القراءات القرآنية دليلا نحويا

أ.م. د. حسن منديل العكيلي

أهم قضية تواجه الدارس المعاصر للنص القرآني، فتؤثر في نتائجه وتجعلها غير مستقيمة، خلط النص القرآني بالقراءات القرآنية سواء المشهورة منها أو الشاذة، فضلاً عن المستويات اللغوية الأخرى التي مزجت في الدراسات النحوية واللغوية في الموروث العربي كلهجات العرب وكلامهم من شعر ونثر مما أدى إلى نتائج أضرّت بفهم النص القرآني وتفسيره وتحليله الأسلوبي.

 ولا يزال كثير من الباحثين يخلطون بين هذه المستويات اللغوية المختلفة في دراساتهم النحوية والبلاغية والأسلوبية، فقد سئل استاذنا الدكتور فاضل السامرائي عن تفسيراته البيانية وتحليلاته الأسلوبية والملامح الفنية الجمالية ألا تنتقض بالقراءات، فأقر بذلك وكأنه لا يؤيد الخلط بينهما ولكل مستواه في الدراسة ([1]).

 وباحث آخر اضطر إلى تفضيل بعض القراءات على النص القرآني ليستقيم المنهج الذي درس فيه النص القرآني كتعليقه على قوله تعالى: ) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( (سورة الشعراء:4)، قال: " أصل الكلام: (فظلوا لها خاضعين) فأقحمت (الأعناق) لبيان موضع الخضوع" وعنده قراءة (لها خاضعة) الصحيحة ذلك أنها توافق العربية، لكن القراءة المثبتة في المصحف جاءت (مراعاة للتناسب) في فواصل الآيات، وهي: مؤمنين، خاضعين، معرضين، يستهزؤن...( [2]).

 ولكي تستقيم للدارس النتائج ينبغي أن يحدد دراسته في مستوى لغوي واحد هو النص القرآني من غير خلطه بالقراءات والمستويات اللغوية الأخرى وهذا ما أكده علم اللغة الحديث واشترطه على الباحثين في دراسة اللغة، فضلاً عن أسباب أخرى منها:

1- إن في لغة القرآن نظاماً دقيقاً مترابطاً مبنياً على المشابهة وحمل الكلام بعضه على بعض وتعلق بعضه برقاب بعض، يستعمله القرآن الكريم في توسيع المعنى وتأدية معاني عالية بليغة وأسرار لا يؤديها الكلام المباشر، يفسّر العدول ومخالفة الظاهر الذي ورد في النص القرآني في ضوء هذا النظام وإن القراءات والمستويات اللغوية الأخرى تفقد هذا النظام وتؤثر في جمال أسلوبه، وتماسكه وترابطه، ويؤثر في الأحكام الشرعية، ودلالات التراكيب بل يضر ببعض وجوه إعجازه كالإعجاز العددي القائم على الإحصائيات الدقيقة، وبالنظم الذي اجمع علماء الإعجاز عليه.

وقد أشار الإمام عبد القاهر الجرجاني إلى ذلك وأخذ على علماء العربية بذلهم الجهد في القراءات وعنايتهم باللغة والنحو أكثر من عنايتهم بالنظم وعلم البيان وأدهشه إهمالهم إياه، والإكثار من الغريب والمحافظة على الإعراب وتجنب اللحن( [3]).

2- إن النص القرآني هو النص العربي الوحيد الذي أقرّ البحث الحديث بالاطمئنان إليه من سائر النصوص العربية، ذلك انه نقل إلينا نقلاً متواتراً وان الكشوفات الآثارية والتنقيبات لم تعثر على نصٍ قبله او في زمنه يضاهيه أو يشبهه تمام الشبه( [4]).

3-  أقرّ علماء القرآن بـ"أنّ القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان" فالقرآن هو الوحي المنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي قراءة القارئ([5]).

4- اختلافهم الشديد في مدلول الحديث الشريف: "إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه"([6])، فقد بلغت الأقوال في تفسيره أكثر من أربعين قولاً ورأياً أكثرها متقاطع بعضه مع بعض متناقض وبعضها "ينبو عنه السمع وينفر منه القلب، ولا تميل إليه النفس، وأنا أستغفر الله من حكايته"( [7]).

وكان كبار علماء القراءات يستشكلون معنى الأحرف السبعة، قال ابن الجرزي: "ولازلتُ أستشكلُ هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نحو نيف وثلاثين سنة"([8]).

لذلك شكك بعض المستشرقين في المقصود بهذا الحديث( [9]) وبعضهم اتخذ القراءات سبباً للطعن بإعجاز القرآن ومدخلاً لعدائهم للإسلام وعدّوا القراءات تحريفاً([10]).

5- طعن بعض الصحابة (رضي الله عنهم) وتابعيهم، وكبار النحاة والمفسرين وعلماء القراءات في كثير من القراءات سواء كانت من السبعة أو غيرها بحيث لا يكاد قارئ سلم من الطعن في قراءته: ابن عباس، ابن مسعود، الحسن البصري، عاصم بن أبي النجود، حمزة، نافع، ابو عمرو وغيرهم.

قال الفراء: "فإنه قلّ من سَلِمَ منهم من الوهم"([11]). وعلى الرغم من أن سيبويه لم يجز مخالفة القراءة لأنها السنة([12]). فقد طعن في قراءات كثيرة طعناً صريحاً وخفياً، وقد شاركه شيخه الخليل في ذلك([13]) في معارضته لبعض القراءات، وكثير من المفسرين والنحاة عارضوا بعض القراءات وردوها كالكسائي والمبرد والفراء والأخفش الأوسط والنحاس والمازني وكذلك المتأخرين كالزمخشري والعبكري والسيوطي([14]).

وكذلك ابن جني الذي انتصر للقراءات الشاذة محاولاً تأويلها لتصحّ وتتوافق مع أصول العربية([15])، وقد أفرد الدكتور عبد الخالق عضيمة باباً في كتابه الكبير (دراسات لاسلوب القرآن الكريم) جمع فيه معارضات القراءات لدى الصحابة والتابعين (رض) والمفسرين والنحاة وغيرهم([16]).

6- اتجه البحث اللغوي المعاصر إلى دراسة القراءات القرآنية في مستوى اللهجات العربية([17]) وأنهم يرون أن اللهجات كانت سبباً لظهور القراءات، وأدت إلى تنوعها وتعددها، قال الدكتور إبراهيم أنيس "إن مرجعها اختلاف اللهجات القديمة ولابدّ من نسبتها إلى قبائل أو بيئات"([18]) وقد سبقه إلى هذا القول بعض المستشرقين([19]) وكان بعض النحاة ينسبون بعض القراءات التي تخالف قواعدهم إلى اللهجات العربية، كالفراء وتبعه النحاس نسبا قراءة (إنّ هذان لساحران) إلى بني الحارث بن كعب الذين يجعلون الاثنين بالإلف رفعاً ونصباً وجراً. ونسب الأخفش قراءة الأعمش والحسن البصري (ما تنزّلت به الشياطون) إلى ناس من العرب وهي غلط لدى النحاة أجمع([20]).

ويرى بعض المستشرقين أن سبب اختلاف القراءات هو خط المصحف وخلوّه من التنقيط والشكل فضلاً عن زيادات تفسيرية كما في مصحفي عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب (رض)([21]).

وعلينا ألاّ نأخذ بأقوال المستشرقين وأرائهم في القرآن الكريم ولغته ونحذر منها، كون أكثرهم لا يؤمنون بإعجاز القرآن الكريم ولا بخصوصية لغته وأسلوبه، وان بدا منهم ذلك.

7- ومما يدلل على أن القراءة مغايرة للنّص القرآني، خاصة بالقارئ أن أكثر القراءات للتراكيب التي تخرج عن القياس النحوي العقلي، تنسجم مع قواعد النحو، وكأنها محاولة لإخضاع النصّ القرآني للصنعة النحوية المنطقية.

 كقرأتهم لقوله تعالى: ) أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( (سورة التوبة: الآية3) بجر (رسوله)، لتطرد مع الصنعة النحوية. وهو أمر تتغير معه دلالة الآية الذي أراده الله تعالى، ويؤثر على إعجاز القرآن.

وقراءة (تستكثرْ) بالجزم لقوله تعالى: ) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ( (سورة المدثر:6)، بالرفع.

وقراءة (النجوم) بالنصب لقوله تعالى: ) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( (سورة النحل:12)

بالرفع.

وقراءة (قولهم) بالرفع لقوله تعالى: ) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( (آل عمران:147)، بالنصب. و(بينكم) بالرفع لقوله تعالى: ) لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( (سورة الأنعام: 94)، بالنصب. والشواهد على ذلك كثيرة تكاد تشمل جميع شواهد العدول في أسلوب القرآن الكريم([22]).

8- وأختم هذه الأسباب بحجة داحضة هي إن ما يدعو إلى التساؤل قول القدامى وتبعهم المعاصرون إن الشعر العربي القديم سَلِمَ من اللهجات العربية في الغالب لأن الشعراء كانوا ينظمون شعرهم باللغة العربية المشتركة، لكن لغة القرآن الكريم لم تسلم من هذه اللهجات.

* كلية التربية للبنات – جامعة بغداد

 al_igeali@yahoo.com


(1) ينظر: على طريق التفسير البياني 10.

(2) ينظر: من بديع لغة التنزيل 243، 69، 73، 367، وينظر: الكشاف: 754.

(1) ينظر: دلائل الإعجاز 5 والتراكيب النحوية من الوجهة البلاغية 87، 90 والمدخل الى دراسة النحو العربي في ضوء اللغات السامية 96، واللهجات نشأةً وتطوراً 42.

(2) ينظر: المفصل في تاريخ العرب 8.

(3) البرهان 1/381.

(4) تفسير الطبري 1/21 والنشر 1/19.

(1) الإتقان 1/ 153، 3/ 335.

(2) النشر 1/5.

(3) ينظر: تاريخ القرآن، نولدكة 45-48، وفي اللهجات العربية أنيس 45، ومباحث في علوم القرآن، الصالح 103.

(4) مثل: نظم القرآن والكتاب، يوسف درة الحداد، 33، ومباحث قرآنية، القس وليم غولدساك وتدوين القرآن، كانون سل، وغيرها من الكتب المعادية للإسلام التي طبعت في أوربا نهاية القرن العشرين وأعاد نشرها موقع الكتروني لا أرغب بذكره بعده عن روح البحث العلمي.

(5) معاني القرآن 2/ 75.

(6) كتاب سيبويه 1/ 82.

(1) ينظر سيبويه والقراءات 14، 16-180. ذكر د. احمد مكي الأنصاري معارضات سيبويه الكثيرة للقراءات.

(2) ينظر: معاني القرآن للاخفش الأوسط 1/ 19 والبيان والتبيين 2/ 219، ومعاني القرآن للفراء 2/ 75 والسبعة 53، 287 والمنصف 1/ 307، وإعراب القرآن للنحاس 1 / 32 وتأويل مشكل القرآن 58-61 والمعارف 230 وتفسير القرطبي 5/ 2-1526 والبرهان 1/319، 321 والإتقان 1/ 205، والاقتراح 1/3، 67، 69.

(3) ينظر: الخصائص 1/ 191 والمحتسب 1/3.

(4) ينظر: 1/21-82.

(5) ينظر:أثر القراءات في الدراسات النحوية 97، واللهجات العربية نشأة وتطوراً 391-444، والقياس في العربية د. محمد حسن 72، وفي اللهجات، أنيس 45-48.

(6) في اللهجات العربية: 11.

(7) ينظر: المصاحف، مقدمة التحقيق 1/ 115 -121 وتاريخ القرآن، نولدكة 45-48.

(1) ينظر معاني القرآن، الاخفش 1/ 14، 263، وتأويل مشكل القرآن 58 ومعاني القرآن، الفراء 2/ 183، 316، واعراب القرآن للنحاس 2/ 503. والكشاف: 66، والبحر المحيط 5/131.

(2) مذاهب التفسير، جولدتسير 3-9.

(1) ينظر: الكشاف 108، 135، 198، 437، 440، 1068 وغيرها، والبحر المحيط 2/131، 140، 3/373 وتفسير ابن عرفة 1/221، والتحرير والتنوير 2/ 499، 3/ 500 وغيرها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 14/حزيران/2009 - 16/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م