تتجه معظم الدراسات العلمية التي تطال الاستشراق بشقيه النظري
والاستعماري، الى تغييب مركزية التأثير التوراتي في الخلاصات والطروحات
التي تقدم بها كبار المستشرقين اليهود ومن بينهم برنارد لويس، خاصة أن
لهؤلاء دور استشاري إذا لم نقل محوري في رسم سياسات واشنطن،
وإستراتيجياتها الخارجية في أكثر المناطق قلقاً واضطراباً، والمقصود
هنا بلا مواربة منطقة الشرق الأوسط، التي تآلفت مع التحولات السياسية
الانقلابية، بدءاً من قيام دول إسرائيل عام 1948، مروراً بحرب الخليج
الثانية وصولاً الى الغزو الاميركي للعراق.
لا مشاحة أن الاستشراق الاسرائيلي الذي تزيا برداء النص التوراتي،
ينطلق في رؤيته لذاته الموسومة بالأنوية من حيثيات دينية، تنعكس
بالضرورة على توجهاته في بناء دولة هجينة، لم تعرف الثبات والاستقرار
منذ نشأتها حتى الوقت الراهن بفعل بنيتها وحروبها المستدامة ضد العرب
والمسلمين؛ فهل ستتحق نبؤات الشيخ أحمد ياسين حين أعلن زوال الكيان
الصهيوني بناءً على قراءة دينية قرآنية؟ وفي حال أسقطنا الانطباعات
الافتراضية التي تقدم بها الشيخ، هل تضمن إسرائيل المحافظة على وجودها
إزاء خطر الإندثار، كنتيجة حتمية للاندماج التراكمي مع المجتمعات
المحيطة بها، والذي تفرضه ولو بشكل غير مباشر اتفاقيات السلام الموقعة
والمزمع توقيعها مع دول ستدخل قريباً في نادي التطبيع؟
إن الإشكاليات المطروحة تحتاج الى مزيد من الوقت لإكتناه نتائجها،
فتاريخ الجماعات وتحولاتها لا يمكن رصده واستشرافه على المدى المنظور،
بل يقتضي عقوداً من الزمن لإظهار مآلاته ومؤثراته في المجالين
الاجتماعي والجيو سياسي؛ ولكن ما يمكن التأكيد عليه أن المعطى الديني
حاضرٌ بقوة في الشرق والغرب، والنظرية التي تقدم بها عالِم الاجتماع
ماكس فيبر حول تاريخ إزالة الإنشداه والخروج من سطوة العالَم الجذاب
للدين في أوروبا وحضوره خارجها، تلزمنا إجراء جملة من المراجعات
النقدية حول صوابيتها أقله على مستوى الخطاب السياسي في كلا الدائرتين
الحضارتين.
بصرف النظر عن تأثير الدين وحضوره في العالم ومدى انعكاسه على
التوجهات الدولية (نُحيل القارئ الى كتاب جورج قرم: المسألة الدينية في
القرن الواحد والعشرين، تعريب خليل أحمد خليل، دار الفارابي، بيروت،
2007) كيف يمكن رصد خصائص الاستشراق الإسرائيلي؟ وكيف حدد نظرياته حول
الإسلام؟ وما هو أثر النزاع العربي _ الإسرائيلي على الدراسات
الاستشراقية؟
استقى الاستشراق الاسرائيلي معظم طروحاته حول الإسلام من نظيره
الاوروبي، مؤكداً على غياب الأصالة عن النص الديني القرآني وتأثره
الشديد باليهودية والمسيحية والاقتباس عنهما، ولم يكتف بذلك بل خلص الى
أن الدين الإسلامي ينزع نحو الجوهرانية القائلة بوجود ذهنية ثابتة لا
تتغير، وقد سعى الى توظيف هذه النظرية في قراءته السياسية للحركات
الإسلاموية وللمجتمعات الحاضنة لثالت الديانات الابراهيمية.
وفي هذا السياق يقدم الدكتور محمد إدريس في كتابه "الاستشراق
الإسرائيلي" قراءة تاريخية لمحاولات أهم المستشرقين اليهود في تشويه
الإسلام، والتشكيك في صحة الحديث النبوي، مشيراً الى أن اغنتس غولدزيهر
(1850_1921) أول من قام بمحاولة واسعة وشاملة في هذه المسألة وطبق
عليها مناهج صارمة، تتلخص بإبراز منهجية التأثر والتأثير والمطابقة،
ومحاولة تطويع النصوص الدينية وفق أحكام مسقطة مسبقاً.
الى ذلك تعتبر المستشرقة الاسرائيلية حافا لزروس يافا أبرز من
ساهم في الحركة الاستشراقية العبرية، إذ تعددت كتاباتها وركزت بشكل خاص
على دراسة الغزالي وعمر بن الخطاب، وأشرفت على العديد من الرسائل
العلمية في الجامعة العبرية تناولت فيها الحج والجهاد؛ وتوصلت الى
سلسلة من النتائج المتعلقة بغياب الأصالة عن النص القرآني بأسلوب جازم
حيث قالت " من المؤكد أنه كانت في شبه الجزيرة العربية، يهودية مبدعة
عشية ظهور الإسلام، وينبغي أن نسلّم بأنها قد أثرت على العالم الروحاني
لمحمد، ويبدو أيضاً أن قريب زوج محمد _خديجة_ كان معلمه في هذا الشأن،
وأنه أفهمه سر الباحثين عن الإيمان بإلله واحد". أما شالوم زاوي فقد
أشار في كتابه مصادر يهودية في القرآن، الى "أن هناك حاخامات مثقفون
أثروا على النبي الذي تهوّد تقريباً، ومعلومات النبي لا تستند على
وثائق أو شهادات مادية، كما حدث منذ آلاف السنين، وإنما على أقوال
اليهود والنصارى ووثائقهم الموجودة في معابدهم بالحجاز واليمن
والحبشة". ولم يقتصر الأمر عند هذه الحدود بل قام زاوي بتأويل الآيات
القرآنية بأسلوب يتماشى مع أحكامه المسبقة، وفي تفسيره للآية التالية "
كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم" زعم أن ذلك اشارة الى
صوم يوم الكيبور عند اليهود.(أنظر:إدريس، محمد: الاستشراق الاسرائيلي،
ص 108-120).
إن منهج التأثر والتأثير المُستخدم من قبل يافا وزاوي يعتبر من
أكثر المناهج تطبيقاً عند جزء لا يستهان به من المستشرقين اليهود
والاوروبيين في الدراسات الإسلامية، وينحو هذا المنهج إلى إثارة
الإرتياب في كل ما يمت بصلة إلى أصالة الإسلام، ويرمي إلى نزع الطابع
الإسلامي، والتركيز على مسألة اللا أسلمة وإثارة الشكوك في أصوله
ومنابعه الشرعية والفقهية. وفي تفسيرهم للوحي الإلهي، والفلسفة
الإسلامية، والفقه الإسلامي، والسنة النبوية، اعتبروها مستمدة من عوامل
خارجية بسبب الاحتكاك والاتصال بين الحضارة الإسلامية والحضارات
الأخرى. وتمثل دراستهم لعلم أصول الدين مثالاً ساطعاً على ذلك: " إن
الأحوال الثلاثة: وهي العلم والقدرة والحياة عند أبي الهاشم الصوفي، لا
تبتعد عن الأقانيم الثلاثة في الديانة المسيحية، على الرغم من أن هذا
العلم نشأ في فترة مبكرة سبقت عصر الترجمة، وأنه في حقيقة أمره أول
محاولة لتعبير عن النصوص، وفهمها فهماً عقلياً خالصاً، ثم تحويلها
بعدئذٍ إلى معانٍ". (العاني، عبد القهار: الإستشراق والدراسات
الإسلامية، دار الفرقان، عمان، الطبعة الأولى، 1989، ص 121).
سياسياً شكل النزاع العربي _ الاسرائيلي محوراً رئيساً وفاعلاً في
الدراسات الاستشراقية العبرية، وقد أسست لهذه الغاية العديد من المعاهد
المختصة في دراسة الشرق الاوسط والإسلام، والتي كرست معظم أبحاثها
لإمداد الجهاز السياسي والعسكري في دولة إسرائيل بأهم النتائج
والخلاصات التي تدور في إطار الفكرة الصهيونية وتمددها؛ وعليه يمكن
القول إن ميزة الاستشراق الاسرائيلي تتمثل في ذلك التعاون بين مراكز
البحوث وأجهزة الجيش، ومن أهم مراكز الأبحاث المعنية بهذا الشأن: مؤسسة
الأبحاث الشرقية، معهد الدراسات الإسلامية والشرق الأوسط، مؤسسة أبحاث
الشرق الأوسط، مركز يافيه للدراسات الاستراتيجية.
حاول المستشرقون الاسرائيليون إثبات حق اليهود في إقامة دولتهم في
فلسطين من خلال التأويل التحريفي لبعض الآيات القرآنية، بغية تأكيد
حقهم الوجودي والديني لما يُسمى أرض المعاد، ويورد شالوم زاوي في هذا
المجال رؤيته المدججة بالاحكام المسبقة، نافياً حق المسلمين في أول
القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ويقول:" لا توجد آية في القرآن تقول
إن الارض المقدسة للمسلمين، وإن كان هؤلاء قد احتلوها خلال مئات السنين
كما فعل من قبلهم اليونان والرومان والبيزنطيين، والآيات تلزم المسلمين
الاعتراف بالحقيقة التاريخية التي أكدها الوحي في التوراة والقرآن:
الأرض لبني إسرائيل".
إن الحضور الكثيف للصهيونية في الاستشراق الاسرائيلي القديم
والمعاصر يبرهن على عدة معطيات: أولها، توظيف التوراة وإجتزاء نصوصها
في سبيل اضفاء الشرعية الدينية على حق اليهود في فلسطين المحتلة؛
ثانيها، تقديم تفسيرات وتأويلات سياسية مغايرة للسياقات التاريخية؛
ثالثها، تأليب الرأي العام العالمي ضد المسلمين من خلال التأكيد على
الطابع اللاتسامحي في الإسلام؛ رابعها، العمل على عسكرة الاستشراق
الاسرائيلي أي أن هنالك تعاون كامل بين ما يمكن تسميته بدراسات شرق
الأوسط وأجهزة الجيش.
غير أن المتتبع لمسار الاستشراق الاسرائيلي، لا يمكنه تجاهل ما
تقدم به برنادر لويس، الذي يطالعنا بين مرحلة وأخرى بطروحات عنصرية،
تنم عن تراكم معرفي خاطئ في الكثير من جوانبه، خاصة ما يتعلق بجوهر
الإسلام أو ماهويته؛ ولا تنحصر نظرياته في هذه مسألة بل تتخطاها الى
حدود التدخل السافر في مستقبل الدول العربية والإسلامية، ومن المعروف
أن لويس طرح مطالعات استراتيجية على الادارات الاميركية المتعاقبة لا
سيما في حقبة بوش الابن، تحدث فيها عن ضرورة استرجاع المسلمين لحقبة
الاستعمار لما له من انعكاسات ايجابية عليهم، كما أنه اقترح تقسيم
الشرق الأوسط الى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية ومذهبية لحماية المصالح
الأميركية واسرائيل، ويتضمن المخطط تجزئة العراق إلى ثلاث دويلات
وإيران إلى أربع والأردن إلى دويلتين، ولبنان إلى خمس دويلات، والسودان
إلى أربع، والسعودية إلى عدة دويلات. ويرى لويس أن جميع الكيانات
ستشلها الخلافات الطائفية والمذهبية والصراع على النفط والمياه والحدود
والحكم، وهذا ما سيضمن تفوق إسرائيل في الخمسين سنة القادمة على الأقل.
قصارى القول يكشف الاستشراق الاسرائيلي عن تأثره العميق في النص
التوراتي، الذي تم توظيفه لخدمة الأهداف السياسية وفي مقدمتها إرساء
المشروع الصهيوني على قاعدة الحروب والفتن في الشرق الأوسط، والحال فإن
الفكر السياسي الذي قامت على أساسه دولة إسرائيل، من غير الممكن عزله
عن الإرث الديني والتاريخي، الذي استنزفت خلاله ومعه مفاهيم معاداة
السامية والكره المتنامي للعرب والمسلمين، هذا البغض كما يصفه المطران
جورج خضر "بغضٌ عتيق لهاجر ولإسماعيل منذ تدوين سفر التكوين، وصراعنا
ليس مع هذا الكيان الهجين فحسب، ولكن مع ما يحمله من بغض يؤدي منطقياً
للإبادة."
* كاتبة لبنانية |