لم يشذ خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن التوقعات المسبقة
بشأنه، فجوهره يضفي صدقية على ما أكدته وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن
نتنياهو إتفق مسبقاً مع قادة اليمين المتطرف في حكومته على كل كلمة
قيلت فيه الخطاب.
وهذا هو السبب الذي دعا قادة حزب " البيت اليهودي " الذي يمثل غلاة
المستوطنين في الضفة الغربية إلى الإشادة بالخطاب وبـ " شجاعة "
نتنياهو. وكما كان متوقعاً، فقد كان الخطاب مجرد ضريبة كلامية دفعها
نتنياهو للإدارة الأمريكية بشكل خاص، بهدف التملص من إستحقاقات التسوية
السياسية للصراع، عبر محاولة إملاء قائمة طويلة من الشروط التعجيزية
على الفلسطينيين مقابل الحصول على سراب.
وقد اشترط نتنياهو اندلاع حرب أهلية فلسطينية طاحنة قبل موافقته
على مجرد التفاوض مع السلطة الفلسطينية. فقد طالب نتنياهو عباس
بإستعادة السيطرة على قطاع غزة، أي إسقاط حكم حركة حماس. بكلمات أخرى،
وهو يدرك أن تحقيق ذلك مقترن بنشوب حرب أهلية فلسطينية. ويأتي هذا
المطلب التعجيزي بعد أن كرر نتنياهو منذ بداية الخطاب وحتى نهايته
مطالبته الفلسطينيين سبع مرات بأن يعترفوا بإسرائيل كالدولة القومية
للشعب اليهودي، وهذا المطلب الذي يتحمس له بشكل أساس قادة اليمين
المتطرف في إسرائيل يعني أن يقر الفلسطينيون والعرب بحق إسرائيل في
القيام بكل ما ترتأيه من أجل ضمان وجود أكثرية ديموغرافية يهودية، وضمن
ذلك التخلص من فلسطينيي 48، الذين يشكلون أكثر من 20% من السكان في
إسرائيل. ونتنياهو الذي تحدث عن رفض الشروط المسبقة، وضع عدة شروط تمثل
حسماً لنتيجة أي مفاوضات لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في المستقبل.
فقد اشترط نتنياهو موافقة الفلسطينيين على أن يتم حل قضية اللاج!
ئين خارج حدود فلسطين، أي أنه في كل ما يتعلق بهذه القضية لن يكون هناك
م ا يمكن التفاوض بشأنه، حسب منطق نتنياهو. نتنياهو تعاطى مع قضية
اللاجئين كقضية إنسانية يتوجب على المجتمع الدولي التجند لحلها، لا شأن
لإسرائيل بها. مع العلم أن قضية اللاجئين نشأت نتيجة قيام الجيش
الإسرائيلي بإرتكاب مجازر أدت إلى فرار مئات الآلاف من الفلسطينيين
خلال حرب 1948 من مدنهم وبلدانهم وقراهم. وأخرج نتنياهو القدس المحتلة
من سياق أي مفاوضات، فهذه المدينة – حسب منطق نتنياهو -ستبقى العاصمة
الأبدية الموحدة لإسرائيل، مع العلم أن مدينة القدس أصبحت تشكل حوالي
15% من مساحة الضفة الغربية، بعدما ضمت إليها حكومات إسرائيل المتعاقبة
العديد من المستوطنات منذ عام 1967.
ووجه نتنياهو صفعة مدوية للرئيس أوباما عندما شدد على حق
المستوطنين اليهود في البناء في المستوطنات بما يستجيب لمتطلبات النمو
الطبيعي لديهم. لقد حاول نتنياهو هنا تضليل الأمريكيين، حيث تعهد بعدم
مصادرة أراضي فلسطينية لإقامة مستوطنات جديدة عليها. فنتنياهو يدرك أنه
لا يحتاج إلى مصادرة أراضي فلسطينية جديدة من أجل تشييد المزيد من
المستوطنات، حيث أن لإسرائيل احتياطي كبير من الأراضي التي! صودرت
بالفعل من الفلسطينيين، والتي بإمكان إسرائيل بناء وحدات سكنية عليها
تستوعب مئات الآلاف من المستوطنين.
وحتى ندرك حجم التضليل الذي ينطوي عليه حديث نتنياهو عن الحاجة
لتلبية متطلبات النمو الطبيعي لدى الفلسطينيين، فإنه يمكن الرجوع
لمعطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي التي تؤكد أن عدد المستوطنين
في الضفة الغربية قفز من 110 آلاف عند التوقيع على اتفاقية أوسلو عام
1993 إلى 300 ألف مستوطن حالياً، وفي القدس المحتلة قفز عددهم من 80
ألف إلى 200 ألف. بكلمات أخرى في حال تم التسليم بمنطق " النمو الطبيعي
"، فإن عدد المستوطنين اليهود قد يصل إلى مليون، وهذا يعني مضاعفة عدد
المستوطنات والوحدات السكانية التي تبنيها إسرائيل في الضفة الغربية،
التي وصفها نتنياهو في خطابه بـ " أرض الآباء والأجداد " مراراً
وتكراراً.
وطالب نتنياهو بترتيبات أمنية تضمن لإسرائيل القدرة على الدفاع عن
نفسها. وعلى الرغم من أن هذه المطلب فضفاض، إلا أن نتنياهو أوضح في
مرات سابقة كثيرة ما يعنيه بالترتيبات الأمنية، حيث يرى نتنياهو أنه في
أي تسوية يتوجب على إسرائيل الإحتفاظ بمنطقة " غور الأردن "، التي تشكل
20% من مساحة! الضفة الغربية، فضلاً عن وجوب سيطرة الجيش الإسرائيلي
على قمم الجبال في الضفة الغربية، إلى جانب الاحتفاظ بالأراضي التي تضم
مخزون المياة العذبة في الضفة الغربية.
وإذا أضفنا هذه المساحات، للأراضي التي تتواجد عليها المستوطنات
وجدار الفصل والقدس وما يحيط بها من مستوطنات، فإن هذا يعني أن ما تبقى
لإقامة الدولة الفلسطينية أقل من 50% من مساحة الضفة الغربية، دون أن
يكون هناك تواصل جغرافي بين المناطق التي يقطن فيها الفلسطينيون. وبعد
كل هذه الإشتراطات التعجيزية فإن أقصى ما يعرضه نتنياهو على
الفلسطينيين هو دولة بدون أي مظهر من مظاهر السيادة التي تتمتع بها
الدول.
وكما أوضح نتنياهو بجلاء، فليس من حق هذه الدولة السيطرة على
حدودها مع جيرانها، ولا حق لها في إدارة معابرها الحدودية، فضلاً عن
وجوب نزعها من السلاح، وحرمانها من إقامة علاقات خارجية بشكل حر، بحيث
يكون لإسرائيل الحق في الإعتراض على الدول التي تقيم هذه الدول معها
علاقات.
www.naamy.net |