يدور جدل عسير حول مستقبل الإئتلاف العراقي الموحد، الذي انفرط عقده
بالأصل منذ سنتين بعد انسحاب الكتلة الصدرية وكتلة الفضيلة وآخرين من
الحكومة والإئتلاف، وتباين الرؤى بين أقطاب حزب الدعوة الإسلامية
والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي ومنظمة بدر، بخاصة وأن الأخيرة تتهم
الحكومة بإبعاد أفرادها من مؤسسات وزارتي الداخلية والدفاع، واستقطاب
الدرجات العسكرية التي سرحها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، مع
العلم أن أغلب أفراد منظمة بدر هم من الجيش العراقي السابق الذين فروا
أو أسروا خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988م) أي أنهم جزء من
المؤسسة العسكرية القديمة، ويرون أن لهم الأحقية والأسبقية في شغل
المراكز العسكرية والأمنية.
وإذا تم تصنيف الإئتلاف على الشيعة العرب الذين يمثلون أكثر من ثلثي
سكان العراق، فان جبهة التوافق المصنفة على السنة العرب الذين يشكلون
ثالث مكون سكاني بعد الأكراد، هي الأخرى تتعرض لما يتعرض له الإئتلاف،
كما أن كأس الجدل شربت منه جبهة التحالف الكردستاني، وهذا الجدل وهو
طبيعي بحد ذاته وأمر إيجابي مرده بالدرجة الأساس إلى نتائج الإنتخابات
المحلية التي جرت في 31/1/2009م، والتي أفرزت خارطة سياسية جديدة على
مستوى مجالس المحافظات، لا تتفق كليا مع الخارطة السياسية على مستوى
مجلس النواب التي صاغتها انتخابات 30/12/2005م، فالتوزيع العددي لشركاء
كل تحالف سابق لا ينسجم كليا مع التوزيع العددي اللاحق لمجالس
المحافظات، وهذا بدوره سينعكس بشكل طبيعي على انتخابات مجلس النواب
العراقي التي ستجري في 30/1/2010م، بخاصة وأن الكتل السياسية الحاكمة
في العراق دخلت الانتخابات المحلية بعيدا عن التحالفات السابقة، مما
أفرز شكلا جديداً من الحكومات المحلية عكس حجم القبول الجماهيري لكل
قائمة انتخابية، وهو ما يضرب بالصميم التوزيع العددي للتحالفات السابقة.
ومن هنا فلا أعتقد أن مساعي الدكتور همام حمودي لتشكيل الإئتلاف
العراقي الموحد قبل نهاية العام 2009م، ستنتهي إلى نتيجة ترضي جميع
الأطراف، بخاصة الجهة التي ينتمي إليها، إذ لم يعد من المقبول على سبيل
المثال أن تتساوى داخل قائمة الإئتلاف الجديد مقاعد حزب الدعوة مع
مقاعد المجلس الأعلى ومقاعد منظمة بدر، أو تتفق نسبة مقاعد الكتلة
الصدرية مع مقاعد الفضيلة، لأن من يتحدث عن استحقاق انتخابي في قبال
المحاصصة الطائفية والعرقية، لابد أن يرضى بافرازات هذا الاستحقاق ومن
أي كتلة كان، وإلا ستعيش الكتل الحزبية الأزمة نفسها الحاصلة في الموصل
اليوم حيث تعمل الكتلة العربية الفائزة بأكثرية مقاعد مجلس المحافظة
وفق مفهوم الاستحقاق الانتخابي فيما تصر الكتلة الكردية على مفهوم
المحاصصة العرقية استصحابا للحالة السائدة في الحكومة المركزية حيث
المحاصصة المذهبية والعرقية، وهذا ما لا ينسجم بالأصل مع مفهوم
الانتخابات، ومع مفهوم العملية السياسية على مستوى مجلس المحافظة أو
مجلس النواب، وعلى مستوى الحكومة المحلية أو الحكومة المركزية، فالذي
يرضى بالعمل الحزبي بديلا عن الاستبداد والدكتاتورية فلابد أن يرضى
بالاستحقاق الانتخابي بديلا عن المحاصصة الطائفية والعرقية، فالعملية
الحزبية والسياسية هي سلسلة حلقات متصلة ببعضها تشكل قلادة في جيد
العملية السياسية إذا تشوهت في حلقة أعابت القلادة وأساءت للجماهير
التي تنتظر المزيد من الحكومة بغض النظر عن الحاكم والجهة التي ينتمي
إليها.
وهنا لابد أن ينتهي الجميع إلى قناعات لوضع العراق في خانة الدول
المستقرة سياسيا، ولعل من أبرزها إشاعة مفهوم العمل الحزبي السليم
لإدارة البلاد، مع العمل في الوقت نفسه على فتح باب الانتساب لجميع
العراقيين بغض النظر عن المعتقد والجنس والمدينة، ومثل هذا الحزب أو
التكتل أو الائتلاف هو القادر على تخليص البلد من أوهام تسلط الأكثرية
على الأقلية، بل أن من مظاهر النظام الحزبي المفتوح إمكان تشكيل حكومة
من قبل طرف محسوب على الأقلية، عرقية كانت أو مذهبية، دون أن يثير غضب
الآخرين بلحاظ دستورية النظام الحزبي، كما هو الحاصل في الباكستان على
سبيل المثال، فحزب الشعب الحاكم اليوم في باكستان والذي حكم في دورات
سابقة، يصنف من الناحية المذهبية على الشيعة، مع أن الشيعة في
الباكستان من الإسماعيلية أو الإمامية يشكلون أقلية في قبال المذاهب
السنية الأخرى. ولكن ما يجعل الأمر مقبولا في الباكستان أن المنظومة
السياسية تدار عبر التداول الحزبي السلمي للبلاد بعيداً عن مذهبية
الحزب، لأن حزب الشعب في باكستان فتح بابه للجميع، وهذا سرّ قوته
وديمومته رغم ما تعرضت إليه قياداته من اغتيالات ومذابح، والحكومات
المحلية التي تحت إدارته فيها من السنة والشيعة ومن أعراق مختلفة.
وبإمكان العراق وأي بلد آخر على شاكلته الاستفادة من التجربة
الباكستانية كبلد إسلامي متنوع الأعراق والطوائف والمذاهب، أي أن
الأحزاب السياسية في العراق لو تجاوزت عقدة المذهبية أو العرقية وصار
الوطن هو همها الأكبر واستوعبت المواطن، فانه من المقبول جدا أن يقوم
الحزب الإسلامي العراقي أو الجبهة العراقية للحوار الوطني وهما من
الأقلية السنية، أو الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني
الكردستاني وهما من الأقلية العرقية، أو القائمة العراقية الوطنية وهي
خليط مذهبي، أن يقوم أي من هذه الأحزاب بتشكيل حكومة وطنية مقفولة عليه
أو حكومة إئتلافية يكون هو على رأسها، بيد أن العملية السياسية هذه
مشروطة بالانفتاح الحزبي على العراقي كمواطن ينتسب إلى العراق، لا
كشيعي أو سني أو عربي أو كردي أو تركماني أو مسلم أو مسيحي أو من أي
أقلية أخرى كانت صغرت أو كبرت، وأن لا يمدَّن عينيه ويديه إلى خارج
الحدود، والأمر نفسه ينسحب على حزب الدعوة الإسلامية أو المجلس
الإسلامي الأعلى، أو أي حزب أو منظمة أو تيار أو كتلة أخرى محسوبة على
المذهب الإسلامي الشيعي.
وبالطبع فإن قيام مثل هذه الحكومات الحزبية لا يلغي خصوصية كل
محافظة أو إقليم من حيث التوزيع السكاني الديني والعرقي، فمجلس كل
محافظة متشكل من أبناء المحافظة نفسها والأمر نفسه ينطبق على الحكومة
المحلية، وهذا ما يعطي مساحة اكبر في الحركة السياسية وتوثيق وشيجة
الإيمان بأهمية العمل الحزبي وتشكيل الحكومة على أساسه بعيدا عن مساوئ
المحاصصة التي جاءت لتثبيت حقوق كانت غير معلومة الحدود في العهد
السابق.
ومن القناعات التي يفترض إشاعاتها في الوسط العراقي وأي شارع سياسي
آخر، أن العمل بالمنظومة الحزبية كأسلوب من أساليب الحكم، بلحاظ وطنية
الحزب وليس مذهبه أو عرقه، يحكم بالفعل والقوة، بضرورة إجراء
الإنتخابات الداخلية لكل حزب وإزالة أي سقف قيادي يمنع الحزبي من تبوء
أعلى المراكز الحزبية، أي الخروج من حالة تمركز القيادة الحزبية بيد
شخص معين مهما كان مركزه العلمي والإجتماعي وتجاوز الوراثة السياسية،
فكما لا نرتضي الوراثة السياسية في النظام الجمهوري الذي تبانى عليه
المجتمع دستورياً، فالأمر ينسحب على النظام الحزبي أيضا، فالزعيم له
احترامه، ولكنه هو الآخر خاضع للإنتخابات، والأمين العام للحزب له
موقعه السياسي ولكنه عند الانتخابات الداخلية يقف على قدم المساواة مع
المرشح الحزبي الآخر، فكما أن الأحزاب السياسية في النظام البرلماني
تتبادل المواقع بين انتخابات وأخرى، كذلك الأمر بالنسبة للقيادات
الحزبية، وإلا فليس من المعقول أن يتقبل الحزب العمل وفق المنظومة
السياسية القائمة على نظام الأحزاب والتكتلات، ويسد الطريق أمام
انتخابات داخلية لا تمس القيادة، بقطع النظر إن كانت القيادة ذات لباس
مدني أو ديني، إذ لا قدسية إلا للمعصوم، ولا أحد من القيادات الحزبية
أو رؤساء الكتل السياسية يدعي العصمة، والقيادة تأخذ شرعيتها من رضى
القاعدة.
صحيح إن مجتمعاتنا اعتادت أن ترى الزعيم واقفا على رجليه مدى الحياة،
ولكن من الصحيح أيضا أن ثقافة العمل الحزبي تفترض أن يتقبل الزعيم
مفهوم التغيير، والانسجام معه والعمل في إطاره وإسناد القيادة البديلة
إذا تقبلتها الخاصة والعامة، والإيمان في الوقت نفسه أن التغيير مفردة
دالة على الحركة والتحول، أي من كان زعيما في الأمس بإمكانه أن يعود
زعيما في المستقبل من خلال حسن الأداء والعمل، فكما أن الحكومات دول،
فالأحزاب دول، والقيادات دول، وكذا الحزب أو التكتل السياسي، إذا فشل
في كسب أصوات الناخبين في مرحلة انتخابية فليست هي نهاية الدنيا، كما
أن الحزب أو التكتل الفائز لا يشكل فوزه الظفر بمفتاح الجنة على طول
الخط، يسقي من كوثرها من يشاء ويرد من يشاء، فمن يكن اليوم حاكما فغدا
شريكا وبعد غد محكوما، وقد يكون المحكوم بالأمس شريكا اليوم، وحاكما في
المستقبل، وهذه هي سنة العملية السياسية والحزبية.
بالطبع لا ضير أن يدخل إبن الزعيم أو قريبه في الانتخابات الحزبية
أو البرلمانية فهذا من حقه كحزبي أو كمواطن، فلا يعد من الوراثة
الحزبية إذا فاز بزعامة الحزب وفق اللوائح الداخلية، ولا من الحظوة
العائلية إذا انتخبه الناس، ومن يطعن به، فالأمر يعد من الأمية الحزبية
ومن العمى السياسي الذي لا يميز بين الوراثة السياسية والاستحقاق
الانتخابي، ولهذا فإن أية شخصية عراقية تريد أن تلعب دورا في العملية
السياسية وتتبوأ مقعدا رياديا داخل الحكومة أو داخل كيانها الحزبي أو
الإتئلافي وتقطع دابر الذين يغمزون من قناة الوراثة السياسية والقيادية
لابد كخطوة أولى أن تحظى بمقعد في مجلس النواب العراقي ومنه تنطلق في
العملية السياسية في دوائرها الأوسع.
أما أن يعمد زعيم الأمس إلى تشكيل حزب بديل، فإنه يضع في ناظر الناس
أكثر من علامة استفهام، لأن تشكيل حزب جديد يفهم منه عدم القبول
بالإنتخابات التي أظهرت قيادة جديدة داخل حزبه أو تياره، وهو يعكس في
الوقت نفسه عدم قدرة الحزب أو التيار أو الزعيم على تثقيف الأمة بأهمية
النظام الحزبي في تلافي تداعيات نظام الحزب الأوحد والقائد الأوحد،
فنظام الأبوة الحزبية يتعارض مع مفهوم تداول الزعامة الحزبية وتبادل
السلطة السياسية، إلا إذا كانت هناك اعتبارات أهم تصب في خدمة العملية
الانتخابية والسياسية، ولا تشكل تمزيقا للحزب ولا للصف الوطني الذي
يشتد عوده بقلة الأحزاب وكفاءتها لا بتوالدها القططي!
من هنا فإن من يريد أن ينتظم في العملية السياسية في العراق أو في
أي بلد آخر يؤمن بالعملية الإنتخابية، عليه أن يكون حراً في الإختيار
وصريحا مع الجماهير وأن يقبل بما تفرزه الاستحقاقات الحزبية
والإنتخابية، قائداً كان أو قاعديا، وإلا عاد الوطن إلى مربع الإستبداد
الأول ولكن بأبدان أخرى حاسرة الرأس أو معممة!
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk |