من وصايا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لعامله
على مصر مالك الأشتر، التي يؤكد فيها على التنمية والإعمار بقوله:
(وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنَّ ذلك
لايدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك
العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا).
الدارسين والباحثين في حياة العظماء من الرسل والانبياء والأئمة
الاطهار، أو حتى المجددين والعلماء في شتى الميادين، عليهم ان يبرزوا
الجانب الفاعل الذي يتلاقح ومسيرة الحياة الحاضرة، لصنع جسرا من
التواصل بينهم من جهة الماضي، وبين الإنسانية جمعاء في صيغة الحاضر من
جهة أخرى، فيولد إذ ذاك المستقبل نضرا يانعا، تنعم في جواره الإنسانية
بحياة كريمة.
وعل المتعرضين لحياة الرسول والائمة (ع) أدركوا العمق الجوهري الذي
تحتويه شخصياتهم الشريفة، والمحور الذي يتحركون فيه، فهم رجال لاتأخذهم
عن ذكر الله سبحانه شاردة او واردة، وهذا إنما يجيء بدلالة مفادها انهم
سيتحركون وفق ما يريده الله جل في علاه، وسيعملون وفق ما أوصى به، أي
سيكون هذا كله في جانب البشرية ومستقبلها الآتي، إذ كل ما يأمر به الله
سبحانه وتعالى ما هو إلا في صالح الإنسانية جمعاء، ولاريب في ذلك.
لذا نرى من جملة التفاصيل المهمة في وصايا وتعاليم الإمام علي بن
أبي طالب (ع)، وهو الذي تورث العلم المحمدي العظيم؛ في الكلمة أعلاه
التي أشار بها إلى مالك الاشتر (رضوان الله عليه) حين ولاه على مصر،
ففي معرض الكلمة إشارة مهمة إلى دور القائد والمسؤول إتجاه الرعية، وهو
دور اجتماعي وسياسي لاينفك عن كونه دورا دينيا إلى جانب ذلك نرى
التعايش والفكر العميق من خلال السياق النصي للكلمة بقوله: (وليكن نظرك
في عمارة الأرض) فالإعمار ديدن الدين الإسلامي كما هو واضح من خلال
الأحاديث الشريفة التي حث عليها الرسول الله (ص) وكما طبقت نصيا عن
طريق القرآن الكريم وهذه الاحاديث الشريفة في فترة خلافة أمير المؤمنين
(ع)، وجعلها كلمة مرادفة للواقع العملي، فإلامام (ع) أراد ان يقول
بكلمة واضحة وعبارة جلية ان قول الخليفة عليه ان يكون مصداقا لفعله،
وفعله مصداقا لقوله، فما أهمية القول دون الإتيان بفعل، فالتفقه بالدين
وحث الناس على عبادة الله سبحانه وتعالى، دون الإلتفات الى حياتهم
وهمومهم اليومية، ومن هذه الهموم الاقتصادية منها والاجتماعية
والسياسية. ما هو إلا سعي في طريق قتل الانسان، وبالتالي قتل الدين،
لنخرج بنتيجة مغايرة عما أرداه الله سبحانه وتعالى عن طريق نبيه الكريم
(ص).
وتستمر الكلمة (الوصية) حتى تصل إلى مفصل مهم بقوله: (وليكن نظرك في
عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنَّ ذلك لايدرك إلا
بالعمارة) فها هنا تتضح لنا موازنة مهمة يرتأيها أمير المؤمنين في
وصيته، فإثقال كاهل المواطن بالخراج (الضريبة) او ما يسمى اليوم أيضا
بالحقوق المدنية والواجبات الوطنية، إذ لكل مواطن حقوق وعليه واجبات
اتجاه الدولة، فنرى ان الامام علي (ع) يوصي بسداد الحقوق الخاصة
بالمواطن قبل الالتفات إلى الواجبات التي تقع عليه. وهذا يضعنا في حيرة
مما نراه من إدارة لدول اليوم، فمن المؤسف جدا ان نسمع مثل كلمة: مصلحة
الدولة فوق الجميع، دون ان نسمع يوما، حقوق المواطنين فوق كل شيء، وهذا
يترائى جليا في ما جاء اعلاه من وصية خليفة المسلمين والحاكم الرسمي
لهم ومصرف امورهم الاقتصاديا والسياسية، مفضلا المصلحة البشرية
الانسانية على المصلحة التي تخص الدولة كجبابية الضرائب وغيرها. في
الوقت الذي كانت فيه الدولة تفتقر للإمكانيات المتاحة اليوم، من التطور
العلمي والتقني وسواه من العلوم المهمة التي تتيح للقائمين على إدارة
الدول في معرفة الاسباب والنتائج التي تخص المشاكل الاجتماعية للوصول
إلى الهموم اليومية للمواطنين ببساطة تامة دون اي صعوبة تذكر، مع إيجاد
الحلول الكفيلة بإنهاء أي ازمة كانت.
وإذا ما تابعنا تتمة الوصية في قوله: (ومن طلب الخراج بغير عمارة
أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا). فهنا نجد
الإشارة واضحة في ربط الإمام (ع) بين الاقتصاد والسياسة، إذ من الصعب
جدا المحافظة على أمن الدولة مع اقتصاد متردي، وخدمات معدومة، فهذا
بدوره كما قال عنه الإمام (ع) يخرب البلاد، وبالتالي هو طريق لأن تهلك
فيه العباد، ثم يردف العبارتين السابقتين بين خراب البلاد وهلاك
العباد، ليخرج بنتجية حتمية مفادها، لايستقم امره إلا قليلا، وهي إشارة
توضيح دالة على القصر الزمني لعمر الدولة التي تتبع العكس في الوصية
التي اقرها أمير المؤمنين (ع). وان اي محاولة تدفع في اتجاه إطالة عمر
هذه الدولة ما هي إلا محاولة فاشلة في إحياء جسد ميت منذ البدء.
لقد كان سلام الله عليه في هذا المكان وسواه، دليلا واضحا وحيا على
تجدد الفكر الإسلامي وتفاعله مع الواقع، ومنهجا خلاقا في سبيل الارتقاء
بالانسانية جمعاء، وطريقا منيرا للوصول إلى الله سبحانه وتعالى. |