شبكة النبأ: حين أقدم بريمر بتوجيه من
ادارته الامريكية على تقويض هيكل الدولة العراقية بعد احداث نيسان
2003، تراءى المشهد للمتابعين وكأن قصرا عاليا عجوزا آيلا للسقوط قد
تهاوى على الارض بالكامل، وبهذه الصورة تم مسح كل معلم سياسي من
الخريطة العراقية، فرافق ذلك مسح شامل في المجالات الاخرى، وهنا تتبادر
الى الذهن أهداف (الفوضى البنّاءة) التي تهدف فيما تهدف إليه تقويض
المؤسسات الشاملة لدولة ما كي تتأسس عليها مؤسسات وليدة لا تشبه
سابقاتها من بعيد او قريب.
ولعل هذا الامر هو الذي حدث في العراق عبر المتغيرات السياسية لعام
2003، فقد تأسست فيه تجربة سياسية جديدة نهضت على انقاض الحكم الشمولي
الذي اختصر الشعب العراقي بشخصية القائد الأوحد، فتعددت بذلك منابع صنع
القرار وهي حالة ايجابية طالما تعطّش لها الشعب، لكن الاشكالية التي
رافقت ذلك تتمثل بعنصرين مستجدين في الساحة السياسية هما:
الأول: الفوضى العارمة التي حلّت محل الكبت السياسي كرد فعل حاد
ومباشر على عقود متتابعة من القمع والحرمان ومصادرة الرأي وما الى ذلك.
الثاني: إشكالية بناء السلطة من خلال القوة العسكرية كخيار سريع
ومتقدم على الخيارات الاخرى.
وإذا كانت الفوضى مبررة الى حد ما كونها جاءت كرد فعل متوقع على
سنوات الكبت، فإن النزوع السياسي الخطير لبناء السلطة على حساب الدولة
شكل خرقا واضحا لسبل وطرائق بناء الدولة العراقية الحديثة على أسس
سليمة، فقد شرعت الاحزاب والكتل السياسية تبني سلطاتها وفق آليات
متعددة منها إنشاء المليشيات وعسكرة الحزب، ومنها الاندفاع الحاد من
اجل الاستحواذ على المناصب الادارية والسياسية والعسكرية وغيرها، حتى
السلطة التنفيذية لم تسلم من هذه الخروقات التأسيسية الخطيرة.
فقد ألقت الحكومة جل قدراتها وامكانتها المالية وغيرها لبناء أجهزة
امنية متعددة المهام والاشكال كبناء الشرطة والجيش والحمايات الشخصية
ومستشارية الامن الوطني واللجان الامنية المتعددة ناهيك عن قوات حماية
المنشآت وما شابه، فتحول العراق الى كتلة من العسكر، تحت حجج لا تقبل
النقاش كونها (كما ترى هذه الجهات) تتعلق بلب أمن العراق والعراقيين،
لدرجة ان الميزانية المالية للدولة عجزت احيانا عن دفع المرتبات
المخصصة لهذه التشكيلات المتنوعة.
ولعل الأمر الهام الذي فات المعنيين من جهات تنفيذية سياسية وغيرها،
يكمن في أن الأمن لن يتحقق بالسلاح وحده ولا بعسكرة الشعب وإنشاء أجهزة
امنية ما أنزل الله بها من سلطان، فقد فعلها صدام سابقا حيث تحول الشعب
الى كتلة من اللونين (الخاكي والزيتوني) ومع ذلك تهاوى كل شيء في ايام
معدودات لأن ما يقوم على الخطأ سينتهي إليه حتما، فلو تنبّه المسؤولون
السياسيون الجدد الى تحقيق الأمن الثقافي مثلا لجاءت هذه الانتباهة في
محلها تماما، حيث ان تحقيق منظومة سلوك ثقافية شاملة ستؤمّن مقارعة
الارهاب أفضل مما يتم ذلك بالبندقية وكثرة اعداد الشرطة او الاجهزة
الامنية الاخرى.
ذلك لأن الفرد المثقف سيكون اكثر وعيا من الشرطي او حتى من بعض
السياسيين وبالتالي فإنه سيعرف دوره الواضح في مقارعة الارهاب او غيرها
من المهام، وكلنا نتذكر كيف كان يشكو قادة القوات الامنية من ضعف وضآلة
مستوى تعاون المواطن مع الجهات الامنية في توصيل المعلومات قبل حدوث
الخروقات الامنية، ولعل الخلل يكمن في تركيز الجهات التنفيذية على
المظهر الشكلي لحفظ الامن من دون اللجوء الى تأمين الوعي ونشر منظومة
ثقافية متوازنة ومتنامية بين عموم افراد الشعب يكون من اهم واقوى
اهدافها ومهامها هو تقويض الارهاب وادواته بكل اشكالها.
ولذلك فأن تركيز الامر على بناء السلطة من خلال تدعيم حماياتها
الامنية دون السعي لبناء دولة قائمة على التعددية وحرية الرأي وتقوية
البنى التحتية وغيرها، سوف يؤدي بالنتيجة الى صنع دولة فاشلة وهشة قد
تزول وتندثر في مواجهة اي انقلاب عسكري او سياسي.
وفي خط موازٍ لهذا الاتجاه الحكومي او الفعل الرسمي شرعت الاحزاب
والكتل السياسية ببناء سلطاتها في جميع المجالات لاسيما الامنية منها
حتى وصل تعداد افواج الحماية للمسؤولين على سبيل المثال الى 125 ألف
عنصر امني كما نقلت ذلك بعض الصحف العراقية، مما أوصل حالة الصراع بين
بعض السياسيين الى حد الاقتتال احيانا او استخدام صيغ ووسائل التصفية
والتشهير وما شابه متناسين جميعا بأن بناء سلطة الاحزاب على حساب هيكلة
الدولة القوية سيطيح بهذه الاحزاب قبل غيرها، وبالتالي فإن إهمال بناء
الدولة ومؤسساتها سيعود بخسائر شاملة لا تخص جهة من دون غيرها، لان
البناء السياسي السليم لهيكلية الدولة سوف يحصنها من الضعف ويجعل منها
اطارا حاميا لجميع الانشطة السياسية التعددية المنظمة وفق ضوابط
دستورية وقانونية ملزمة.
وبكلمة أخرى فإن سعي الاحزاب لتجاوز أخطائها الناتجة عن تعزيز
سلطاتها (الشخصية) أصبح أمرا واجبا بل ومحتما من اجل حماية نفسها
وغيرها تحت سقف دولة الدستور والمؤسسات التي تشكل غطاء وحماية متساوية
على رؤوس الجميع، احزابا كانوا أم افرادا، بغض النظر عن نوعية او شكل
او جذر الانتماء الأثني او القومي او الديني.
وبهذا المعنى.. مطلوب منا أن نرجح كفة الميزان لصالح بناء سلطة
الدولة الدستورية وليس سلطة الاحزاب المنفلتة، ولعل الخطر الذي يكمن
وراء إهمال هذا الهدف سيكون كارثيا على الاحزاب والشعب والدولة معا،
وفي هذا المجال نرى أهمية تفعيل ما يلي من لدن الجهات المختصة:
1- أن تتنبه الجهات التشريعية والتنفيذية التي تمثل الدولة الى
خطورة تعزيز سلطات الاحزاب لاسيما ما يتعلق بالمظاهر الامنية
والاستحواذ على المناصب وما شابه، كونها تأتي على حساب الاطار القانوني
المنظم لسلطات الدولة المؤسساتية.
2- أن تفهم الجهات الرسمية ذات العلاقة بأن تحقيق الأمن الوطني لا
يتم عبر تعزيز القوى الامنية وزيادة أفرادها بل بالاهتمام الجاد في
تحقيق الامن الثقافي بموازة الجوانب الاخرى.
3- أن تتخذ الاحزاب خطوات جادة وفاعلة لتحقيق اسلوب متوازن في بناء
سلطاتها سواء ذات الطابع التسليحي او (المناصبي) او غيرهما وذلك عبر
وثائق عهد لا تقبل التسويف او التنصل تحت أية حجة كانت.
4- أن يتدخل الوعي النخبوي في مراقبة سلطة الاحزاب وجعلها اكثر
توازنا في ظل دولة المؤسسات من خلال تعميق الوعي والفعل عبر المنظمات
الاهلية المختصة والناشطة في هذا المجال.
5- أن يتم تقوية الجهاز القضائي بما يحقق حالة استقلال تامة له
تجعله قادرا على تمثيل الشعب بجميع شرائحه في ممارسة دوره القضائي حيال
تجاوزات الاحزاب او السياسيين مهما كانت هوية انتسابهم.
6- ان تتدارس لجان مختصة رسمية واهلية سبل الموازنة بين سلطة
الاحزاب والكتل والتجمعات الاخرى وبين سلطة الدولة وترجيح كفة الأخيرة
على غيرها في جميع الاحوال.
7- أن يتم الابتعاد عن الاجراءات ذات الطابع الانشائي وان تتحول
الافكار في صدد بناء سلطة الدولة الى خطوات عملية ملموسة وقائمة على
الارض.
8- أن يتدخل ممثلو الشعب (البرلمانيون) في تحقيق هذا الهدف وذلك من
خلال ترجيح الضوابط المتوازنة التي تكفل للدولة سلطاتها الدستورية من
جانب وتكفل للسياسيين حرياتهم المتعددة وفق اطار الدولة الدستورية .
وأخيرا نرى ان هذه الكلمات التي لم تتعدَّ حاجز الافكار المجردة
يمكن ان تكون قابلة هي وغيرها للتطبيق فيما لو توافرت لها الارادة
الوطنية الفاعلة والمؤمنة بالشعب والوطن وبحاضرهما ومستقبلهما معا. |