر استقلاليتها
بصورة شبه كاملة ومازالت! وهي لاتستطيع الان حتى فتح معبر رفح امام
قطاع غزة من اراضيها او تمنع السفن الحربية الاسرائيلية من عبور قناة
السويس!،وهذا يدعنا الى طرح سؤال محير هو كيف لدولة بهذه التبعية تبقى
ضمن حركة عدم الانحياز منذ ذلك الحين وهي تتأرجح بين اليسار تارة ثم
اليمين تارة اخرى ثم تستضيف دول الحركة في مؤتمر على اراضيها؟!..
هذا نموذج فاضح لحال دول الحركة في الماضي فكيف الان والقطب الاوحد
في العالم امريكا قد وصل نفوذها الى اقصى بقاع الارض!..
اما الدولة الثانية وهي يوغسلافيا فهي رغم كونها شيوعية الا انها
بقيت مستقلة بحق عن المعسكرين حتى تاريخ انهيارها بصورة كلية عام 1991
وبالتالي انقسمت جمهورياتها الجديدة بين الاتجاه الغربي وهو لجميعها
ماعدا صربيا فهي بقيت ولاسباب عرقية موالية للروس الذين ينتمون للعنصر
السلافي !والجميع الان ليس قريب لحركة عدم الانحياز بأي صفة كانت رغم
انتمائها لها!.
اما الدولة الثالثة المؤسسة وهي الهند فهي رغم استقلاليتها الناتجة
من اتساع حجمها الجغرافي وضخامة عدد سكانها الا انها بقيت تميل بشكل
كبير الى المعسكر الاشتراكي بسبب كون الغرب مؤيد الى باكستان المنتمية
للحركة ايضا في صراعها ضد الهند، ومنذ عام 1998 وهو تاريخ امتلاك
باكستان للسلاح النووي ونتيجة لفرض الغرب عقوبات عليها، فقد اخذ الميل
الهندي للغرب اكثر وضوحا وتمليه عليها تطابق المصالح بين الطرفين وخاصة
محاربة التطرف الاسلامي في كشمير وافغانستان وباكستان،لكن هامش
استقلاليتها مازال كبيرا لحد الان.
اما الدولة الرابعة وهي اندونيسيا فقد كانت موالية للمعسكر
الاشتراكي وكان الحزب الشيوعي فيها قويا ويضم مئات الالاف من الانصار
الى ان حدث الانقلاب الدموي الذي اباد الشيوعيين برئاسة الجنرال
سوهارتو عام 1965 والذي اصبح رئيسا للبلاد عام 1967،وبالتالي تحولت
البلاد بصورة كاملة نحو الغرب وفقدت استقلالها بصورة شبه كاملة حتى
انها لم تستطع مقاومة الرغبة الغربية في منح تيمور الشرقية الاستقلال
عنها!ولكنها لحد الان ضمن الدول المنضوية في حركة عدم الانحياز كبقية
الدول الاخرى الفاقدة لشروط الاستقلال الكامل!.
هذا هو حال الدول المؤسسة للحركة وهي دول كبيرة الحجم وذات كثافة
سكانية عالية واقتصاد متنوع وتاريخ عريق وكل ذلك عوامل مساعدة للحفاظ
على استقلاليتها الكاملة،وهي الان فاقدة لها بنسب متفاوتة فكيف الحال
في بقية الدول؟!...انها فعلا مهزلة يرفضها العقل والمنطق.
هنالك دول اساسا تنتمي لاحد المعسكرين وهي منضوية تحت جناح
الحركة،فأي عدم انحياز هذا!...ومن الامثلة على ذلك كوبا البلد الشيوعي
الموالي لموسكو منذ عام1959 وروسيا البيضاء التي كانت ضمن الاتحاد
السوفييتي ومنغوليا البلد الشيوعي السابق وفيتنام وكوريا الشمالية
وغيرها من الدول الاخرى،اما بالنسبة للدول الموالية للغرب والمنضوية
تحت جناح الحركة فهي مثل الفلبين وتايلاند ودول امريكا الوسطى
وكولومبيا ودول الكاريبي الصغيرة،وهذه الدول لاتحتاج الى اثبات في
تحالفها او خضوعها للغرب وان كان ذلك ايضا بنسب متفاوتة.
اما دول القارة الافريقية فهي تابعة لاحد المعسكرين بشكل شبه
كامل،فمن بين الدول التي والت المعسكر الشيوعي،انغولا واثيوبيا
وزيمبابوي وموزمبيق وغيرها،وفي المقابل الغالبية مع العالم الغربي
ولانحتاج الى امثلة بسبب كثرتها ووضوح ولائها له كوضوح الشمس!.
دول العالم العربي:
الغريب في الامر ان جميع دول العالم العربي ومنذ تأسيس الحركة وهي
منضوية تحت جناحها وتتشدق بشعاراتها وكأنها علامة تجارية مسجلة تعود
بالنفع الكبير لدولها!وهي تعلم جيدا انها فاقدة لعدم الانحياز
واستقلاليتها قلبا وقالبا!،وهذا يدعنا الى التساؤل عن جدوى المشاركة
فيها اذا كانت تلك الحركة لاتستطيع مجرد التأثير في مجرى السياسة
الدولية.
لاتحتاج الدول العربية الى اثبات عدم تحالفها سواء مع الغرب وهو
للاغلبية او مع المعسكر الشيوعي ووريثته الان روسيا!...فدول الخليج هي
متحالفة مع الغرب وتحت حمايته ويعود له الفضل في تأسيس دولها والحفاظ
عليها وبالتالي لايوجد لها اي هامش من الاستقلالية او عدم
الانحياز،وكذلك الامر بالنسبة الى الاردن والمغرب وتونس واليمن
وموريتانيا وجيبوتي،اما ليبيا والسودان والجزائر فهم في حالة التأرجح
بين قطب موسكو والغرب وحسب الظروف السياسية وتقلباتها المعروفة،وتبقى
سوريا وهي بقيت وفية لموسكو وضد الهيمنة الغربية لمخالفته لها في
الصراع مع اسرائيل الحليف الاقوى للغرب في الشرق الاوسط.
بقيت الدول العربية خاضعة للنفوذ الخارجي الذي يدعم امنها خاصة في
كونها ضعيفة اقتصاديا وقدراتها العسكرية ليست كافية في ردع اعدائها
المحليين وبالتالي يبقى هاجس الخوف منها ومن المعارضة الداخلية
المتربصة بها وكلها دوافع تبقي حالة عدم الاستقرار في المنطقة وبالتالي
بقاء النفوذ الغربي فيها لدرجة تفقدها كل معاني الاستقلالية والحرية او
حتى العمل من اجل تلك الاهداف المقدسة لكل الشعوب.
تبقى بالتأكيد بلاد مازالت تناضل في سبيل البقاء بعيدة عن التحالفات
الدولية وتحافظ على استقلالها رغم كونه مؤذيا لها من بعض الجوانب وخاصة
الاقتصادية منه،ونذكر على سبيل المثال ايران وفنزويلا وبوليفيا
والاكوادور وغيرها وهي مستمرة في الحفاظ على حالة عدم الانحياز الا ان
ذلك لايعني نجاح سياساتها الداخلية والخارجية او حتى مثاليتها فهي ايضا
تحتمل نسبة كبيرة من الخطأ وحسب الظروف المتغيرة.
اعلان وفاة الحركة رسميا اكثر واقعية بدلا من جعلها جثة محنطة يعاد
عرضها للناظرين كل بضعة اعوام!!.......... |