إن الفلسفة لا تتبلور في الحدائق
الكبرى أو في الطرق، وإنما داخل المدن والشوارع
جيل دولوز
لم يهتم الفلاسفة كثيرا في الماضي بمؤسسة المقهى رغم أن البعض منهم
دونوا نصوصهم واجتمعوا بمريدهم فيها ولم تنزل الفلسفة من أرستقراطيتها
المعهودة إلى الشارع وتمارس الأرضنة سوى في منعطفات تاريخية معدودة.
بيد أن المقهى ظاهرة فلسفية تسترعي الانتباه وتحضر بكثافة هذه
الأيام فهي موجودة في كل مكان وأعدادها تتزايد عام بعد عام وكذلك
الحاجة إليها باتت ملحة لتحولها الى مرآة عاكسة للمجتمع وتعبير عن نبض
الشارع حيث يجلس فيها الشباب الحالم والعاطلون الباحثون عن موطن شغل
والمرأة التائقة نحو الحرية والكهول الذين يروحون عن النفس ويمضون
أوقاتهم في التندر ومبادلة الحكي عن التجارب والسير الذاتية.
إن المقهى سؤال فلسفي بامتياز لأنه عوض مكان الالتقاء التقليدي في
السوق ودار العبادة والندوة ودار الثقافة وانه يلعب دورا إدماجيا
تأطيريا كبيرا وله كذلك وظيفة علاجية نفسية تخص المراهقين والعاملين
واليائسين من المتقدمين في السن والمرضى حيث يزرع فيهم المقهى الأمل
ويجدد لهم الحياة ويبعث فيهم النشاط ويغذيهم بالجديد من المعلومات
المستقاة من الشائعات والأحاديث المتبادلة.
ليس المقهى مكان للعب والنجوى فقط بل هو أيضا مكان للتواصل والتربية
والحوار وبناء الرأي العام وتفعيل مؤسسة الصداقة ولذلك كان متناقضا من
حيث الجوهر مع الغربة والإقصاء والصراع والتهميش.
ولكن ما المقصود بالمقهى؟ كيف يتحول المقهى إلى مكان للاغتراب
والتنميط والاستبعاد؟ أليس المقهى مكان للظهور الاجتماعي والوجود في
العالم؟ ما الفرق بين مقاهي الأغنياء ومقاهي الفقراء؟ ألا يوجد مقهى
شعبي وآخر ثقافي؟ ما دور المقاهي في عملية التأطير السياسي والتغيير
الاجتماعي؟ هل يحدث صراع فعلي بين المجتمع المدني والدولة حول المقهى؟
كيف أمكن للمقهى أن يفتك المكان الذي كان يلعبه المجسد؟ ما يعني الحديث
عن مقهى فلسفي أو مقهى الأنترنت؟ وهل ينبغي أن يخضع المقهى للرقابة
والتأطير أم تمنح الحرية الكاملة للجالسين فيه من أجل الكلام والتفكير
والفعل؟
المقهى ظاهرة مستحدثة ارتبطت على ما يبدو بتشكل الطراز الجديد من
المدن يجتمع فيها المواطنون وجاءت لتعوض الفضاءات التقليدية التي كان
الناس يلتقون فيها مثل النوادي ودور الندوة والخمارات ودور العبادة.
وتعتبر مسألة انتشار المقاهي في التجمعات السكنية الصغرى والأرياف
في شتى أنحاء العالم تكريسا لقيم العولمة وغزو نفس التمظهرات جميع
أرجاء المعمورة. ويتشكل المقهى أولا من مجموعة من الحرفاء الذين يرغبون
في تمضية البعض من وقتهم في استهلاك بعض المواد والمشروبات وثانيا
أصحاب المقهى الذين يوفرون لهم ما يطلبون وثالثا النادل الذي يلعب دور
الوسيط بين الطرفين ويحاول إرضاء الحرفاء باستلطافهم حينا ومشاركتهم
الحديث أحيانا أخرى.
اللافت للنظر أن الجلوس على المقهى لفترات طويلة في اليوم هو علامة
ركود اقتصادي وسبات أنثربولوجي وأن الإدمان على لعب الورق دليل تخلف
وأن الإقبال على استهلاك الكلام يمثل مناخا مساعدا على صنع الظن الكاذب
بالأغيار ونشر الإشاعة وأن الأجدى هو ترشيد فترات تواجد الفرد في
المقهى وتحقيق المصالحة بين المقهى والمجتمع والعمل على تحويل المقهى
إلى فضاء تنشيطي تلقائي يساهم في نشر الثقافة والوعي وحسن الانتفاع
بهذه المؤسسة الاجتماعية العفوية من أجل تنمية الذوق وتهذيب الحس
وتوفير الفرص ودمقرطة المعلومة.
إن تنوير الحشود يمر حتما عبر المقهى وان المقهى وجد من أجل خدمة
هذه الغاية وان إبرام الصفقات الاقتصادية وتعزيز روح التعاون بين
المؤسسات والشركات يتم في المقهى. إن كل شيء يبدأ من المقهى بما في ذلك
الصالح والطالح ، النافع للناس والضار بهم وان الشرارة الأولى للثورة
تندلع منه.
إن المقهى مسطح محايثة الفكر وشرط توليدي للقول الفلسفي وان
الفلسفة لا تنبجس في الأبراج المشيدة وفي الأنساق المجردة بل مرتبطة
بالحياة اليومية وبغبار الشارع وعرق الكادحين وزفرة الانسان المضطهد
وأحلام الشباب وتطلعات المارة.
ما يستدعي الانتباه بالنسبة إلى الفكر الباحث عن منظومات معرفية
مغايرة وآليات متطورة للتفكير هو التوقف عند كل الأمور الجوهرية
والعرضية، الآنية والمنقضية والمقبلة التي تخص ظاهرة المقهى وتقليب
الأمور والأدوار على جميع وجوهها واستنطاق مناطق الصمت في كل كلام
والاستجابة فورية لكل نداء يرسله الوجود، وما يستحق التركيز بالنسبة
إلى الفعل المفتش عن ظروف مواتية للانجاز هو الاعتبار من كل الأشياء
الثمينة والمبتذلة التي توجد في المقهى واستخلاص الدروس والعبر من كل
شاردة وواردة في السير والحكايات والقصص.
وحده الفكر المتسائل حول منزلة المقهى من العالم ودوره في المجتمع
وزمانية حضور الفرد فيه يمكنه أن يتقن لعبة الوجود المسلية في التخفي
والظهور، ووحدها الذات الإنسانية القلقة يمكنها أن تقيم تحت شجرة
الحياة الوارفة وتخوض تجارب استنبات قيم المغايرة المؤمنة بالانفلات،
ووحدها الفلسفة النقدية المعاصرة تستطيع أن تتدارك ما فاتها وأن تثبت
نزوعها اللامحدود نحو اللانهائي وتتقن تجربة التجاوز المستمرة وتطلق
حركة السؤال مثل رقاص الساعة الذي لا يتوقف أبدا.
تستعمل السلطة المقهى لتركيز آليات النظام التي تريد إرسائه في
المجتمع وتوظفه أيضا في نشر قيمها وثقافتها الرسمية ولكن في المقابل
يلجئ المعارضون لها إلى نفس الوسيلة من أجل تعريف الناس بأفكارهم ومن
أجل بناء الوعي النقدي وتكوين رؤية نظرية شاملة للواقع الموضوعي الذين
يعيشون فيه.
إذ بدون التجذيف ضد التيار تتحول حياة الإنسان إلى ضرب من الآلية
وبدون التفجع من كدر الزمان يبدو الإنسان ثقيل الظل غارقا في أضغاث
أحلام وأمنيات لا تتحقق، وبدون التفكير تصبح الحياة لعبة فارغة وغير
جديرة بأن تعاش وبدون السؤال يكون الوجود غير مفهوم وفارغ من كل معنى
وبدون الكتابة والتدوين وحبك النص تظل الأفكار مجرد خطاب وتقف اللغة
عند مجرد تنضيد الكلمات تبوح بها الأفواه.
إن المقهى مكان الفردنة والحميمية حيث يكون المرء عند نفسه وحيث
يتدافع الناس إلى أماكنهم المفضلة وينتقون الكراسي الملائمة. انه شرفة
يطل منها الجميع على الكون بدون تحفظ ويمارسون فيه طقوسهم اليومية. ما
أروع أن يكتب الشاعر قصيدته في زاوية جانبية من مقهى المدينة وما أسعد
ذلك المقهى بذلك الشاعر الذي يصوره بلغته وينقذه من النسيان.
كيف يتحول المقهى إلى مكان للمطالعة وحوار الأجيال والتثاقف بين
المجموعات والتواصل بين الأنماط؟ وماهو التعديل الذي ينبغي أن نجريه
على مقاهينا حتى لا يكون تكاثرها أمرا سلبيا؟ متى يكون المقهى المكان
الذي يطرد فيه المرء الحيرة والاضطراب ويستجلب الراحة ويوقظ فيه ملكة
السؤال؟ أليس المقهى مهبط الإلهام الآدمي؟ وألا ينبغي أن يتحرر المقهى
من منظومات التعبئة والديماغوجيا التي تمارس عليه؟
فإذا تعذر علينا تصور مجتمع ومدن دون مقاهي فإن مقهى السؤال والمعنى
هو ما تنشده الفلسفة ويحاول الفكر الحاذق فرضه في الواقع. فمتى تكف
مقاهينا عن تكريس الابتذال والتفاهة وتلعب الدور التربوي الحقيقي الذي
ينبغي أن تقوم به؟ وكيف تتحول من مكان لإعادة إنتاج ماهو سائد إلى فضاء
استشرافي يتصور فيه الناس ماهو أفضل؟ ومن سعيد الحظ الفائز بقهوة
فلسفية والقادر على إنتاج فلسفة من المقهى؟
* كاتب فلسفي |