الدكتور إبراهيم البيومي غانم يُعْتبَر من الكتّاب العرب القليلين
الذي تعرّف عن قرب على فكر المفكّر التركي أحمد داود أوغلو.
هو أوّل من وصف أوغلو بكيسنجر تركيا، بيد أنّه اعتذر عن هذا الوصف
بعد أن وصله عتاب بصورة غير مباشرة من زميله أوغلو الذي تعرّف عليه عام
1987 بحكم الزمالة في جامعة القاهرة قسم العلوم السياسية.
وتصحيحاً للخطأ، وإعطاء أوغلو حقه الطبيعي الذي يستحقه بجداره، كتب
البيومي مقالاً رائعاً في فكر أوغلو نشرته شبكة (إسلام أُون لاين) تحت
عنوان “أحمد داود أوغلو” وليس “كيسنجر تركيا”. الدكتور البيومي ترجم
كتابين لأوغلو صدرا سنة 2006 عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، الأول
بعنوان (الفلسفة والسياسة)، والثاني بعنوان (العالم الإسلامي في مهب
التحولات الحضارية).
نعترف إننا في منطقة الخليج نجهل هذه الشخصية الإستراتيجية التي
تعتبَر أكثر عمقاً في سعة الاطلاع والفهم لحركة التاريخ والعلاقات
الدولية من هنري كيسنجر الذي يُوصف بالداهية والمكر السياسي، كما يعتبر
أكثر معرفة من صاموئيل هنتينجتون صاحب كتاب (صدام الحضارات)، وكذلك
فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية (نهاية التاريخ).
لقد فنّد أوغلو نظريات العديد من المفكرين الغربيين، وكشف زيفها.
هنتينجتون في كتابه (صدام الحضارات) وصف تركيا بأنّها دولة أطراف ممزقة،
توجد على أطراف الغرب من جهة وعلى أطراف الشرق من جهة أخرى. وقد أراد
من وصفه هذا التقليل من مكانة تركيا من منظور الجيو بوليتيك (الجغرافيا
السياسية)، إلا أنّ أوغلو في كتابه (العمق الإستراتيجي) ردّ على
هنتيجتون قائلاً: “إن تركيا دولة مركزية، والدليل على ذلك هو تواجد
تركيا في مكان قريب من الجغرافيا التي تسمى (أفرو آسيا)، أي أفريقيا
وأوروبا وآسيا، فهي من الناحية الجغرافية دولة مركز وليست دولة أطراف،
وإن تركيا تقع وسط المكان الذي تشكّل فيه تاريخ الحضارات الموجودة في
المنطقة، وعندما نلقي نظرة إلى حضارة مابين النهرين والحضارات المصرية
واليونانية والإسلامية والرومانية والعثمانية نجد أن تركيا ليست دولة
أطراف، بل هي دولة تؤثّر في عدة حضارات وتتأثّر بها في الوقت نفسه، فهي
دولة مركز من الناحيتين التاريخية والثقافية”.
ويؤكد أوغلو إن الأبعاد الحضارية، والثقافية، والتاريخية،
والجغرافية، والدينية، لا تشكل عبئًا على تركيا كما يتصوّر البعض،
وإنّما تشكل في مجملها فرصة كي تقوم تركيا بدور فعال ليس فقط في النظام
الإقليمي المحيط بها، وإنما في النظام العالمي أيضًا.. أحمد داود أوغلو
يعتبر منظّر السياسة الخارجية التركية في ظلّ حزب العدالة والتنمية
الحاكم. وقد ساهم في إخراج تركيا من عزلتها السياسية وانفتاحها على دول
الإقليم، وجعلها تلعب دورًا إقليميًا فاعلاً، هذا الدور الذي حرمت منها
تحت ظل حكم العلمانيين طوال العقود الماضية.
عمل أوغلو مدرساً في جامعات تركيا، وكذلك في الجامعة الإسلامية
بماليزيا، اختاره رجب طيب أردوغان مستشارًا في السياسة الخارجية، وفي
أول مايو -الشهر الماضي- اختير وزيراً للخارجية. في عام 2001 نشر كتابه
(العمق الإستراتيجي: موقع تركيا الدولي). تتمحور فكرة الكتاب في أنّ
قيمة ومكانة أية دولة تنبع من موقعها الجيو-إستراتيجي وعمقها التاريخي،
ويركز معظم الأمثلة على تركيا، ويوصفها بالدولة المركزية كما أشرنا
إليها آنفاً.. ومن النظريات المهمّة الأخرى لأوغلو حسب وصف الكاتب
إبراهيم البيومي غانم هو اعتقاد المفكر التركي بأنّ الهيمنة الحضارية
سوف تنتقل من المحور الأطلسي إلى محاور أخرى لا تزال في مرحلة التشكيل،
تأتي في مقدمتها “المحور الباسيفيكي” حول الصين والهند واليابان، أو
المحور الحضاري الإسلامي، وفي القلب منه تركيا وإيران وباكستان ومصر.
في الواقع إننا بحاجة إلى الانفتاح أكثر على تركيا الجديدة، وإلى
معرفة عمقها الثقافي والعلمي والمعرفي، خاصة في الوقت الذي تتحرك فيه
تركيا بخطى حثيثة للتمسك بهويتها الإسلامية، والعودة إلى عمقها
الإسلامي. لكن الحاصل هو أنّ عالمنا العربي أخذ يسبح عكس التيار، فبدل
أن يتفاعل مع تركيا إستراتيجيًا، نراه يتفاعل معها فقط دراميًا عبر
مسلسلاتها المدبلجة التي أخذت تسيطر على فضائياتنا !. |