بعد ان تحررت معظم دول العالم الثالث من الاستعمار وبمختلف اشكاله
وخاصة العسكري،لم نرى من ذلك التحرر سوى جزء بسيطا فقد خلف لنا في كل
بلد تركة ثقيلة جعلت ايام الاستعمار ارحم بكثير في بعض البلدان من
الاحوال المعاصرة.
اغلب مشاكل تلك المخلفات تتركز في الاستبداد وعدم وجود ديمقراطيات
حقيقية،وتركز السلطات في ايدي اقلية والتي غالبا ما تحتاج الى الدعم
الخارجي،والاقلية قد تكون دينية او مذهبية او عرقية او حتى طبقية،كذلك
ترك لنا المشاكل الحدودية المستعصية بين الدول والتي سببت المآسي
الناتجة من الحروب والنزاعات المستمرة،هذا بالاضافة الى مشاكل التخلف
والجهل والفقر وغيرها من المشاكل التي انخفض حجمها بصورة ملحوظة مع
مرور الزمن من خلال استقلال الكثير من المستعمرات حديثا والتي قلت
المشاكل التي نتجت عن المستعمرات القديمة،وقد يكون ناشئا هذا من تغير
سياسات الدول الاستعمارية والتي نتجت بالاساس من تغير الحكومات
الداخلية في بلدانها او ظهور انماط ثقافية مختلفة خضعت لها ومن ضمنها
مبادئ حقوق الانسان والسوق الحرة والديمقراطية.
عموما كانت تتسابق الدول في السابق في معاداة الدول التي استعمرتها
كوسيلة انتقامية او نتيجة لتضارب السياسة الخارجية مع المستعمر،ولكن
بمرور الزمن ومع تهالك النظم الحاكمة واستنزاف قدراتها السياسية
والاقتصادية والعسكرية في تلك النزاعات التي يبدو انها مستمرة الى اجل
غير مسمى، تغيرت العلاقة، واصبحت عودة الدول الاستعمارية الى
مستعمراتها شبه مؤكدة عسكريا بعد ان دخلت من البوابات الثقافية
والاقتصادية الذي لازم بقية النفوذ السياسي.
ويمكن من خلال دراسة مقارنة بعض الدول عند الاستقلال،بوضعها الحالي
وهي امثلة حقيقية واقعية لا لبس فيها،مثل العراق وافغانستان ويوغسلافيا
السابقة والصومال وغيرها التي تخضع وبمستويات مختلفة من الحكم العسكري
المباشر لها كليا او لبعض اجزائها،او دول اخرى فقدت كل استقلالية
حقيقية يمكن تصورها من خلال الخضوع للغرب بصورة عامة،واصبحت تبعيته
احيانا كثيرة مثيرة للاحزان كونها اتت بعد تضحيات جسام من شعوبها، التي
ناضلت من اجل اخذ حريتها بالقوة من المستعمر،لتجد نفسها فريسة مستعمرين
قساة من ابنائها يستهترون بكل مقدس لديها ويعبثون بكل مقدراتها بدون
مسؤولية ضمير وحس وطني مما جعلها تحن الى ايام الاستعمار الذي كان يعطي
مساحة من الحرية للشعوب تفوق بكثير ما هو ممنوح للشعوب المعاصرة او
بسبب التهديدات للدول المجاورة...
ومن ابرز الامثلة على تلك الدول هي مصر ودول الخليج وباكستان ودول
المغرب العربي واريتيريا والكثير من دول القارة الافريقية التي اصبحت
استقلالية بالشكل فقط دون الوصول الى مرحلة الاستقلال الحقيقي مثلما هو
الحاصل في ايران او فنزويلا او الهند او جنوب افريقيا بغض النظر عن
طبيعة النظام السياسي الحاكم.
بعد النزاعات الاقليمية الدموية في الشرق الاوسط، اصبحت
الاستراتيجية الرئيسية لدول المنطقة هي الدخول في تحالفات مع الدول
الكبرى وكأنها لعبة رغم خطورتها الواضحة،وهي بالدرجة الاولى تتركز مع
ثلاث بلدان هي امريكا وبريطانيا وفرنسا،ورغم ان تلك التحالفات وصلت الى
درجة عقد معاهدات دفاعية واقامة قواعد عسكرية وتعاون عسكري وامني على
ارفع المستويات،الا ان ذلك لا يخلو من فقدان كبير لاستقلالية القرار في
تلك البلدان التي اصبحت من التبعية الى درجة ان وضعها في بعض الاحيان
ايام الاستعمار افضل بكثير من وضعها الحالي! واكثر الاسباب المؤدية الى
تلك الحالة المزرية هي الخوف من فقدان الوجود من على الخارطة السياسية
او جزء من الكيان السياسي او فقدان الحكم لفئات اخرى منافسة،وهذه
المواصفات هي متطابقة مع دول العالم العربي،لكن الغريب في الامر ان
العامل المذهبي اصبح هاما لدرجة انه تفوق على العامل الديني،وهو ناتج
من تراكم سلبي تجاه الاخر،واكثر ذلك يتركز في دول العالم العربي
وعلاقاتها مع ايران بينما لم تنشأ تلك الحساسية او السلبية مع تركيا
المنافسة السنية التقليدية لايران على مدار عصور،وقد يبرر البعض بكون
تركيا دولة قوية وكبيرة،الا ان ذلك الادعاء يتهاوى مع وجود امثلة من
دول بعيدة وكبيرة مثل مصر او المغرب !
وهذا العالم المذهبي قد سبب في تدهور العلاقات السياسية الى درجة
كبيرة،جعلت البعض يلتجأ الى الدول الكبرى لطلب الحماية الوهمية والتي
تستند بالاساس الى درجة العداء الايراني لاسرائيل،لان العلاقات بين
ايران الشاه والغرب كانت في اعلى مستويات التحالف وتفوق في الاهمية
التحالف مع الدول العربية.
وهذه التبعية الجديدة هي بالدرجة الاولى المسؤولة عن مستوى الانحدار
العربي الى درجة جعلت دولة صغيرة مثل اسرائيل تهزمهم بصورة كلية او
دولة ضعيفة وفقيرة مثل اريتيريا ترفض الانضمام الى جامعتهم العتيدة!
لابل تتحرش عسكريا بكل جيرانها العرب وتمد نفوذها الى الصومال!.
ليس شرطا للتبعية الجديدة ان تكون فقيرا وتحتاج المساعدة،بل حتى
الدول الغنية هي بحاجة اليها لدوام ازدهارها الاتي من تواجد مصادر
الطاقة في اراضيها.
وهذه التبعية من الخطورة الى درجة تجعل التابع ينهزم نفسيا ويجعل
قدرته مقيدة سواء برفض السياسيات الخارجية للدول المتحالف معها او حتى
طلب انهاء التحالف والتواجد العسكري بينما ذلك غير موجود في الكثير من
الدول الغربية الصغيرة والتي تتعامل باستقلالية مع الكثير من سياسات
الدول الغربية الاكبر حجما لان التحالف يستند على قاعدة شعبية متينة
ومصالح متبادلة عكس ما هو موجود في دول العالم الثالث ومنها العالم
العربي.
قواعد عسكرية تحت الطلب:
اقامة القاعدة الفرنسية في دولة الامارات العربية المتحدة وفق
الاتفاق المبرم يوم 26\5\2009 هو ليس مايبرره اطلاقا اي تحد خارجي،بل
هو تصرف خاطئ بكل معنى الكلمة،لان الخطر المبطن والذي جعل الامارات
تقدم على تلك الخطوة التي تمثل الانتقال الى النوعية الجديدة من
التبعية وهو بسبب الخوف من بلدين جارين فقط لا ثالث لهما وهما ايران
وبالدرجة الثانية السعودية كون العلاقة التاريخية اتسمت بالتوتر مع
الثانية من خلال المطالبات بثلاث ارباع واحة البريمي التي تشكل غالبية
تلك الدولة والتي تنازلت عنها السعودية تحت الضغط البريطاني في منتصف
الستينات،بينما مع ايران من خلال الجزر الثلاث المتنازع عليها.
ليس هنالك من خطر على دولة الامارات من البلدين لان التواجد العسكري
الامريكي والبريطاني كاف الى درجة ردع الدول الاقليمية الكبيرة الاخرى
من تهديد المشايخ الموالين للغرب تقليديا،وبالتالي فأن منح الوجود
العسكري الفرنسي بحجمه الصغير لن يساعد في الدفاع عن تلك الدولة التي
تخضع للنفوذ الامريكي البريطاني بصورة رئيسية بل يزيد التوتر وفرص
الهجوم من الخارج في حالة نشوب حرب اقليمية ولكنه يساعد على استغلال
فرص الحصول على عقود عسكرية واقتصادية ضخمة لفرنسا مع نفوذ سياسي كبير
متنامي،وهي دولة لها مصالحها قد تتفق مع العرب في امور صغيرة ولكن في
الواقع لاتستطيع مخالفة التوجه الغربي بصورة عامة،اما استفادة الامارات
فهي شبه معدومة بل هو سلبي لانه يزيد فرص الحرب في المنطقة واقامة
القواعد العسكرية فيها وفي قطر والبحرين وعمان ليس في صالح الجميع
بينما في الكويت والسعودية الى حد ما هو مفيد لوجود الدولتين وليس فقط
لتهديدهما رغم انه مقيد لاستقلالهما ايضا.
الشيء الاكثر غرابة هو استمرارية الانفاق الدفاعي الضخم سواء في
الامارات او في دول الخليج الاخرى والذي يفوق دول كبيرة لها جيوش
ضخمة،وانعدام الجدوى منه مادامت دوله تحتمي بمظلة الدول الغربية وتطلب
اقامة القواعد العسكرية في زمن العولمة التي كسرت الحواجز الحدودية
الفعلية بين الدول ونشرت الديمقراطية في الكثير من البلاد والتي جاءت
بعد مرور عقود على ازالة الاستعمار التقليدي من اراضيها.
وكما توقعت فان المعارضة الداخلية في الامارات لمثل هذا التوجه شبه
معدومة مثل بقية دول الخليج التي تخضع لنظم قبلية تفرض الطاعة العمياء
لكبير الاسرة دون ابداء مجرد التساؤل عن مسببات تلك السياسات غير
المفهومة اصلا والتي تتغير جذريا بمرور الزمن دون ان يتغير معها عقارب
ساعة الموالاة! وعند مراجعة وسائل الاعلام المحلية فأنها خالية من
وجهات النظر المعارضة التي تنشأ في الغالب من امور ثانوية فكيف من
سياسات مصيرية تخص عموم الشعب ومستقبل تطلعاته!.
القواعد العسكرية الغربية في دول الخليج تخضع بصورة رئيسية لعاملي
النفط واسرائيل ومتى ما انعدم وجود هذين العاملين فأن التواجد سوف
يندثر او يضعف لان تلك الدول غير مستعدة للتضحية في سبيل نظم تعتبرها
اساسا متخلفة ومعادية للديمقراطية وحقوق الانسان! وهي شعارات الغرب
الرئيسية وهذه التساؤلات مطروحة على الدوام على مائدة البحث في الدول
الغربية،ولكن المصالح الاقتصادية والسياسية يفرض عليها التنازل عن تلك
المبادئ والخضوع لمبدأ الفائدة الانتهازي!.
الخروج من سياسة التحالفات ومن ضمنها اقامة القواعد العسكرية
لايحتاج الى دراية وشجاعة،بل الشجاعة والفهم الحقيقي يكمن في فرض
علاقات صداقة وحسن الجوار مع الاخر من خلال العمل الجاد في تحسين
العلاقات وليس الاستماع الى نصائح الاخرين الذين لهم اجندتهم الخاصة مع
الدول كافة والتي ليس من الضرورة ان تتفق مع اجندة دول العالم
الثالث،والوقوف عند الحياد في صراعات الدول الكبرى هو الطريق الاسلم
لان لا ناقة للدول الصغيرة في نزاعات الكبار،بل هي وسيلة تدميرية
لها..... |