من مظاهر سيادة الدولة بسط سلطتها التنفيذية والتشريعية والقضائية
على أراضيها وأجوائها وبحارها ، وعرفها فقهاء القانون والعلوم السياسية
بأنها السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب
الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال، وأشارت إليها الاتفاقيات
والمواثيق الدولية منها إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1879 عندما نص
على ان تكون السيادة للأمة وغير قابلة للانقسام ولا يمكن التنازل عنه ،
كذلك ميثاق الامم المتحدة عندما قرر مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون
كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول
الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها،
وفي العراق الذي نال استقلاله بعد عام 1921 من السيطرة البريطانية.
علما ان العرف الدولي استقر على إطلاق كلمة استقلال الدولة بدلا من
السيادة، عاد وفقد جزء من سيادته عندما وضع تحت الفصل السابع من ميثاق
الأمم المتحدة فأصبح تحت الوصاية الدولية ، ثم فقد كامل السيادة بعد
عام 2003 عندما خضع لاحتلال القوات المتعددة الجنسيات ، وبعد مرور أكثر
من خمس سنوات سعت السلطات القائمة على استعادة السيادة العراقية وان
كانت بشكل تدريجي.
وفي ضوء ما تقدم فان ولاية القضاء في العراق أصبحت منقوصة تجاه
بعض الجرائم التي تقع على أراضيه أو ما يسمى بالإقليم العراقي ، إذ
أصدر الحاكم المدني لسلطة الائتلاف المنحلة بول بريمر الأمر (17) لسنة
2003 عندما نص على عدم خضوع أفراد القوات المتعددة الجنسيات والعاملين
معهم إلى ولاية القضاء العراقي ، وكان الحاكم المدني يملك السلطة
التشريعية بموجب قرارات مجلس الامن حينما أصدره كانت يعتمد في ذلك على
الصلاحية الممنوحة له بموجب قرارات مجلس الأمن المرقم 1483 و 1511 لسنة
2003 وتكون هذه القرارات هي قواعد الإسناد لمشروعية نفاذ الأوامر التي
يصدرها.
وفي نص المادة (2) من الأمر المذكور أنفا منع القضاء العراقي من
ممارسة اختصاصه وولايته القضائية تجاه الأفراد من العاملين في القوات
المتعددة الجنسيات أو معها وعلى وفق النص التالي ( تتمتع سلطة الائتلاف
الموقتة وقوات الائتلاف وبعثات الارتباط الاجنبية وممتلكاتها واموالها
واصولها بالحصانة من الاجراءات القانونية العراقية) وفي نص المادة (1)
من الامر المذكور انفا قد حدد الافراد المشمولون بهذه الحصانة وعلى وفق
ما يلي (يعني مصطلح موظفو الائتلاف او تحت امرته او مع قوات الائتلاف
او مع جميع القوات التي تستخدمها دولة عضو في الائتلاف بما في ذلك
المدنيون الملحقون بهذه القوات، وكذلك جميع العسكريين غير العراقيين
وجميع الموظفين المدنيين المعينين للعمل مع مدير سلطة الائتلاف المؤقتة
او وفقا لتوجيهاته او تحت اشرافه. 2 يعني مصطلح موظفو بعثات الارتباط
الاجنبية الافراد الذين اصدرت لهم وزارة الخارجية العراقية ، تحت اشراف
سلطة الائتلاف الموقتة ، بطاقات التعريف الخاصة بموظفي بعثات الارتباط
الاجنبية. 3 يعني مصطلح اجراءات قانونية اية اجراءات تتخذ لالقاء
القبض على شخص ما او اشخاص او لاحتجازهم ، كما تعني اجراءات الدعاوى
القانونية المتخذة في المحاكم العراقية او امام هيئات عراقية اخرى ،
سواء كانت مدنية او ادارية ذات طابع اخر ، 4 يعني مصطلح الدولة الام
الدولة التي تقدم موظفين للائتلاف بوصفهم جزءا من الائتلاف في العراق
او الدولة التي ترسل موظفي بعثة ارتباط اجنبية. 5 يعني مصطلح مقاولو
الائتلاف الكيانات التجارية غير العراقية او رجال الاعمال غير
العراقيين الذين لا يقيمون عادة في العراق ويقومون بتوريد السلع و / او
الخدمات لقوات الائتلاف الوقتية او نيابة عنهما بموجب ترتيبات تعاقدية.
6 يعني مصطلح مقاولو الائتلاف من الباطن الكيانات التجارية غير
العراقية او رجال الاعمال غير العراقيين الذين لا يقيمون عادة في
العراق ويقومون بتوريد السلع و / او الخدمات لمقاولي الائتلاف او نيابة
عنهم ، وللانشطة التي يمارسا الائتلاف او سلطة الائتلاف الموقتة بموجب
ترتيبات تعاقدية.).
ولم يكتفي بما ذكر من أوصاف لأشخاص لا يخضعون لولاية القضاء بل
أضاف لهم المقاولون وعمالهم والمتعاقدون معهم وعلى وفق نص المادة (3)
من الأمر المذكور (لا يخضع مقاولو الائتلاف والمقاولون من الباطن الذين
يعملون معهم وموظفوهم ، الذين لا يقيمون عادة في العراق ، للقانون
العراقي او اللوائح التنظيمية العراقية في المسائل التي تتعلق باحكام
وشروط عقودهم المبرمة مع قوات الائتلاف او سلطة الائتلاف الموقتة
وباستثناء المقاولين من الباطن الذين يقيمون عادة في العراق ، لا تخضع
للقانون العراقي او لوائحه التنظيمية اجراءات ترخيص وتسجيل موظفي
مقاولي الائتلاف والمقاولين من الباطن العاملين معهم وكذلك أعمالهم
التجارية وشركاتهم التي يستخدمونها في تنفيذ عقودهم. 2 يتمتع مقاولو
الائتلاف والمقاولون من الباطن الذين يعملون معهم وكذلك موظفوهم، الذين
لا يقيمون عادة في العراق ، بالحصانة من الاجراءات القانونية العراقية
بالنسبة للاعمال التي يؤدونها في اطار انشطتهم الرسمية ، وفقا لاحكام
وشروط عقد مبرم بين احد المقاولين وقوات الائتلاف المؤقتة او وفقا
لشروط عقد من الباطن. 3 لا يتخذ ضد مقاولي الائتلاف والمقاولين من
الباطن ، وكذلك موظفيهم الذين لا يقيمون عادة في العراق ، اي اجراء
قانوني عراقي من جانب سلطة الائتلاف الموقتة الا باذن مكتوب من المدير
الاداري لسلطة الائتلاف الموقتة ، نتيجة اعمال ادوها قصروا في ادائها
لانشطتهم الرسمية بموجب احكام وشروط عقد مبرم بينهم وبين الائتلاف
الموقتة.)
وعند التمعن في النصوص أعلاه نجد إن الحصانة منحت لجميع الأفراد دون
استثناء حتى لو كان يؤدي عملا تجاريا أو مدنيا وليس عملا قتاليا او
حربيا . وهذا الأمر (17) لسنة 2003 مازال نافذ لأنه اكتسب مشروعيته من
نص المادّة السادسة والعشرون من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية
التي تنص على ما يلي (أ ـ ستبقى القوانين النافذة في العراق في 30
حزيران 2004 سارية المفعول، إلاّ إذا نصّ هذا القانون على خلاف ذلك
وإلى أن تقوم الحكومة العراقية الانتقالية بإلغائها أو تعديلها وفقاً
لهذا القانون.ب ـ التشريعات الصادرة من قبل السلطة التشريعية الاتحادية
ستعلو على أيّة تشريعاتٍ أخرى صادرة من قبل أيّة سلطة تشريعية أخرى،
وذلك في حالة التعارض بينهما. باستثناء ما نصّ عليه في المادّة54 (ب)
من هذا القانون. (ج) إن القوانين والأنظمة والأوامر والتعليمات الصادرة
من سلطة الائتلاف المؤقتة بناءاً على سلطتها بموجب القانون الدولي تبقى
نافذة المفعول إلى حين إلغائها أو تعديلها بتشريعٍ يصدر حسب الأصول
ويكون لهذا التشريع قوّة القانون) ثم أضفى دستور العراق لعام 2005
النافذ المشروعية على أمر سلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة رقم (17) لسنة
2003، عندما نص في المادة (126) على أن تبقى التشريعات النافذة معمولاً
بها، ما لم تُلغ أو تعدل، وفقاً لأحكام هذا الدستور.
كما يلاحظ على الأمر (17) انه يشير إلى جميع رعايا الدول التي
شاركت في القوات المتعددة الجنسيات ولم يقتصر على القوات الأمريكية أو
الأفراد من رعايا أمريكا ، مما يعني ان الاتفاقية الأمنية التي وقعها
العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية وإن عدلت بعض ما يتعلق بالولاية
القضائية ، لكن لا يشمل بقية الأفراد من رعايا الدول الأخرى ، لان
الأمر (17) لم يزل ساري المفعول ولم يجتهد مجلس النواب لإلغائه، وعند
العودة إلى الولاية القضائية فإنها تمثل تطبيق القانون على كل الأفراد
الذين يتواجدون على الأراضي العراقية وهو ما يسمى بالاختصاص الإقليمي
للقانون العراقي على وفق أحكام المادة (6) من قانون العقوبات العراقي
رقم (111) لسنة 1969 المعدل التي تنص على (تسري أحكام هذا القانون على
جميع الجرائم التي ترتكب في العراق وتعتبر الجريمة المرتكبة في العراق
إذا وقع فيه فعل من الأفعال المكونة لها او إذا تحققت فيه نتيجتها او
كان يراد أن تتحقق فيه.).
لأن مبدأ الإقليمية يتفق وحدود الإقليم الخاضع لسيادة الدولة،
فالنص يطبق على كل جريمة ترتكب في هذا الإقليم، سواء أكان مرتكبها
وطنياً أم أجنبياً، وسواء أكان المجني عليه فيها وطنياً أم أجنبياً،
وسواء هددت مصلحة للدولة صاحبة السيادة على الإقليم أو هددت مصلحة دولة
أجنبية، وفي الاتفاقية المبرمة بين الحكومة العراقية وحكومة الولايات
المتحدة التي صادق عليها مجلس النواب واقرها مجلس الرئاسة وتم نشرها في
الوقائع العراقية وأصبحت سارية المفعول ، فإننا نجد إن أمر الولاية
القضائية قد أشارت إليه بنود المادة الثانية عشر من الاتفاقية عندما
نصت على (اعترافا بحق العراق السيادي في تحديد و إنفاذ قواعد القانون
الجنائي والمدني على أراضيه، وعلى ضوء طلب العراق المساعدة المؤقتة من
قوات الولايات المتحدة، كما هو مبيّن في المادة الرابعة (4)، وتماشياً
مع واجب أعضاء القوات الأمريكية والعنصر المدني باحترام القوانين
والتقاليد والأعراف والمواثيق العراقية، فقد اتفق الطرفان على ما يلي:
1. يكون للولايات المتحدة الحق الرئيسي لممارسة الولاية القضائية
على أفراد القوات والعنصر المدني بشأن أمور تقع داخل المنشآت والمساحات
المتفق عليها، وأثناء حالة الواجب خارج المنشآت والمساحات المتفق عليها،
وفي الظروف غير المشمولة في نص الفقرة 2.
2. يكون للعراق الحق الرئيسي لممارسة الولاية القضائية على أفراد
القوات والعنصر المدني، وذلك بشأن الجنايات الجسيمة والمتعمدة التي ورد
سردها طبقاً بالفقرة الثامنة، والتي يتم ارتكابها خارج المنشآت
والمساحات المتفق عليها أثناء خارج حالة الواجب.
3. يكون للعراق الحق الرئيسي لممارسة الولاية القضائية على
المتعاقدين مع الولايات المتحدة ومستخدميهم.
4. يتفق الطرفان على تقديم المساعدة لبعضهما البعض، بناء على طلب
أحدهما، في إجراء التحقيق في الأحداث وجمع الأدلة وتبادلها لتأمين حسن
سير العدالة.
5. يُسلم أفراد القوات والعنصر المدني، فور إلقاء القبض عليهم أو
توقيفهم من قبل السلطات العراقية، إلى سلطات قوات الولايات المتحدة.
عندما يمارس العراق ولايته القضائية عملاً بنص الفقرة 2 من هذه المادة،
تتولى سلطات الولايات المتحدة عندئذ مهمة احتجاز عضو القوات أو العنصر
المدني المتهم، وتقوم سلطات الولايات المتحدة بإتاحة هذا الشخص المتهم
إلى السلطات العراقية لأغراض التحقيق والمحاكمة.) وفي هذا النص لم أجد
إشارة إلى إعادة الولاية القضائية للسلطات القضائية العراقية حيث تشير
الفقرة (1) من المادة (الثانية عشر ) إلى بقاء سلطة القوات الأمريكية
هي الفاعلة على الأفراد داخل المنشات التي تشغلها القوات الأمريكية ،
وهذا خلاف الأصل حيث إن المواقع التي تقع في داخل البلد ولا تخضع
لولاية القضاء العراقي هي السفارات والمواقع التي تنظم عملها
الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية فيينا حول الحصانة القضائية
للدبلوماسيين والسفارات ، والمواقع العسكرية لا تدخل ضمن منطوق هذه
الاتفاقية ، كذلك سلبت ولاية القضاء من متابعة أفراد تلك القوات خارج
تلك المواقع عند الخروج بواجب لم يحدد نوعه ولا طبيعته ، أما ما ذكر في
الفقرة (2) من المادة أعلاه فان العبارة تشير إلى أن للقضاء العراقي
الحق الرئيسي وليس الوحيد بمعنى ان يكون هناك من له الحق الثانوي الذي
ينفذ من خلاله الى منع القضاء من ممارسة ولايته على من يرتكب جريمة من
الأفراد من الأمريكان خارج المواقع وخارج الواجب ، وبقيود منها ما
أشارت إليه تلك الفقرة بنوع الجرائم التي أبقاها النص عائمة دون تحديد
تقبل التأويل الذي يعد منفذا للهروب من الولاية القضائية، كذلك في حالة
القبض على المتهمين من رعايا أمريكا فان السلطات العراقية غير قادرة
على احتجازه لديها، وإنما يخضعون للحجز لدى القوات الأمريكية.
ومما تقدم نجد إن الانسحاب الأمريكي من المدن سوف لن يحقق عودة
السيادة الكاملة للدولة العراقية على أراضيها، وإنما يعد تطور جزئي نحو
استعادتها ، لان الولاية القضائية ما زالت منقوصة في ظل الاتفاقية
النافذة التي اكتسبت مشروعيتها من خلال المصادقة عليها من قبل مجلس
النواب وصدورها بقانون نفذ اعتبارا من نشره في الجريدة الرسمية (
الوقائع العراقية) ، وهذا النقص إذا لم يتم تداركه فانه سيبقي على
أسباب التوتر الشعبي تجاه القوات المتعددة الجنسيات عندما تنفذ
واجباتها دون أمر قضائي أو عندما تخرق حقوق الإنسان أو تعتدي على
المواطنين وممتلكاتهم دون أن يتمكن القضاء العراقي من مسائلتهم ،
وأملنا بالمفاوض العراقي أن يراعي ما تقدم عند مراجعته لاحاكم هذه
الاتفاقية تجاه إكمال سيادة العراق. |