المقدمة:
جاء صدور قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة
2005، ليعد أنعطافاً جذرياً في تأريخ النظام الجنائي العراقي، لكونه
تضمن جرائم لم يجري توصيفها بمفهومها الدقيق في قانون أصول المحاكمات
الجزائية (23) لسنة 1971 وقانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969، بغية
ملاحقة مرتكبي جرائم التهطير العرقي (الجينو سايد) ومعاقبتهم جزائياً،
ومن هنا عرف قانون المحكمة {جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد
الإنسانية، وجرائم الحرب، وإنتهاكات القوانين العراقية}، وإستناداً إلى
معايير القانون الدولي، ومنها: -
1. إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
2. إتفاقيّة عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
3. مبادئ التعاون الدولي في تعقب المذنبين بإرتكاب جرائم حرب وجرائم
ضد الإنسانية وإعتقالهم وتسليمهم.
4. النظام الأساسي للمحكمة الدّوليّة ليوغسلافيا السّابقة.
5. النظام الأساسي للمحكمة الدّوليّة لرواندا.
6. نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدّوليّة.
ونظراً لخطورة هذه الجرائم فلا بد من منع إرتكابها مجدداً من خلال
عدم سقوطها بالتقادم الزمني وتحديد المسؤولية الجنائية الشخصية وإلغاء
الحصانة التي يتمتع بها المتهم ومهما كانت صفته الرسمية وحظر شمول تلك
الجرائم بالعفو لأي سبب كان مع توفير الضمانات المطلوبة لتحقيق العدالة
الناجزة في جميع مراحل المحاكمة وتنفيذ الأحكام حسب قواعد الإجراءات
وجمع الأدلة والمبادىء العامة الجنائية.
قضية الكرد الفيليين: -
عانى الكرد الفيليين من ظلم مضاعف نتيجة لكونهم جزء أساسي مهم من
مكونات الشعب العراقي، ومن أقسى حملات التطهير العرقي خلال عهود
الحكومات العراقية المتعاقبة على السلطة والنظام المباد تحديداً، فقد
بدأت سلسلة الجرائم بحقهم منذ صدور قانون الجنسية العراقية رقم (42)
لسنة 1924، ولكن الإختصاص القضائي للمحكمة الجنائية العراقية العليا
إقتصر على الجرائم المرتكبة خلال الفترة من 17/7/1968 ولغاية 1/5/2003،
حيث جاءت متتالية بشكل زمني، مع صدور الدستور المؤقت في 21/9/1968...
إذ نصت مادته (20) على ما يأتي: -
أ ـ الجنسية العراقية يحددها القانون، ولا يجوز إسقاطها عن عراقي
ينتمي إلى أسرة تسكن العراق قبل 6 آب عام 1924 وكانت تتمتع بالجنسية
العثمانية، وأختارت الرعوية العراقية.
ب ـ يجوز سحب الجنسية عن المتجنس في الأحوال التي يحددها قانون
الجنسية.
وتفسيرها إسقاط الجنسية العراقية عما لم يكن عثماني الجنسية سابقاً،
وبالتالي سحب التجنس من الفيليين وإعتبارهم أجانب وإبعادهم إلى خارج
البلاد رغم تعارضه مع مبدأ المساواة بين العراقيين المكفول دستورياً،
كما أن المادة (66) من الدستور، أشترطت [على كل من رئيس الجمهورية
ورئيس الوزراء ونوابه والوزراء حين توليهم مناصبهم أن يكون عراقياً ومن
أبوين عراقيين ينتميان إلى أسرة تسكن العراق منذ عام 1900 وكانت تتمتع
بالجنسية العثمانية، وأن لا يكون متزوجاً من أجنبية]، ومعناها حرمان
الفيليين من حق المشاركة في الحياة السياسية والشؤون العامة، ومنعهم من
تولي المناصب الحكومية الرفيعة خلافاً لأحكام الدستور ذاته، وهكذا
إتضحت النوايا، بشن حملة تهجير أستهدفت أكثر (70.000) ألف كردي فيلي
للأعوام {1969–1970– 1971}، لتكون نقطة البداية في مسلسل الإنتقام
وتصفية الحسابات ضد كل شارك في مقاومة إنقلاب البعث في الثامن من شباط
في عام 1963 أو عارض نهجه السياسي بالإنتماء إلى الحركات الوطنية
العراقية وكان الكرد الفيليين على رأس القائمة، إضافةً إلى ضرب حركتهم
التجارية والصناعية الفعالة في عصب الإقتصاد الوطني.
وفي 16/7/1970 صدر دستور مؤقت آخر، وتضمنت الفقرة (أ) من المادة
(42) من هذا الدستور، سن مجلس قيادة الثورة قرارات لها قوة القانون دون
أية رقابة أو مساءلة، فصدرت سلسلة من التشريعات ذات الصلة بالجنسية،
والرئيسة منها ما يأتي: -
أولاً: - القانون رقم (147) لسنة 1968 {قانون التعديل الثاني لقانون
الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963}، والقرار رقم (413) في 15/4/1975
وبموجبهما منعت السلطة القضائية من النظر في الدعاوى والمنازعات
الناشئة عن تطبيق أحكام قانون الجنسية، وإجيز الإعتراض على قرارات وزير
الداخلية لدى رئيس الجمهورية ويكون قراره قطعياً، وترتب عليه إلغاء حق
المواطن في التقاضي ومراجعة المحاكم والإلتجاء إليها، وإنتزع منه حق
الدفاع القانوني المكفول له دستورياً وفي المواثيق الإنسانية الدولية،
وأدى الأمر إلى تقويض دور القضاء وتحجيم نزاهته وإستقلاليته وخضوعه
للإرادة الحاكم وتبعيته المباشرة للسلطة التنفيذية في خرق صارخ لأحكام
الدستور، وبالتالي لن يستطيع الفيلي التمييز والإستئناف ضد قرار إسقاط
جنسيته وإبعاده إلى خارج البلاد ومصادرة أمواله وممتلكاته وحجز أبنائه.
ثانياً: - القرار رقم (180) في 3/2/1980، إذ تضمن شروطاً مشددة
للحصول على الجنسية ولم تكن معروفة في التشريعات السابقة، كما إعتبر
القرار عدداً من العشائر الكردية إجنبية وهي عشائر {السوره ميري،
والكركش، والزركوش، وملك شاهي، وقره لوس، والفيلية، والأركوازية}، وهو
ما عرف في دوائر الجنسية بمصطلح [العشائر الكردية السبعة المشبوهة].
ثالثاً: - القرار رقم (200) في 7/2/1980، حيث جاء فيه عدم السماح
للإجنبي الذي أقام في العراق قبل نفاذ هذا القرار، أو يقيم فيه مدة خمس
سنوات من الإستمرار في إقامته.
رابعاً: - القرار رقم (518) في 10/4/1980، والذي إستثنى الأجنبي
الإيراني الأصل من الأحكام الخاصة بالتجنس الواردة في القرار رقم (180)
في 3/2/1980.
خامساً: - تعليمات وزارة الداخلية ذي العدد (2884) في 10/4/1980،
وهي "وثيقة سرية" صدرت بشأن المُهجرين العراقيين، حيث يتم طردهم خارج
البلاد مع غير الحاصلين على الجنسية العراقية والمتقدمين بمعاملات
تجنسهم ممن لم يبت بأمرهم، وعندما يتبين بأن عدداً من أعضاء عائلة
واحدة يحملون الجنسية وقسم آخر منهم لا يحملوها، حينذاك يطبق مبدأ لم
شمل العائلة وراء الحدود، ويجري سحب الوثائق منهم لتسقيطها، ويتم
إستدعاء العسكريين إلى معسكر الإنضباط العسكري للتصرف بهم حسب
التعليمات المُبلغة، في حين ترسل قوائم بالشبان المشمولين بالإبعاد من
الفئة العمرية من {18–28} عاماً إلى الوزارة لإحتجازهم في مواقف
المحافظات وحتى إشعار آخر، وقد أظهر الإجراء الحكومي المتبع نوعاً
جديداً من مبدأ لم شمل العوائل وهو وراء الحدود، وبشكل مغاير عن
المفهوم الدولي المعمول به حتى تجاه اللأجئين الأجانب.
سادساً: - القرار رقم (666) في 7/5/1980 حيث جاء تتويجاً لكل
القرارات السابقة، والذي بموجبه تم إسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي
من أصل أجنبي أذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية
والإجتماعية العليا للثورة من دون تحقيق أصولي أو أمر قضائي مسبب،
ولوزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من إسقطت عنه الجنسية العراقية ما
لم يقتنع بناء على أسباب كافية أن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة
قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً.
سابعاً: - القرار رقم (474) في 15/4/1981 إذ يصرف بمقتضاه للزوج
المتزوج من أمراة من التبعية الإيرانية [والمقصود بها الكردية الفيلية]
مبلغ قدره (4000) دينار إذا كان عسكرياً و(2500) دينار إذا كان مدنياً
في حالة طلاقه من زوجته وتهجيرها إلى خارج القطر، ويشترط لمنح المبلغ
المُشار إليه أعلاه ثبوت حالة الطلاق أو التهجير بتأييد من الجهات
الرسمية المختصة وإجراء عقد زواج جديد من عراقية.
تاسعاً: - علاوة على الكثير من التشريعات السرية أو المنشورة في
الجريدة الرسمية/الطبعة (أ) المحدودة التداول، أو على شكل تعليمات
وتوجيهات وأوامر إدارية، وتتركز حول الجنسية وطرق إكتسابها وسحبها،
كمنح الجنسية العراقية للأجنبيات المتزوجات من عراقيين، وتولي السلطة
المالية إدارة العقارات العائدة للزوجات العراقيات الملتحقات بأزواجهن
المُهجرين، ومنع الزوج غير العراقي من التصرف بأموال زوجته العراقية
مثل نقل الملكية والوراثة، كذلك تحديد ضوابط زواج الموظف في دوائر
الدولة والقطاع الاشتراكي من أجنبية، مع تشكيل السكرتارية العامة
لتصفية أموال المهجرين التابعة لمكتب النائب الأول لرئيس الوزراء في
حينها، والإيعاز بصرف رواتب تقاعدية مقدارها (54) دينار لعوائل
المغييبين أن وجدوا، وعليه تجسد حرمان الفيلي من جميع الحقوق المدنية
والسياسية والوظيفية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية.
وهكذا كان الفيليين تحت رحمة المطرقة والسندان والمتمثلة بتشريعات
النظام المباد التي ذهب ضحيتها حوالي (500.000) ألف فيلي وما بين
(15.000-20.000) ألف محتجز في غياهب السجون والمعتقلات ولا يعرف مصيرهم
لحد الآن، أثر قيامهم بإنتفاضة السجون في معتقل أبي غريب ومنفى نقرة
السلمان بداية الثمانيات من القرن الماضي، وهذا الإضراب رغم تعتيمه
كالستار الحديدي، إلا أن الحقيقة أكبر من ذلك، فقد وصلت رائحة التصفية
الرهيبة إلى مسمع وأنظار المجتمع الدولي وأصواته الحرة الشريفة مما
أضطر حكومة البعث إلى إطلاق سراح مجموعة من الناجين وتصويرهم بشريط
متلفز لنشره وبثه بهدف إمتصاص نقمة الرأي العام الدولي، وشملت
الإجراءات الحكومية مصادرة أموال المُهجرين وممتلكاتهم على نحو تعسفي
دون تعويض أو منحهم مهلة لتصفيتها ورميهم على الحدود وإتلاف وثائقهم
الشخصية الرسمية وإجبارهم على عبور حقول الألغام وجبهات القتال ومات
قسم كبير منهم بسبب إنفجار الألغام أو الحرب أو نتيجةً للمرض والجوع
والتعب خصوصاً كبار السن والأطفال والنساء، وكانت الإتهامات ضد
الفيليين هي مشاركتهم في نشاطات تخريبية ومنها حادث التفجير المفتعل في
الجامعة المستنصرية والمعروفة بإسم بقضية “ [سمير غلام] إذ جرى إعتقاله
مع عائلته المغدورة قبل أسبوع من الحادث وذهبوا ضحية تصفية رهيبة لم
ينجو منها غير شخص واحد وبأعجوبة، وليظهر بعدها رئيس النظام عبر شاشات
التلفزيون يتهدد ويتوعد قائلاً [والله والله والله وبحق كل ذرة من تراب
الرافدين... الدماء التي سيلت في المستنصرية لن تذهب سداً]، معلناً بدء
التهجيرات، أما الفيليين غير المُهجرين فقد تم تشديد الخناق والتضييق
على نشاطهم الإقتصادي والتجاري والصناعي وتجميد أموالهم وممتلكاتهم
طيلة أيام الحرب على إعتبار كونهم يشكلون طابوراً خامساً للعدو، وهذا
ما أكده [فاضل البراك] الذي كان مديراً للأمن العام في زمن التهجيرات
لعام 1980 ثم رئيس جهاز المخابرات العامة فيما بعد في كتابه الموسوم {المدارس
اليهودية والإيرانية في العراق}، ومما يلفت الأنتباه بصدد الكتاب
المذكور آنفاً هو صدوره وطبعه بموافقة ديوان رئاسة الجمهورية "المُنحل"
المرقمة بـ (م.ع./9/126) المؤرخ في 24/3/ 1984 والمُذيلة في أخر صفحة
من الكتاب مع تخصيص ريعه للمجهود الحربي آنذاك، أي أن الكتاب أعلاه ليس
مثل بقية المؤلفات التي تصدر عادةً بترخيص من وزارة الثقافة والإعلام
آنذاك، وعليه يعتبر وثيقة رسمية تعكس وجهة نظر النظام الحاكم في حينها.
إن ما قام به النظام المُباد بحق الكرد الفيليين كان مخالفاً لكل
الأعراف والمواثيق الدولية ولأحكام دستوره، إضافةً إلى تعارضه أيضاً مع
قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963، الذي لا يجيز إسقاط
الجنسية العراقية إلا في حالات خاصة ومنفردة بنطاق محدود وإستثنائي،
ولا يسمح بإسقاط الجنسية بالجملة، وعليه كان هذا القانون حجر عثرة
لتهجير نصف مليون إنسان دفعة واحدة، وبالتالي كان سبباً لإقدام مجلس
قيادة الثورة بسن الكثير من القرارات غير الدستورية لتسهيل عملية
الشروع بحملات التهجير القسري.
الجريمة والعقاب: -
أن الجرائم المرتكبة بحق الكرد الفيليين واضحة لا لبس فيها من خلال
الكم الهائل من التشريعات وقرارات مجلس قيادة الثورة "المُنحل" الصادر
بحقهم، والمنشورة في جريدة الوقائع العراقية التي تعد الجريدة الرسمية
للدولة، وبالتالي هي بمثابة أدلة ثبوتية دامغة تدين النظام الحاكم
آنذاك من خلال مجلس قيادة الثورة وأعضائه الموقعين على قراراته، والذين
هم في ذات الوقت أعضاءً في القيادة القطرية لحزب البعث، وبالتالي تشمل
الأدانة بتبعاتها القانونية التنظيم الحزبي الأعلى، وبما أن وزارة
الداخلية هي الجهة المعنية بشؤون الجنسية وبشخص رئيسها يتحمل الأعباء
الأكبر في تنفيذ تلك التشريعات بإعتبارها من صلب إختصاصاته، وأن عملية
بمثل هذا التنظيم العالي لا يمكن أن تحصل إلا بالتعاون والتنسيق مع
القوى الساندة، ومنها الأجهزة الأمنية والإستخباراتية والعسكرية
والحزبية والمدنية والحكومية، وجميعها تشرك بمسؤولية تضامنية في الجزاء
والعقوبة وإنزال القصاص العادل وتحمل التبعات القانونية، حيث لا يفكي
رد الإعتبار للكرد الفيليين بمحاكمة (17) فرداً من أزلام النظام
المباد.
* باحث مُتخصص بشؤون الكرد الفيليين
riyadhjasim@yahoo.com |