الليبرالية بين ضبابية المفهوم وتناقض التفسير

المصالح الاقتصادية المتأرجحة للطبقة الحاكمة والأيديولوجية البرجوازية

مركز النبأ الوثائقي/مفاهيم

شبكة النبأ: اختلفت التفسيرات لمفهوم الليبرالية، كما اختلفت أنواع الليبرالية باختلاف طرق تفكير منظريها ومطبقيها، حتى يحار المرء في فهمها وتحديد موقف محدد منها، وأطلق عليها بأنها أيدلوجية قابلة للتأويل، تجيد المراوغة والتحول وتوظف المفاهيم الإنسانية الكبرى والقيم النبيلة من أجل تحقيق منافع مباشرة اقتصادية بالأساس.

اشتقت كلمة ليبرالية من ليبر liber وهي كلمة لاتينية تعني الحر. الليبرالية حاليا مذهب أو حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وقد تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، وتختلف من مجتمع غربي متحرر إلى مجتمع شرقي محافظ. الليبرالية أيضا مذهب سياسي واقتصادي معاً ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية وتأييد النظم الديمقراطية البرلمانية والإصلاحات الاجتماعية.

المنطلق الرئيسى في الفلسفة الليبرالية هو أن الفرد هو الأساس، بصفته الكائن الملموس للإنسان، بعيداً عن التجريدات والتنظيرات، ومن هذا الفرد وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبع القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً.

 فالإنسان يخرج إلى هذه الحياة فرداً حراً له الحق في الحياة أولاً. ومن حق الحياة والحرية هذا تنبع بقية الحقوق المرتبطة: حق الاختيار، بمعنى حق الحياة كما يشاء الفرد، لا كما يُشاء له، وحق التعبير عن الذات بمختلف الوسائل، وحق البحث عن معنى الحياة وفق قناعاته لا وفق ما يُملى أو يُفرض عليه. بإيجاز العبارة، الليبرالية لا تعني أكثر من حق الفرد ـ الإنسان أن يحيا حراً كامل الاختيار في عالم الشهادة، أما عالم الغيب فأمره متروك في النهاية إلى عالِم الغيب والشهادة. الحرية والاختيار هما حجر الزاوية في الفلسفة الليبرالية، ولا نجد تناقضاً هنا بين مختلفي منظريها مهما اختلفت نتائجهم من بعد ذلك الحجر، سواء كنا نتحدث عن هوبز أو لوك أو بنثام أو غيرهم.

 هوبز كان سلطوي النزعة سياسياً، ولكن فلسفته الاجتماعية، بل حتى السلطوية السياسية التي كان يُنظر لها، كانت منطلقة من حق الحرية والاختيار الأولي. لوك كان ديموقراطي النزعة، ولكن ذلك أيضاً كان نابعاً من حق الحرية والاختيار الأولي. وبنثام كان نفعي النزعة، ولكن ذلك كان نابعاً أيضاً من قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولى، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة في النهاية. وفي العلاقة بين الليبرالية والأخلاق، أو الليبرالية والدين، فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار. أن تكون متفسخاً أخلاقياً، فهذا شأنك.

 ولكن، أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين، بأن تثمل وتقود السيارة، أو تعتدي على فتاة في الشارع مثلاً، فذاك لا يعود شأنك. وأن تكون متدينا أو ملحداً فهذا شأنك أيضا.

وأما في الاقتصاد فتعني تلك النظرية التي تؤكد على الحرية الفردية الكاملة وتقوم على المنافسة الحرة واعتماد قاعدة الذهب في إصدار النقود..أهم شعار في الليبرالية هو: دعه يعمل دعه يمر. ويسمى الليبراليون بالحرييين فقد ارتبطت الليبرالية بالحرية الإقتصادية.

خصائص الليبرالية

الليبرالية عكس الراديكالية لا تعترف بمرجعية مقدسة؛ لأنها لو قدست أحد رموزها إلى درجة أن يتحدث بلسانها، أو قدست أحد كتبها إلى درجة أن تعتبره المعبر الوحيد أو الأساسي عنها، لم تصبح ليبرالية، ولأصبحت مذهبا من المذاهب المنغلقة على نفسها.

مرجعية الليبرالية كم يزعم مؤيدوها هي في هذا الفضاء الواسع من القيم التي تتمحور حول الإنسان، وحرية الإنسان، وكرامة الإنسان، وفردانية الإنسان. الليبرالية تتعدد بتعدد الليبراليين. وكل ليبرالي فهو مرجع ليبراليته. وتاريخ الليبرالية المشحون بالتجارب الليبرالية المتنوعة، والنتاج الثقافي م أو حاول الإلزام، سقط من سجل التراث الليبرالي.

مبادئ الليبرالية

تقوم الليبرالية كما يرى المروجون لها على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه بالحياة واعتبار المساواة أساسا للتعاون ومنطلقا لإحترام الأفراد وضمان حريتهم ولا يكون هناك أي دور للدولة في العلاقات الاجتماعية أو الأنشطة الإقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد و المجتمع.

و تقوم الليبرالية أيضا على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام و ذلك لتعبير عن إرادة الشعب و التخلص من الفساد في المجتمع و احترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية و أن تخضع هذه السلطات للتعديل من أجل ضمان الحريات الفردية و للحد من الإمتيازات الخاصة و رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكي تكون هذه المؤسسات معبرة عن إرادة الشعب باكمله..

 ففي الفكر والنظرية تسمو قيم الحرية والفردية لكن في التطبيق تتلاشى الحريات ويسود السوق وتهيمن الرأسمالية المتوحشة. ورغم الالتباس والجرائم الكبرى تجد منظومة الليبرالية لديها من الكبرياء ما يدفعها للزعم بأنها الحل التاريخي والإجابة الأبدية لأسئلة المجتمع والدولة كما في أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، في حين لا يرى فيها نقادها إلا نسقا مثاليا تأكله آليات الاقتصاد فيستعصي جوهره كرؤية للتحرر والتحقق الفردي على التطبيق.

وتذهب معظم الكتابات إلى أن استخدام مصطلح "ليبرالي" بدأ منذ القرن 14، ولكنه كان يحتمل معاني متعددة ودلالات شتى، فالكلمة اللاتينية liber تشير إلى طبقة الرجال الأحرار، أي أنهم ليسوا فلاحين مملوكين أو عبيدا. والكلمة كانت ترادف "الكريم" أي "ليبرالي" أو سخي في تقديمه لمعونات المعايش للآخرين. وفي المواقف الاجتماعية كانت الكلمة تعني "متفتحا" أو ذا عقل وأفق فكري رحب. وترتبط الكلمة كثيرا بدلالات الحرية والاختيار.

لكن الليبرالية بمفهومها السياسي لم تظهر إلا في أوائل القرن 19، وأول استخدام كان في أسبانيا في عام 1812، وبحلول الأربعينيات من ذلك القرن كان المصطلح قد صار واسع الانتشار في أوربا؛ ليشير إلى مجموعة من الأفكار السياسية المختلفة. ولكن في إنجلترا انتشر المصطلح ببطء برغم أن الأعضاء ذوي الشعر المستعار Whigs (أعضاء حزب بريطاني مؤيد للإصلاح) أطلقوا على أنفسهم "الليبراليون" أثناء الثلاثينيات من القرن 18، وكانت أول حكومة ليبرالية هي حكومة جلادستون Gladstone التي تولت الحكم عام 1868.

ولم تظهر الليبرالية كمذهب سياسي قبل القرن 19، ولكنها قامت كأيدلوجية على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك بـ300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوربا والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق.

ويعتبر القرن 19 في كثير من الجوانب قرنا ليبراليا، حيث انتصرت الأفكار الليبرالية مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية. ويؤيد الليبراليون النظام الاقتصادي الصناعي واقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، حيث يسمح فيه بمباشرة الأعمال للحصول على الربح وتسود فيه التجارة الحرة بين الدول بدون قيود. فهذا النظام -نظام الرأسمالية الصناعية- نشأ في البداية في إنجلترا في منصف القرن 18، وأصبح راسخا في أوائل القرن 19، ثم انتشر في أمريكا الشمالية ثم غرب أوربا وتدريجيا طبق في أوربا الشرقية.

وقد حاول النموذج الرأسمالي الصناعي أثناء القرن العشرين التغلغل في الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة أن التنمية الاجتماعية والسياسية تم تعريفها بالمنظور الاقتصادي الغربي المتمثل في نظرية التقدم المادي، ولكن العديد من البلدان النامية قاومت الليبرالية لارتباطها بالنظم الاستعمارية من جهة ولقوة الثقافة السياسية التقليدية في الدول حديثة الاستقلال التي تناصر الجماعية وليس الفردية؛ ولذلك كانت تربة خصبة لنمو الاشتراكية والقومية أكثر من الليبرالية الغربية.

ولقد نجحت اليابان في تطبيق الرأسمالية، ولكنها قامت على التعاونية وليست الفردية؛ فالصناعة اليابانية تتأسس على الأفكار التقليدية من وفاء للجماعة والشعور بالواجب الأخلاقي وليس السعي لتحقيق المصلحة الذاتية للفرد وحسب.

وقد اقترنت النظم السياسية الغربية بأفكار وقيم الليبرالية، وهي نظم دستورية حيث تحد الدساتير من سلطة الحكومة وتحافظ على الحريات المدنية، كما أنها تمثيلية أو برلمانية أي أن الصعود إلى المناصب السياسية يتم من خلال انتخابات تنافسية.

وقد شهد التحول للديمقراطية الغربية صعودا في بعض الدول النامية في الثمانينيات، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت محاولات تحول ديمقراطي أيضا في أوربا الشرقية.

و أنه في بعض الحالات ورثت دول أفريقية وآسيوية الأسلوب الغربي للحكم الليبرالي من حقبة ما قبل الاستقلال، ولكن بدرجات نجاح متفاوتة، فعلى سبيل المثال تُعَد الهند أكبر النظم الديمقراطية الحرة في العالم الثالث، لكن في أماكن أخرى سقطت النظم الديمقراطية الليبرالية؛ بسبب غياب الرأسمالية الصناعية كأساس اقتصادي وغلبة التحالفات العشائرية، أو بسبب طبيعة الثقافة السياسية المحلية، ففي مقابل الثقافة السياسية في معظم الدول الغربية القائمة على أساس وطيد من القيم الليبرالية الرأسمالية مثل حرية التعبير المطلقة وحرية الممارسة الدينية (أو الروحية الانتقائية العلمانية) والحق المطلق في الملكية، كمبادئ مستمدة من الليبرالية وراسخة في أعماق المجتمعات الغربية نادرا ما تواجه أي تحدي أو مسائلة، نجد في دول العالم الثالث مكانة مركزية للدين واحترام للجماعة وقيمها يحدد مجالات الحرية الفردية، ومكانة للولاء الأسري والعشائري تحفظ القيم الجماعية.

ولا شك أن التطورات التاريخية في القرنين 19 و20 قد أثرت في مضمون الأيديولوجية الليبرالية، فتغيرت ملامح الليبرالية مع نجاح الهيمنة السياسية والاقتصادية لدى الطبقات المتوسطة الصاعدة، كما أن السمت الثوري لليبرالية في بواكيرها منذ القرن السادس عشر تجاه واقعها تلاشى مع كل نجاح ليبرالي، فأصبحت الليبرالية أكثر محافظة وأقل سعيا للتغير والإصلاح وتميل للحفاظ على المؤسسات القائمة الليبرالية. ومنذ أواخر القرن 19 ومع تقدم الصناعة والتصنيع بدأ الليبراليون في إعادة النظر ومراجعة الأفكار والمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية لتنشأ ليبرالية.. جديدة.

فبينما كان الليبراليون الأوائل يؤمنون بتدخل الحكومة المحدود جدا في حياة المواطنين، يعتقد الليبراليون الجدد أن الحكومة مسئولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والإسكان والمعاشات والتعليم، بجانب إدارة أو على الأقل تنظيم الاقتصاد.

 ومن ثَم أصبح هناك خطان من التفكير الليبرالي: الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة. ولذلك رأى بعض المحللين أن الليبرالية ليست أيديولوجية متماسكة، فهي تضم تناقضات بشأن دور الدولة، ولكن يمكن القول هنا إن الليبرالية في التحليل الأخير -مثل جميع الأيديولوجيات السياسية- قد تعرضت للتطور في مبادئها الرئيسية، وذلك مع التغيرات التاريخية المحيطة، فلا يوجد أيديولوجية سياسية جامدة أو متوحدة، فكلها تحتوي على مجموعة من الآراء والاجتهادات التي قد تتعارض أو تتناقض. وبالرغم من ذلك هناك تماسك ووحدة ضمنية في قلب الفكر الليبرالي، وذلك في الالتزام الأساسي بحرية الفرد والمبادئ التي تترتب على مذهب الفردية.

المصادر:

موسوعة ويكيبيديا + موقع الإسلام اون لاين

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 13/حزيران/2009 - 15/جمادى الآخرة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م