تواجه الحكومة السعودية منذ سنوات نتائج الفكر التكفيري الذي أدخل
البلاد في دوامة من الأحداث والتأهب الأمني المستمر تحسباً لأي أعمال
إرهابية تضر بالجهات السيادية والخاصة في الوطن. فعملت الدولة جهدها
أمنياً لقطع دابر المتطرفين وملاحقتهم وسجنهم للقضاء عليهم، إلا أن
جذور الأزمة بقيت قائمة ولم تنتهي بعد.
فما تتجه له الأفكار والمعتقدات والحالة الدينية من تصورات خاطئة
وانفلات في الفتيا والتوجيه دون ضابط، وما يتاح لها من وسائط للانتشار
والتغلغل في المجتمع، زرع نوعاً من العنجهية في أنفس أولئك بصوابية
الفكر وأحقيتهم في الحاكمية على الأمة، إذ أصبح التدخل وتقصي خصوصيات
الناس والتشنيع على معتقداتهم وطرح كل ما يؤزم العلاقة بين نسيج الوطن
الواحد من ألف باء أولوياتهم.
وقد كان الإعلام الرسمي مطية "للمتشددين" لنشر ما يُعتقد أنه "الدعوة
وهداية الناس من الضلال" دون أن يقف مقص الرقيب بأمانة ضد ما يسيء من
أفكار ومقالات للإنسانية وأصحاب المذاهب والأديان وشركاء الوطن الذين
يعيشون داخل البلاد.
إن حكومة المملكة كانت الأكثر تضرراً من الإرهاب الداخلي الذي وجه
سهامه نحو مصالح الدولة، فانبعاثات المشكلة كانت فكرية بالدرجة الأولى
عمل فيها التيار الديني المتشدد وعلى مدى عقود على إعطاء جرعات: الجهاد،
قتال الكفار، وجوب إخراج المشركين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المفتقر لشرائطه الصحيحة.
هذه المسميات وغيرها جثمت في العقول ضمن أيديولوجية معينة أخذت
بعموميات الآيات القرآنية وأطلقت العنان "للدعاة" بالتشخيص الذاتي
وإطلاق الأحكام الجزافية على الحالات التي تخالف الفكر المتبنى، ما
أنتج العنف والاضطراب الأمني والاجتماعي الذي سببه تباين الفكر وإلغاء
الآخر. فكيف للأمن أن يسود في ظل بقاء روافد تغذية التعنت والإقصاء
وإذكاء الحرب الفكرية والعقدية من خلال ما يطل به الإعلام من ابتزازات
فكرية ومقالات تمس بشرائح من أبناء الوطن أبطالها دعاة ورجال دين يفترض
منهم تعزيز الحالة الوطنية والمساواة، فالثقة التي أوليت لهم ولمسئولي
الإعلام من وضعهم موضع المسؤولية توجب عليهم الطاعة وعدم مخالفة ما تنص
عليه التشريعات في البلاد وما يدعو له الملك من حوار بين الأديان .
وبالنظر للإعلام والأمن فإنهما شريكان لا ينفكان في تربية المواطن
على احترام أخيه المواطن وتثقيفه لاحترام قوانين البلد المنصوص عليها
والتي بمخالفتها يتدخل القانون والعقوبة ضد من يحاول العبث بالنظام،
إلا أن ذلك لا يبدو متعاضداً.
فالجهود الأمنية المتواصلة للقضاء على الإرهاب لم تدعم بجهد إعلامي
حقيقي للحد من البرنامج الفكري الذي يبث الأفكار التي تلغي ثقافة
الاختلاف وتدفع بعض محدودي الثقافة والفهم للوقيعة بالآخرين، فما أكثر
ما تتكرر المقالات التي تلمز بنفس سلبي ضد الشيعة وتسيء تصويرهم
وتشهيرهم للعالم من أجل الحيطة والحذر في التعامل معهم واللعب بعواطف
البسطاء.
لقد نص نظام المطبوعات والنشر (1) في المملكة في إحدى نقاط المادة
التاسعة على ألا تؤدي المطبوعة "إلى إثارة النعرات وبث الفرقة بين
المواطنين" و "ألا تؤدي إلى المساس بكرامة الأشخاص وحرياتهم، أو إلى
ابتزازهم، أو إلى الإضرار بسمعتهم" وهذا ما يتنافى وبعض ما ينشر من
مقالات فيها من الإساءة ما لا يمكن التغاضي عنه.
ونتيجة للانفلات الفكري الحاصل والذي يؤثر عكسياً على علاقة
المواطنين ويشحن النفوس للاعتداء على الطرف المعلق على مقصلة التشهير
وبالتالي احتمالية الجريمة في المجتمع ولو بنسبة ما، فإن من حق كل من
يتعرض للإساءة أن يطلب من الصحيفة التي نسبت إلى الغير تصريحاً غير
صحيح ، أو نشرت خبراً خاطئاً ، أن تصحح ذلك بنشره مجاناً ، بناءً على
طلب صاحب الشأن ، في أول عدد يصدر بعد طلب التصحيح، ويكون ذلك في
المكان الذي سبق أن نشر الخبر أو التصريح فيه ، أو في مكان بارز منها ،
ولمن أصابه ضرر حق المطالبة بالتعويض وذلك بنص المادة الخامسة
والثلاثين من ذات النظام.
فكم نحن بحاجة إلى لجنة أهلية وإعلاميين مستقلين يرصدون التجاوزات
الإعلامية على مستوى الخبر والتجنيات الفكرية والدينية المغلوطة
والوقوف بحزم على تصحيح المواقف والآراء التي تنفذ بين السطور
والعبارات. فكما يسمح للرأي الواحد أن يعبر عن رأيه، فمن حق الرأي
المقابل أن يعبر بطرح وجهة نظره ويدفع الشبهة عنه ومعاقبة من يتسبب في
إطلاقها.
من غير المنطقي أن يبتر مقص الصحافة جملاً من المقالات الاجتماعية
والفكرية الموزونة للواعين من كتاب الوطن بينما بالمقابل يسمح بنشر
مقالات مليئة بالمغالطات وتثير اللغط بين شرائح المجتمع وتسيء إليهم،
ليأتي السؤال عن المستفيد من كل ذلك والنتيجة المتوخاة من مزاعم غير
مرتكزة على البحث التاريخي والفكري الدقيق؟
إن من الواجب دفع كل ما قد يوتر العلاقة بين المواطنين وتعزيز الأمن
الفكري داخل المجتمع الذي هو جزء من القاعدة الأساس للأمن القومي
الوطني الواجب تبنيه من قبل الجميع، فبحل الأزمة الفكرية وتصحيح الرؤى
يتحقق الأمن والسلام إن أريد له ذلك وإلا فإن هناك من سيستفيد ويذكي
تلك الأفكار ويعطيها الشرعنة لممارسة تصرفاتها بكل جسارة للنفوذ بين
أطياف المجتمع وتحقيق ما يصبو له من مآرب وشقاق.
..........................
(1) نظام المطبوعات والنشر الصادر بالمرسوم الملكي
رقم م/32 وتاريخ 3/9/1421هـ |