حتى مايو 1999 كان الحديث يدور عن سلطة حكم ذاتي مؤقتة، سلطة حكم
ذاتي تمثل مرحلة انتقالية (من الثورة إلى الدولة)، هكذا تعامل معها
ونَظَر إليها المخلصون من الوطنيين الفلسطينيين وتعامل معها كثير من
المؤمنين بالسلام، وسواء كان تعامل ونظر المؤمن بمسار التسوية الذي
أنتج السلطة أو تعامُل العاجز الذي ليس أمامه إلا التعامل مع السلطة
على هذا الأساس.
خلال هذه السنوات الخمس لم يُنجز السلام ولم تقم الدولة نتيجة
ارتداد إسرائيل عن العملية السلمية بعد اغتيال اسحق رابين ونتيجة أخطاء
فلسطينية، وبالمقابل جرت محاولات حرق قوارب العودة لمرحلة حركة
التحرر.خمس سنوات أحدثت انقلابا خطيرا وبوسائل جهنمية داخل المجتمع
الفلسطيني وحركته الوطنية، انقلاب على منظمة التحرير وتاريخها، انقلاب
على قيم وثقافة التحرر الوطني، انقلاب في مفهوم الأعداء والأصدقاء،
وانقلاب على مشروع السلام الفلسطيني نفسه، انقلاب وصل لحد تحرير دولة
الاحتلال من مسؤوليتها القانونية عن الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال
وتحويل هذه المسؤولية للشعب الخاضع للاحتلال-الفلسطينيون- ولأطراف
خارجية.
تحت شعار التسوية وبناء مؤسسات الدولة الموعودة فُرض على
الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال أن يبحثوا عن مصادر خارجية لإعاشة
أنفسهم بعد أن حرمهم الاحتلال من كل مقومات بناء اقتصاد وطني أو أية
إمكانية للاعتماد على الذات، سلبهم بالاستيطان الأراضي الزراعية
الخصبة وسلبهم مصادر المياه و حرية التجارة من خلال منعهم من التحكم
بالمعابر وتقييدهم ببروتوكولات باريس المُهينة، وحرمهم من التمتع
بمياههم الإقليمية وفضائهم الجوي، بعد أن حرمهم من كل ذلك قال لهم
أديروا أنفسكم بأنفسكم واثبتوا أنكم جديرون بدولة خاصة بكم!.في هذه
المرحلة برز دور وسيط السلام الذي تحول لسمسار بيع الأرض والحق
الفلسطيني، ظهر دور الجهات المانحة التي أبدت استعدادا لتمويل السلطة
ومؤسسات المجتمع المدني مقابل أن تستمر السلطة الوطنية بالوجود كبديل
عن الدولة الموعودة وان تثبت السلطة حسن نيتها، وهذه لا تكون إلا
بمحاربة الإرهاب ووقف التحريض والسكوت عن عمليات الاستيطان والتهويد.
انتهت المرحلة الانتقالية للسلطة وتراجعت فرص السلام العادل، وبدلا
من أن تعيد النخبة السياسية التي شاركت بالتسوية أو تلك التي قبِلت
بالتمتع بمنافع السلطة دون الاعتراف بالتسوية التي أنتجتها، النظر
بالسلطة وبالاتفاقات التي أوجدتها، بدلا من ذلك أصبحت هذه النخب أسيرة
بإرادتها للسلطة ومنافعها واشتراطاتها، بل أصبحت تتصارع على السلطة
ومنافعها.أصبح وجود النخبة السياسية والاقتصادية مرتبط بوجود السلطة، حتى
تلك القوى التي تقول بالمقاومة والجهاد كانت تحتمي بالسلطة بداية ثم
جعلت من السلطة هدفا لها وتَحوَّل الجهاد والمقاومة من جهاد ومقاومة في
سبيل الله والوطن لجهاد ومقاومة في سبيل السلطة، وحلت السلطة محل
الدولة و الوطن!.
وهكذا أصبح استمرار السلطة مشروطا باستمرار مساعدات الدول المانحة
من جانب بالسكوت عن عمليات الاستيطان وتهويد القدس وسرقة المياه، ومشروطا
باستمرار مفاوضات تغطي على كل جرائم الاحتلال.هذه الحالة تضعنا أمام
استنتاج : إن الأوروبيين والدول المانحة بشكل عام يلعبون دور السمسار
في عقد ضمني لبيع أو تفويت الأرض، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، من
خلال سكوت مَن يُفترض انه المالك والمؤتمن على الأرض- السلطة الوطنية-
على ممارسات المحتل والمعتدي والسارق للأرض- إسرائيل-.أو بصيغة أخرى
بات بقاء السلطة وما تقدمه من رواتب لموظفين كان يُفترض أن يكون
أغلبيتهم- وخصوصا موظفو الأجهزة الأمنية- مقاتلين ومجاهدين ضد الاحتلال،
وخدمات كان من المفترض أن تكون من مسؤولية الاحتلال، وامتيازات للنخبة
السياسية وخصوصا قادة وكوادر الفصائل والأحزاب هي أقرب للرشوة، بات كل
ذلك مرتبطا بما تتلقاه السلطة من تمويل من الجهات المانحة وخصوصا أطراف
الرباعية وعلى رأسها واشنطن.
وحيث أن الجهات المانحة تربط تمويلها بما تقوم به السلطة من تنفيذ
لالتزامات في إطار العملية السلمية، ومن بين هذه الالتزامات يأتي
التنسيق الأمني مع إسرائيل والتعهد باستمرار المفاوضات، وحيث أن قضية
الاستيطان والقدس واللاجئين أدرجت في اتفاقية أوسلو ضمن قضايا الوضع
النهائي، فمعنى هذا أن السلطة مُلزمة ومكرهة بالسكوت على ما تقوم به
إسرائيل بالنسبة لهذه القضايا.
خلال خمسة عشر عاما من وجود السلطة الفلسطينية، تراجعت الحالة
الفلسطينية على كافة المستويات: تراجع في الحقوق السياسية، تراجع في
مستوى المعيشة والحياة الكريمة، تدمير للبنية التحتية للمجتمع، محاصرة
وتشويه للمقاومة، فساد وإفساد في مؤسسات المجتمع المدني... ومع ذلك لم
نسمع عن توجه جاد لإعادة النظر في وجود السلطة، حتى حوارات المصالحة
الوطنية في القاهرة طغى عليها طابع المحاصصة وتقاسم مغانم السلطة بل و
تقسيم ما هو متاح من ارض تحت الاحتلال على حساب الحوار الجاد للتوصل
لتوافق وطني حول مشروع وطني يشكل حالة تمرد على السلطة إن تطلب الأمر.
يبدو أن إسرائيل ومن يواليها من الغرب، وبالرغم من كل التضحيات
التي قدمها الفلسطينيون، نجحت في تغييب فلسطين لصالح سلطة هزيلة بدون
سيادة وعندما اكتشفت استمراء النخبة السياسية للسلطة قامت بتقسيم هذه
السلطة لسلطتين وحكومتين، وكما أفسدت السلطة الأولى- سلطة أوسلو- حركة
فتح وفصائل منظمة التحرير فإن السلطة الموازية في قطاع غزة أفسدت حركة
حماس وبوتيرة أسرع مما جرى مع السلطة الأولى.
فهل تستحق السلطة كل هذا الثمن ؟ وما
العمل ؟ وهل يمكن الجمع بين السلطة و
المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني؟.
فبل شهر تقريبا طرح حزب الشعب وثيقة للنقاش تشكل رؤية إستراتيجية، وقد
اعتمدت هذه الرؤية على نقطتين رئيستين: الأولى الإعلان عن قيام الدولة
الفلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، و الثانية التمسك
بالحق بالمقاومة ولكن ضمن رؤية حضارية لا تقيد المقاومة بالعمل العسكري
فقط.هذا الموقف وإن كانت منسجما مع مواقف مبدئية قديمة للحزب حول العمل
العسكري وحل الصراع، فهي تستحق التفكير الجاد ويمكنها أن تشكل حلا
لحالة التردد والتردي التي تعيشها القوى السياسية.إنها رؤية وموقف كان
من المفترض أن تُقدم عليهم السلطة في مايو 1999 عند نهاية المرحلة
الانتقالية.
نعم يمكن تجديد مشروع السلام الفلسطيني واستنهاض الحالة السياسية من
خلال توافق فلسطيني على دولة فلسطينية في حدود 1967 وهي الأراضي التي
يعتبرها العالم أراضي محتلة وعلى إسرائيل الانسحاب منها، وان يتم
التوافق على المقاومة دون حصرها بالعمل العسكري بل يمكن وقف العمل
العسكري خلال العملية السياسية التي سترافق الإعلان عن قيام الدولة حتى
لا تستغل إسرائيل ذلك للتهرب من التزاماتها.
قد يقول قائل إن في ذلك نخل عن الثوابت ! ودعونا نتساءل ألم تعترف
منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بإسرائيل؟ألم
تعترف غالبية الدول العربية بإسرائيل حتى سوريا التي تجاوزت من حيث
المبدأ مسألة الاعتراف بإسرائيل ليتركز البحث حول حدود الانسحاب من
الجولان؟ألم ترسل حركة حماس أكثر من رسالة حول استعدادها للاعتراف
بإسرائيل- ولا داع للعب ورقة التمييز بين الاعتراف الواقعي والاعتراف
القانوني- ليس مقابل دولة فلسطينية في عزة والضفة بل مقابل دولة في غزة
فقط على شرط أن تصبح الحركة هي المحاور والمفاوض بدلا من منظمة التحرير
والرئيس أبو مازن؟ ألا تعني التهدئة وقف المقاومة؟أليست حركة حماس
وبقية الفصائل تعيش حالة تهدئة مع إسرائيل ليس فقط على مستوى فلسطين 48
حيث توقفت العمليات المسلحة منذ خمس سنوات تقريبا وبقرار سياسي، بل
توقفت العمليات حتى داخل الضفة ومن غزة، وهذا التوقف أيضا ليس نتيجة
التنسيق الأمني بل بقرار سياسي من حماس ؟.
نعتقد أن ما وصلنا إليه يحتاج لمصارحة جريئة ولا داع للاستمرار
بالتلاعب بالشعارات وببؤس ومعاناة الجماهير وبالحديث عن الثوابت،
فالثوابت هي ما تُجمع عليه الأمة، وحيث أن الأمة الفلسطينية ممثلة
اليوم بحركتي فتح وحماس وبقية الفضائل، فعلى هاتين الحركتين تحمل
المسؤولية واتخاذ الخطوة المطلوبة حول الدولة والمقاومة لتضع إسرائيل
والعالم أمام مسؤولياتهم، وللخروج من عبث السلطة وعبث المفاوضات وعبث
توظيف الفصائل لمبدأ المقاومة وعبث التلاعب الخارجي بقضيتنا الوطنية و
لوقف إذلال الشعب عبر المعابر وأمام مراكز وكالة الغوث للحصول على
(الكوبونة)، ولا داع للاستمرار بالهروب للأمام بالحديث عن صمود الشعب
وانتصاراته ولا داع لمنح إسرائيل مزيدا من الذرائع لتواصل الاستيطان
والتهرب من الالتزامات الدولية.
هذه الخطوة الفلسطينية محل التوافق لا تعني أن الدولة الفلسطينية
ستقوم مباشرة، بل قد تكون هذه الخطوة بالنسبة لإسرائيل بمثابة إعلان
حرب، ولكنها خطوة ستوحد الشعب الفلسطيني في إطار هدف مشترك، وستقطع
الطريق على مخططات الوصاية أو دولة غزة أو الخيار الأردني أو الدولة
ثنائية القومية في الضفة الغربية التي تفوح رائحتها من خلال تكرار
تصريحات مسئولين في السلطة عن الاستعداد بقبول المستوطنين والمستوطنات
كجزء من الدولة الفلسطينية.
Ibrahem_ibrach@hotmail.com |