المجتمع المدني وملف الإصلاح السياسي

أحمد شهاب

من مميزات السياسة في مفهومها المعاصر، أنها لم تعد حكراً على طائفة أو طبقة تدير البلاد دون التفات إلى مصالح وحاجات الآخرين. كما أنها تجاوزت بمراحل صفتها القروسطية، كمجموعة من الأوامر والقرارات العليا المتمترسة بترسانة القيم الإقطاعية والعبودية، والتي تفرض من قبل نخبة سياسية، أو اجتماعية محددة على المجتمع، لكنها تحولت إلى ثمرة لفعالية «المجتمع المدني» وقدرته على التأثير في حجم ونوعية المشاركة السياسية من ضمن مفهوم السيادة الشعبية للأفراد.

إن الفكرة التي تبتنى عليها نظرية المجتمع المدني تتمثل في التعرف العميق والشامل إلى الواقع القائم، وإشكالاته المتنوعة، والسعي الدؤوب نحو تأهيل الأفراد للإسهام في بلورة ذلك الواقع.

إن الإصرار على التعاطي مع السياسة من ضمن مفهومها التقليدي، من شأنه أن يُضيّع فُرصا حقيقية من بين أيدي الناس، فيما يتيح المفهوم الحديث للسياسة فرصة سانحة لتسلم مؤسسات «المجتمع المدني» زمام المبادرة والفاعلية والتغيير الداخلي، ويسمح لأفراد ومؤسسات المجتمع بتقديم أطروحات جديرة بتوسعة مناخ الحركة العمومية، وتشجيع الجميع على المشاركة الفعالة، وتنظيم الرأي العام في اتجاه مشاريع وطنية واضحة المعالم. وعلى الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني لا تروم الوصول إلى السلطة، إلا أنها تقوم بدور سياسي فاعل من خلال تدعيم قيم التحول الديمقراطي.

يؤكد ذلك أهمية دعم المشاريع السياسية-الإصلاحية الآتية من خارج قبة البرلمان، وبعيدا عن التنافس على مواقع داخل السلطة التنفيذية، أو التشريعية. فقد أدى الناس خلال الأيام القليلة الماضية دورهم في المشاركة الانتخابية بنجاح كبير، والآن هم أمام اختبار حقيقي يتمثل في القدرة على بناء وتفعيل دور مؤسسات المجتمع.

طرحنا وطرح غيرنا مرارا أن انحسار الأدوار السياسية خارج نطاق المجلس أجهز على المساعي الإصلاحية الوطنية، ورفع من نجم ودور ومكانة أعضاء المجلس بصورة غير مريحة، ووضع مصير ومستقبل الحياة السياسية والديمقراطية في أيديهم، على الرغم من أن معظمهم لا دخل له في تشكيل الفكر والشأن السياسي، وإنما هو مجرد إفراز قبلي أو طائفي أو مناطقي. خلال العشرين سنة المنصرمة، حاول بعضهم تفريغ السياسة من محتواها الإصلاحي والتنموي، وإعادة ملئها وتركيبها بما يخدم مصالح ورغبات طبقية، وأتاح المقعد النيابي الفرصة لبعض الأطراف لمصادرة المجهود الوطني بالكامل، والعودة بالوطن إلى عصر «الدولة الغنيمة» و«الدولة القبيلة»، ولا نجد ثمة جهة يمكن أن تعيد تشكيل المعنى الحديث للسياسة سوى مؤسسات المجتمع المدني بصفتها الحلقة الوسيطة للتطور السياسي والاجتماعي.

 إن مهمة مؤسسات المجتمع المدني هي ملء الفراغ السياسي والاجتماعي الذي خلفه انغلاق السلطة على ذاتها وتقلص شعبيتها، على اعتبار أن المشاركة في صناعة القرار وتحقيق الرضا الجماعي هي أساس شرعية أي سُلطة. كما أن من مهام مؤسسات المجتمع المدني ملء الفراغ الناتج عن غياب الأحزاب السياسية المعارضة، وطرح رؤى استراتيجية تصب في مصلحة البلد، من منظور محايد وموضوعي لا ينطلق من موقف المعارضة والموالاة، بقدر ما يتحرك بوصفه وسيطا ينشد التغيير والإصلاح.

فمن أبرز مهام مؤسسات المجتمع المدني الأساسية لعب دور الوسيط الفاعل، وليس المشاهد الساكن. ومن المثير أن تعيش أغلب المؤسسات الاجتماعية في غيبوبة كاملة عن الوعي بالاحتياجات اليومية لأفراد المجتمع، ولا يكاد يُلمس أثرها في الحياة العامة، بينما هي تمتلك الوسائل الكفيلة بإعادة رسم خارطة الوعي الجماعي، وتثقيف المواطنين، وتأهيلهم للدخول في معترك الحياة العامة بأهداف وتوجهات راقية ومرسومة، هذه الوضعيات ينبغي أن يُصار إلى إصلاحها وتقويمها بصورة عاجلة، وتمكين الطاقات الجديدة من تغيير المعادلة لمصلحة الزمن الحديث، ولا ينبغي التعامل معها كمكاسب ومسكنات لبعض الأطراف والجماعات.

البلاد الآن في حاجة ماسة إلى نشاط يُسهم في تثبيت حالة الاستقرار السياسي، ويعيد التوازن إلى الحياة الاجتماعية، ويسمح بانتقال الإرادة العمومية إلى مرحلة سياسية جديدة بعيدة كليا عن الجدليات الفرعية التي أنهكتنا وشاغلتنا ردحا من الزمن بهمومها الجانبية، كي نتمكن من استئناف مراحل البناء والتنمية، ونعيد تأهيل المؤسسات المدنية وفق منظور وبرنامج وطني تنموي شامل للإصلاح يُعيد الاعتبار إلى مؤسسات المجتمع المدني، بوصفها الجسور الحديدية التي تعبر عليها الحداثة السياسية ودرتها الديمقراطية إلى مجتمعاتنا.

* كاتب من الكويت

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 24/آيار/2009 - 26/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م