التعددية تعني في أي شكل من أشكالها: مشروعية التعدد، وحق جميع
القوى والآراء المختلفة في التعايش، وفي التعبير عن نفسها، وفي
المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعها.
ويمكن تقسيم التعددية إلى أقسام كثيرة، ولكن دعونا نركز على أهمها.
أولاً: التعددية الدينية
التعددية الدينية تختص بالتعدد في الدين والعقائد والشرائع والمناهج
المتصلة به.ومفهومها يعني أولاً: الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء
الديني في مجتمع واحد أو دولة تضم مجتمعاً أو أكثر.ويعني ثانياً:
احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في
العقائد.ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك في إطار مناسب
وبالحسنى بشكل يحول دون نشوب صراع ديني يهدد سلامة المجتمع.
مفهوم التعددية الدينية هذا يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحداً لا يستطيع
نفي أحد، وبمبدأ المساواة في ظل سيادة القانون، وهو يلتزم بمبدأ حرية
التفكير والتنظيم واعتماد الحوار واجتناب الإكراه.ففي ظل الإسلام لا
تُلغى الديانات الأخرى، ولا يحظر وجود سائر المبادئ والملل، بل يخاطبهم
القرآن الحكيم معترفاً بوجودهم، وتاركاً لهم حرية اختيارهم يقول الله
تعالى:(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وهذا هو الذي عمله الرسول (صلى
اللة عليه وآله وسلم) فإنه لما ظفر بأصحاب بدر، وكانوا مشركين لم
يقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم فلم يجبرهم على الإسلام،
وكذلك فعل بأهل مكة فإنه (ص) قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء فلم يقتلهم
ولم يجبرهم على الإسلام، وكذلك صنع بأهل حنين.. إلى غير ذلك مما لا
يخفى على من له أقل إلمام بتاريخ الرسول (ص)..
وهذا لم يقتصر على سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بل
وسيرة المسلمين طول التاريخ الإسلامي، فإنه لم يعهد من أي مقاتل من
المسلمين أن يقتل جميع الكفار الذين لم يكونوا أهل كتاب ولم يسلموا، بل
مختلف أنواع الكفار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الإسلامية السنية
والشيعية بسلام، كما لا يخفى ذلك على من راجع التاريخ..وقد اقتدى أمير
المؤمنين (ع) برسول الله (ص) واحترم كل حريات الناس حتى الأقليات التي
كانت تحت لواء الإسلام، وفي الوقت الذي كان الإمام (ع) في أقصى درجات
القوة، وحدود بلاده وحكومته تمتد من أواسط ما كان يُسمى بـالاتحاد
السوفياتي إلى غرب أفريقيا لم يجبر ولا مواطناً واحداً على ترك عقيدته
واعتناق الإسلام، بل العكس صحيح.. فقد ورد في روايات عديدة عن الأئمة
الأطهار (ع) حول الأقليات الدينية تقول: (ألزموهم بما التزموا به) وقال
(ع): (كل الناس أحرار) وقال الإمام الحسين (ع): (إن لم يكن لكم دين
فكونوا أحرارا في دنياكم). فالروايات الواردة عن الأئمة الأطهار حول
الحريات كثيرة.. حتى أن فقهاء الإسلام اعتماداً على الكتاب والسنة
استنبطوا قاعدة عامة مختصرة ومفيدة تقول: (الناس مسلطون على أنفسهم
وأموالهم).(1)
وحينما يقبل الإسلام بوجود سائر الأديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي
ظل دولته، فإنه يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر أديانهم والقيام
بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره
وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم.
ثانياً: التعددية المذهبية
التعددية المذهبية هي: التعدد المذهبي في إطار الدين الواحد.
ومفهومها يعني أولاًً: الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء المذهبي في
مجتمع واحد أو دولة تضم مجتمعاً أو أكثر.ويعني ثانياً: احترام هذا
التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في الفروع أو
غيرها.ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك في إطار مناسب
وبشكل يحول دون نشوب صراعات مذهبية تهدد سلامة المجتمع.
ومفهوم التعددية المذهبية يتضمن الإقرار بأن (أحداً لا يحق له نفي
أحد) و (ضمان حرية التفكير والتعبير المذهبي للجميع) و(المساواة في ظل
سيادة القانون).ويجب التأكيد هنا على أن تعدد الفرق والمذاهب داخل
الدين الإسلامي يشكل ظاهرة طبيعية بل هي سمة ثابتة في جميع الأديان
السماوية والوضعية..نستنتج من كل ما تقدم أن ظاهرة (التعددية المذهبية)
ظاهرة طبيعية، وسمة لازمة في جميع الأديان والعقائد، وأن الإسلام ليس
بخارج عن تلك القاعدة، كما يؤكد ذلك التاريخ الماضي والواقع المعاصر،
وانه لا يمكن إلغاء تلك المذاهب، ولكن من الممكن الاتفاق على (القواسم
المشتركة) التي تجمع بين المذاهب الإسلامية المتعددة، والتسامح في شتى
الفروع الفقهية ووجهات النظر المذهبية الأخرى...
ومن الطبيعي جداً أن يكون هناك تعدد في الآراء والأفكار والتصورات،
ولكن الشيء غير المنطقي هو أن يدّعي أحد أن له وحده حق فهم الإسلام،
ومصادرة هذا الحق من الآخرين، وأن له حق تفسير النصوص حسب فهمه، وليس
للآخرين إلا أن يكونوا نسخاً مكررة عنه، واتهام مخالفيه بمخالفة السنّة،
والخروج من دائرة الدين، والوقوع في حبائل الشرك والكفر والضلال !!..
إن التعصب بجميع أشكاله، ومحاربة فكر وآراء الآخر، والعمل على فرض
آراء الذات بأية وسيلة لن يحقق إلا تمزيق الأمة وتفتيت وحدة المجتمع
المسلم، وإضعاف الروح المعنوية، وخلق الفتن والصراعات والمعارك الجدلية،
والحروب العبثية.. وهي عملية هدم لكيان الأمة كله ولا خيار أمام الدولة
الديمقراطية كي تمضي قدما في سبيل الاستقرار والبناء إلا بالالتزام
بالتعددية، و التنوع، فالعراق وحدة واحدة، هنا يمكن القول بأن الوحدة
بين أبناء الأمة ممكنة ولكن في إطار التعددية فهي وحدة واحدة في أطار
المواطنة ومتعددة في إطار هذه الوحدة في الاديان والمذاهب والقوميات
والاراء السياسية..
ثالثاً: التعددية السياسية
وتعني ان من حق المواطن ان يختار وبلا أي ضغط الانتماء السياسي
والآراء السياسية وحقه في التعايش وفي التعبير عن نفسه وفي المشاركة في
التأثير على القرار سياسياً في مجتمعه ومصطلح التعددية السياسية يعني
أولاً: الاعتراف بوجود تنوع في مجتمع ما بفعل وجود عدة دوائر انتماء
فيه ضمن هويته الواحدة..ويعني ثانياً: احترام هذا التنوع وقبول ما
يترتب عليه من خلاف أو اختلاف في العقائد والألسنة والمصالح وأنماط
الحياة والاهتمامات، ومن ثم الأولويات..ويعني ثالثاً: إيجاد صيغ ملائمة
للتعبير عن ذلك كله بحرية في إطار مناسب وبالحسنى، بشكل يحول دون نشوب
صراع يهدد سلامة المجتمع، وإن اشتراك جميع فئات المجتمع في هذا الإطار
بآرائهم هو ما يصطلح على تسميته بالمشاركة السياسية..
لقد كان في دولة المدينة وفي عهد رسول الله (ص) مجموعة من القوى
السياسية وقد تعامل النبي مع كل تلك القوى والجماعات السياسية ولم يعمل
على إلغائها وإضعافها وذلك من أجل الحفاظ على التوازن الاجتماعي
والسياسي المطلوب، بالإضافة إلى أن تكوين القوى والتجمعات السياسية هو
حق من حقوق الحرية السياسية.
ومفهوم التعددية السياسية يشير إلى حق (المعارضة) في ممارسة
أنشطتها، وقد كفل الإسلام للمعارضة السياسية السلمية جميع الحقوق
المشروعة، كما أن في التجربة الإسلامية الأولى دلائل وشواهد تؤكد شرعية
المعارضة والتعددية في الإسلام..وقد أرسى الإمام علي (ع) حق (الرأي
الآخر) والتعبير عن ذلك الرأي بأية وسيلة مشروعة، فلم يسجن أحداً
لمخالفته له في الرأي، ولم يمنع أحداً من العطاء لأنه لا يتفق معه في
موقف أو في رؤية، ولم يبطش بأحد خالفه في الفكر أو المعتقد.. بل سمح
لكل الآراء أن تعبر عن ذاتها، ولو كان ذلك التعبير على شكل مظاهرة
سلمية، أو إضراب مدني..
ويحدثنا التاريخ: أن الإمام (ع) لم يكن يمنع المظاهرات والإضرابات،
حيث (إنه اتفق في زمانه أن أغلق أهل الكوفة الدكاكين، حيث حكم بحكم لم
يرضوا به.. وفي مرة أخرى حيث عزل قاضيا لم يرضَ بعض أهل الكوفة بعزله،
خرجوا في تظاهرة، والإمام لم يتعرّض لهم بسوء، وإنما تركهم وشأنهم بعد
أن نصحهم (2) وروى المؤرخون: أن (الحريث بن راشد الشامي) كان عدواً
للإمام، فجاءه قائلاً له: والله لا أطعت أمرك، ولا صليت خلفك!، فلم
يغضب لذلك، ولم يبطش به، ولم يأمر به بالسجن أو العقوبة، وإنما دعاه
إلى أن يناظره حتى يظهر أيهما على الحق، ويبين له وجه الحق لعله يتوب،
فقال له الحريث: أعود إليك غداً، فقبل منه الإمام، فانصرف الرجل إلى
قومه ولم يعد!(3) (ولم يكتف الإمام (ع) بالعدل مع الخوارج، ومنحهم
حقوقهم كاملة إبان المعارضة، بل أوصى بهم خيراً بعد وفاته، فقال قولته
الشهيرة: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن
طلب الباطل فأدركه) (4) لقد سمح النبي (ص) والإمام علي (ع) للمعارضة
سواء كانوا أفراداً أو جماعات أن يقوموا بدورهم تعليماً للأمة في
السماح للمعارضة، وإن كانا هما معصومين، وقد ورد في القرآن الكريم في
النبي (ص): {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}. وقال (ص) في الإمام علي
(ع): علي مع الحق والحق مع علي، وعليه فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت
المعارضة، فإن ذلك بالإضافة إلى كونه خلاف السيرة خلاف العقل والمنطق،
ويوجب كراهة الناس للحاكم مما ينتهي إلى سقوطه).
ولعل أهم ما نستطيع استنتاجه من تجربة الإمام علي (ع) مع معارضيه أن
للرأي الآخر مكاناً في الدولة الإسلامية، وأن الإسلام يكفل جميع الحقوق
المشروعة للمعارضة السياسية السلمية، أما المعارضة المسلحة ضد الدولة
الإسلامية فلا شرعية لها إذ لا شرعية في محاربة الشرعية.
* المصدر: جريدة الصباح
...................................
الهوامش:
(1) الفقه -كتاب الجهاد- السيد محمد الشيرازي، ط
الثانية 1409هـ - 1988م، دار العلوم - بيروت، ج48، ص29.
(2) الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين، السيد
محمد الشيرازي، ط الأولى 1414هـ - 1993م، مؤسسة الفكر الإسلامي -
بيروت،ص212
(3) المصدر السابق
(4)الحرية في الإسلام، السيد الشيرازي، بيروت: دار
الفردوس، ص61. |