مع قرب الانسحاب.. التناقضات تفتضح

مازن الياسري

مع قرب الانسحاب الامريكي من المدن العراقية الى معسكرات خارج المدن في اطار خطة انسحاب مجدولة تنتهي بالرحيل الكامل للقوات الامريكية اواخر العام 2011، برزت تناقضات لا ريب انها الاغرب او لنقل انها لم تكن متوقعة على الاقل لدى الشارع العراقي البسيط.

التناقضات كانت وفي ابرز صورها بمطالبة (جهات سياسية من داخل وخارج العملية السياسية وجهات مسلحة مصنفة بالارهاب او المليشيات) بعدم سحب القوات وضرورة بقاءها، وقت كانت نفس هذه الجهات من اهم المطالبين بالانسحاب وتحرير العراق من الاحتلال ؟

بل لم تقتصر مطالب هذه الجهات على الاليات الاعلامية والدعائية، بل اخذ قسم منهم وبشكل واضح يصعد امنياً في هجمات ارهابية شرسة على مدن العراق ومراكز التجمعات المدنية لغرض التقويض والضغط لابقاء القوات الامريكية..

 في حين صعد اخرون سياسياً من اجل ايقاف الانسحاب، ويبقى التناقض عندما نلاحظ ان اشد المطالبين اليوم بالبقاء هم اشد المطالبين سابقاً بالتحرير هل هو فاصل تناقضي جديد في الواقع العراقي ام هناك رسائل معينة وراء ما يجري.

لعل احد اوضح الاسباب التي تختص بها الجماعات المسلحة في موقفها الرافض للانسحاب، والمنعكس في التصعيد الارهابي الشرس من خلال العنف المنظم واستهداف التجمعات المدنية المكتظة المليئة بالمارة (العزل) بالانفجارات الدموية، لترك اكثر عدد من الضحايا واكبر مشهد من الدمار، ينعكس برغبة هذه الجماعات بإبقاء القوات الامريكية.. لبقاء شرعية وجودها كجماعات تدعي المقاومة.. فحجة الارهابي عن اعماله انه يقاوم المحتل وفقاً للقاعدة التي تتيح للشعوب حق مقاومة محتليها، وقد يتعكز على الخطأ اوا ي تبرير ضعيف اخر عندما يسأل عن اجرامه بحق المدنين في وقت ادعائه مقاومة المحتل، ولكن لنتصور كيف ستكون المدن العراقية بعد الانسحاب المرتقب منها.. ستكون بلا قوات احتلال فما مبررات المدعي للمقاومة في البقاء على حاله.. الانسحاب سيسلب الشرعية (غير الشرعية) لمدعي المقاومة بالاستمرار بالعنف الاجرامي داخل المدن وضد المدنين، وهذا بطبيعة الحال ما لا يرغب في حصوله لا مدعي المقاومة ولا داعميهم..

بالتالي فهم يحاولون بأي صورة ممكنة افشال الانسحاب ليستمروا، انها حال يمكن تشبيهها بمرتزقة حروب القرون اوسطى في اوربا (قبل النهضة) حينما يربكون الاوضاع السياسية بين المتخاصمين لتستمر الحروب ويرتزقوا منها، فمع السلام لا رزق لهم.. يبدوان التاريخ يعيد نفسه ولكن بتغيرات متعددة وبجوهر واحد.

كما ان التصعيد الارهابي يرسل للحكومة العراقية رسالة دول اقليمية تضغط على العراق لعدة اسباب وبعدة طرق، مفادها (ان العراق قوته اليوم بالوجود الامريكي اما في عدمه فهو لقمة سهلة في ايدينا)، وهذا التيار نشط بالخصوص بعد تأكيدات المالكي لجاهزية قواه الامنية.. بل لن اشطح بعيداً اذا افترضت ان جهات سياسية محلية وقد تكون مشتركة بالعملية السياسية.. تسعى لعدم انجاح الانسحاب الامريكي من المدن في هذا التوقيت كي لا يستغله المالكي وحزبه السياسي لصالحه في الانتخابات القادمة مطلع العام القادم، نعم انها اللعبة السياسية القذرة في اقذر صورها.. عندما يصبح الوطن والمواطن لعبة بين المتصارعين.

نعم اجد ان التصعيد السياسي اخطر بكثير من التصعيد الامني، وخاصة مع ترك المواطن في ريبة التناقضات وتحت خيمة الاشاعات والتحذيرات المختلقة من بحر من الدماء قد يسببه الرحيل الامريكي، او على الجانب النقيض الذي يصف الرحيل بسيادة ما بعدها سيادة واستقرار غير متكرر، وهنا لا بد التأكيد على ان اللعبة السياسية تعتمد على الواقعية في الطرح، وهذا مفقود لدينا مما يساهم في بروز تناقضات عديدة.

فحديث المخاطر والوضع الامني والتوافقات والمحاصصة، كثيراً ما يكون اسهل الطرق للابتعاد عن الملفات الجوهرية في البلاد كالخدمات والاستقرار ومكافحة الفساد والاعمار.

ان انسحاب الجيش الامريكي من المدن، هو تكريس لمفهوم التحرر ومصداق لجدولة الانسحاب، وتعبير عن نجاح العراق الجديد في فرض نفسه كنظام ولد بأصعب مخاض عرفته التجربة الدولية خلال المراحل السابقة..

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 1/تموز/2009 - 8/رجب/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م