في سبيل حياة أكثر أمنا واستقرارا، بالنسبة للأجيال الحاضرة وأجيال
المستقبل، ينبغي أن نولي في كل مرحلة من مراحل حياتنا، اهتماما خاصة
للاعتداءات التي تطال أمن الإنسان الشخصي والاجتماعي؛ لان من شأن
انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم العنف السياسي أن تشكل عائقا أساسيا أمام
تقدم وتطور البلاد، كما تشكل هاجسا يقلق الأجيال باستمرار.
فطالما لا يكون هناك تشريعات وقوانين فعالة، وطالما لا يكون هناك
سلطة قوية قادرة أن تحمي الناس، فان هناك من يعبث بأمن واستقرار
المجتمع والأفراد بشكل دائما، ولا يتوانى عن القيام بانتهاكات لحقوق
الإنسان، أو يرتكب جرائم ضد الإنسانية.
وكلما كان هؤلاء أصحاب سلطة وقدرة، كلما كانوا اقدر على التلاعب
بمصائر الناس والتحكم في حياتهم وأموالهم. وتزداد حالات التجاوز على
حقوق الإنسان وحرياته عندما يشعر المنتهكون لتلك الحقوق أنهم محصنون؛
بما يتمتعون به من السلطة ونفوذ، أو أنهم محمييون بقوانين وأوامر تبيح
لهم ارتكاب جرائم ضد الأفراد تحت مبرر الحفاظ على السلطة أو النظام،
وهم يتمادون؛ أكثر فأكثر، كلما راودهم شعور، أنهم سيكونون بمأمن عن
المحاسبة، ولا يتوقعون أن يقعوا - في المستقبل- تحت طائلة المسائلة.
لذلك؛ فالاتجاه السائد في القانون الدولي هو منع سياسة الإفلات من
العقوبة على الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية أو جرائم الإبادة أو جرائم
الحروب، حيث نصت المادة (1) من اتفاقية جنيف عام (1948) أن: (المعاقبة
على الإبادة الجماعية سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب). كما
نصت المادة (4) من الاتفاقية المذكورة أنه: (يعاقب مرتكبو الإبادة
الجماعية سواءً كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو افراداً).
وأكدت المادة (5) من مبادئ التعاون الدولي على: (تعقب واعتقال
وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد
الإنسانية).
وأشارت المادة (7) من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من أنواع
المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية إلى (أن تقوم الدول
بتسليم الأشخاص الذين يدعى ارتكابهم جرائم التعذيب أو بعرض القضية على
سلطاتها المختصة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة). وجاء في المادة (14) من
إعلان حماية الأشخاص من الاختفاء القسري على (إحالة أي أشخاص تدعي
مسؤوليتهم عن وقوع اختفاء قسري إلى السلطات المختصة لإقامة الدعوى
والحكم عليهم).
وهذا يعني؛ إذا استطاعت عناصر سلطوية في حكم قمعي، أن ترتكب جرائم
ضد الإنسانية أو جرائم إبادة أو جرائم حروب، بتجاوز القوانين أو
بقوانين منتهكة لحقوق الإنسان أن يفلتوا من العقاب في ظل حكم استبدادي،
فلا ينبغي أن يُتركوا أحرارا في ظل نظام سياسي يتبنى مفاهيم
الديمقراطية والحريات السياسية والعدالة الاجتماعية؛ ذلك لان بقائهم
خارج قبضة العدالة يعني اللاعدالة بالنسبة للأفراد والجماعات السياسية
أو العرقية أو الدينية التي اُنتهكت حقوقها، ويعني اللاستقرار بالنسبة
للدولة والنظام.
فلابد، إذن، من عودة إيجابية وجادة للماضي لمعالجة أثاره، بما يحقق
نوعا من الإنصاف والعدالة لضحايا العهد الماضي. وهذا هو المتبنى الفكري
العالمي، وهذا هو الاتجاه السائد للدول التي تعيش مرحلة الانتقال من
نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، أو الدول التي تنتقل من حالة
الاقتتال والاحتراب إلى حالة الأمن والاستقرار، وفق برنامج إنساني
وقضائي واقتصادي واجتماعي وثقافي، يُعرف ببرنامج "العدالة الانتقالية".
تتناول "العدالة الانتقالية" كيفية تمكّن المجتمعات التي تمر في
مرحلة تحّول من الحرب إلى السلام أو من الحكم القمعي إلى الديمقراطية
من معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في الماضي؛ باعتبار أن
التعامل مع الماضي هو جانب أساسي في بناء سلامٍ دائمٍ، وإقامة دولٍ
فعالة وعادلة، وبناء مستقبلٍ أفضل، ينعم فيه المجتمع بظروف تحول من
تكرار الصراع والانتهاكات التي تصاحبه.
ويعتقد العديد من أنصار العدالة أن فتح ملفات وكالة الأمن الداخلية
السابق في ألمانيا ومنع منتهكي حقوق الإنسان السباقين من الوصول إلى
مناصب في السلطة من خلال ما عرف بعمليات التطهير في تشيكوسلوفاكيا
1991، قد ساهم في ترسيخ مفهوم العدالة الانتقالية .
في العراق، أشاع النظام العراقي القمعي- خلال حكمه- سياسات التفريق
والتميز في كل المجالات لصالح من يعمل معه، وارتكب -على مدى ثلاثة عقود
الماضية- أنواعا واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم العنف السياسي،
على شكل اعتقالات، واغتيالات، وقتل جماعي، وتعذيب وحشي، وتشريد لمئات
الآلاف من المواطنين العراقيين.
لذلك؛ ومنذ 2003، تم العمل باليات العدالةٍ الانتقالية في العراق،
وأنشأت - ضمن تشكيلات مؤسسات الدولة- عدد من المؤسسات التي تتعامل بشكل
مباشر مع الماضي مثل"المحكمة الجنائية العليا" لمحاكمي مجرمي النظام
العراقي الدكتاتوري الذين ارتكبوا جرائم ضد العراقيين المدنيين في
أوقات مختلفة، ومن خلال أجهزة الحكم القمعي.
ورغم أن إنشاء المحكمة الجنائية يُعد خطوة إيجابية في إطار العدالة
القضائية لبرنامج العدالة الانتقالية من أجل المحاسبة على جرائم الماضي
ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع، إلا أنه مازال أمامنا الكثير من
العمل، ومازال أمامنا العديد من التحديات التي تقف عائقا في سبيل
العدالة القضائية.
ومما يأخذ على مسار العدالة القضائية العراقية لمحاسبة مجرمي الحرب
العراقيين عدة مؤاخذات، أهمها:
- أنها محاكمات محدودة للغاية:فلم يحاكم أمام المحكمة الجنائية -حتى
الآن- إلا عدد محدود من المتهمين، وحصرا على بعض قيادات النظام السابق؛
بينما ظل المئات من قيادات النظام وقيادات الأجهزة القمعية " وهي حوالي
تسعة عشر جهاز بحسب مجموعة العدالة الانتقالية"، وأعضاء ذات سلوك
إجرامي أحرارا، يمارس أكثريتهم أعمالا إرهابية باسم النظام السابق أو
بالتعاون مع جماعة القاعدة الإرهابية، وهم يقتلون –يوميا- العشرات من
المدنيين والعسكريين على حد سواء. بينما يدعم الهاربون منهم في دول
الجوار تلك العصابات الإجرامية بالمال والسلاح.
-أنها محاكمات مع وقف التنفيذ: فرغم قلة عدد الذين تم محاكمتهم إلا
أن أحكام هذه المحكمة ظلت حبرا على ورق بسب امتناع السلطة التنفيذية "
رئاسة الجمهورية تحديدا" من التصديق على أحكام المحكمة وهو ما يفقدها
المصداقية والجدية أمام الشعب العراقي وأمام ضحايا مثل ضحايا حلبجة،
وأبناء الانتفاضية، وغيرهم.
* رئيس مجموعة العدالة الانتقالية في العراق |