الرؤية الدينية والسياسية للأمة في الإسلام

د. ريتا فرج

يُعتبر مفهوم الأمة في الإسلام من أكثر المفاهيم تشعباً، كونه يتخذ في مدلولاته أبعاداً مختلفة، ترتبط بالدين والجماعة حيناً، وبالوحدة والقدوة والسلطة حيناً آخر، ولا يمكن فهم المكانة التي تحتلها الأمة ومتعلقاتها في الحضارة الإسلامية إلاَّ من خلال الكشف عن معانيها وغاياتها في القرآن الكريم، الذي وردت فيه لفظة الأمة حوالى تسع وأربعين مرة دون أن يتمّ وضع تعريف محدد وشامل بأسلوب يحدد أهدافها، أو يُقاربها من التعريفات الفلسفية والسياسية الحديثة.

لغوياً يُعرف الكفوي في الكليات، الأمة بأنها جماعة يجمعها أمر أو دين أو زمان أو مكان واحد؛ وكل من آمن بالنبي فهو أمة الإجابة، وكل من بلغه دعوة النبي فهو أمة الدعوة. في حين يُشير ابن دريد في موسوعته اللغوية جمهرة اللغة، الى أن الأمة تتخذ تفسيرات ومواضع متنوعة، فهي القَرنُ من الناس "أمةً وسطاً"، وقوله: إن إبراهيم كان أمة أي إماماً؛ والأمة الملة { وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً } (المؤمنون الآية 52 )؛ ويقسم ابن منظور لفظة الأمة الى عدة معاني، فهي ترمز الى الدين كقول أبو اسحق: قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مُبشرين ومُنذرين، أي كانوا على دين واحد.

تكشف التعريفات التي قدمتها المعاجم العربية عن أن لفظة الأمة عند العرب تتزيا بالطابع الديني، وتختلف في مدلولاتها عن الحق الدلالي الحديث، فالأمة كما جاءت في موسوعة اندريه لالاند عبارة عن مجموعة الأفراد الذين يشكلون دولة، بإعتبارهم جسماً اجتماعياً، وهي مرادفة للجنسية، بمعنى أنها سمة حقوقية يملكها الأفراد، بوصفهم مواطنين او رعايا دولة، وهم عبارة عن جماعة موحدة اجتماعياً برابط متحد العرق، أو أقله برابط المتحد الحضاري، والتراث التاريخي والتطلعات المشتركة.

 الى ذلك خلص ناصيف نصار الى ضرورة التمييز بين الأمة والقومية، التي هي حركة شاملة تعبر عن نفسها بمختلف الوسائل والأشكال، لتحقيق مصالح وأهداف معينة في مرحلة من مراحل وجود الأمة؛ ويؤكد على أهمية التمييز بين الأمة والدولة التي هي واقع سياسي لا يتطابق مع وجود أمة واحدة معينة، ولا بد من جهة أخرى التنبه الى أن تعريف مصطلح الأمة لا يرادف التأريخ لفكرتها، وكيفية ظهورها وتطورها عند مختلف الشعوب. عموماً استعملت لفظة الأمة في القرون الوسطى العربية الإسلامية في الأغلب، إما بمعنى الطريقة والشريعة، وإما بمعنى الجماعة التي تتفق على دين واحد، وإما بمعنى الجماعة على الاطلاق أياً كان الرابط بين أفرادها.

إن لفظة الأمة في الإسلام اقترنت بمعنى الطريقة أو الشريعة أي الدين، وابتعدت عن السياقات السياسية الحديثة، والحال يبرهن التعريف الذي وضعه الاصوليون عن البعد الديني، فالإسلام يهدف برأيهم الى إقامة الأمة الصالحة أي الأمة التي لديها رسالة عالمية. فالأمة يجب أن تكون موحدة ومضحية بالنفس في سبيل الله، كما أن الإسلام يستهدف تأسيس الحكومة الإسلامية العادلة والاخلاقية أيضاً؛ لهذا فالأمة الإسلامية عند الاصوليين تقوم على أربع قواعد: الاولى، عقيدة صافية تدفع بالانسان الى التقرب من الله؛ الثانية، العبادة الصحيحة والأعمال الدينية الصالحة مثل الصلاة والصوم؛ الثالثة، الوحدة التي تكمل الايمان وتخفف النزاعات بين المذاهب والميول السياسية؛ والرابعة، تشريع وقوانين جيدة مستمدة مشتقة من القرآن والسنّة النبوية.

إن التعريف الذي قدمه الفكر الأصولي للأمة الإسلامية، يمكن اختصاره بالعبادات والشريعة والحفاظ على وحدة الجماعة، أي الاجتماع على الإمام، والجهاد لحماية دار الإسلام، ونشر الدعوة وحقن دماء المسلمين.

في المقابل إذا كان المفهوم ينطوي على مؤشرات تؤدي الى قيام الدولة، فهو بسبب عموميته لا يعطي تحديداً واضحاً لمفهوم الأمة، وربما ترتبط هذه الاشكالية بمسألة الدولة في الإسلام وكيفية تفسيرها من قبل الفقهاء خاصة لجهة الصعوبة التي تواجهها في إيجاد دعوة صريحة لها في النصوص التأسيسية.

تدل التفسيرات الفقهية للفظة الأمة على ارتباطها بالمعنى الديني، فالمفهوم يحمل معنيي الجماعة والطريقة، وهما الأكثر وروداً في القرآن كما يذكر ابن الجوزي في الوجوه والنظائر، وعلى الرغم من تعدد معانيها غير أن دلالتها الرئيسة تنحصر بمصطلح الجماعة؛ والجماعة هم الذين يُرسل اليهم رسول سواء آمنوا أم كفروا. كما اتفق المسلمون وفقاً لما تقدم به الشيخ يوسف القرضاوي على أن أمة محمد تشمل الناس جميعاً، ولكنهم اتفقوا كذلك على تقسيمها الى قسمين: الأول، أمة الإجابة والمقصود بها كل من إستجاب لدعوة النبي محمد وآمن به ودخل في دينه؛ والثاني، أمة الدعوة وتشمل سائر العالم الإسلامي بعد ذلك.

بالمقابل لم يرتبط مفهوم الأمة دائماً بالدين أو جماعة النبي، فهو يدل أحياناً على الجماعة السياسية والاجتماعية لا الدينية، بدليل أن الرسول استخدمها بمعنى كيان اجتماعي له رسالة في وثيقة المدينة "هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين في قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم، وجاهد معهم إنه أمة واحدة من دون الناس".

وعليه تتحاور لفظة الأمة بين الجماعة الدينية والكيان السياسي والاجتماعي، ولا شك أن المفهوم يختزن دلالة التعددية والاختلاف، ولكن في بعض الأحيان جرى اختصارها الى جملة المسلمين فقط بحسب التصور القائم على مفهومي دار الإسلام ودار الحرب.

  بصرف النظر عن تنوع دلالات الأمة في الإسلام، فهي قد أسهمت في التأسيس للفقه السياسي أقله منذ بداية الصراع على السلطة في الحقبة الأموية، وما نتج عنها لاحقاً من تجاذبات تبلورت عملياً في الفتنة الكبرى التي اشتدت وشائجها في النصف الثاني من خلافة عثمان، وأثارت بعدها الانقسامات، ومهدت بالتالي الى نشوء المذاهب التي تصارعت على قيادة الجماعة الإسلامية، وهذا الأمر مرده في الدرجة الأولى الى غلبة حدة الشرخ بين مبادئ النبيلة التي نادى بها الإسلام والتركيبة القبلية لمجتمع شبه الجزيرة العربية؛ فصحيح أن الإسلام دين مدني، غير أن سيطرة القبلي على المدني منذ البدايات التاريخية لنشوء الدولة في الإسلام، وإفتقارها للمركزية، وانتقالها من مجال الى آخر، أضعف أواصرها كنتيجة حتمية لاحتدام النزاعات السياسية المغلفة بأقنعة دينية.

*باحثة وكاتبة لبنانية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 27/حزيران/2009 - 29/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م