كان الحوار هو موضوع مناقشة الملتقى الفكري الأسبوعي الذي حضرته،
وهو موضوع متشعب وعميق ولمختلف المفكرين آراء مختلفة حول تفاصيله لغرض
الاستفادة منه في خدمة الحضارة الإنسانية، ولتوفير الكثير من الجهود
المهدورة في الصراعات التي يمكن توفير الخسائر الناتجة منها من خلال
الحوار الجاد العميق الذي يكون بالتأكيد هو خلاصة الحلول السلمية
لمختلف المشاكل البشرية.
والحوار هو صفة ملازمة للإنسان منذ بدء الخليقة، ولكن اختلف البشر
في أساليبه وقواعده كما اختلفوا في النتائج المستخلصة منه، ومن أكثر
المستخدمين للحوار وأساليبه المختلفة هم أصحاب الفكر والعقيدة والرأي،
وعلى رأسهم الأنبياء والصالحين، ولذلك فأن الرأي القائل ان الاديان
تجمد الفكر الانساني وتقيد العقل البشري من خلال دعوتها للتمسك
ببديهيات مسلم بها ولا يمكن الخروج عنها، هي خرافة غير حقيقية الا عند
اصحاب العقول الجامدة والتي تدعي انها وحدها صاحبة الحق في اليقين
الديني!.
ولذلك فأن الاديان السماوية الثلاث تحث البشر دائما على طلب الايمان
العقلي والناتج بالتأكيد من الحوار بين بني البشر للوصول الى اسمى
الحقائق المطلقة والمبنية اساسا على الناتج المعرفي المنطقي المتراكم،
والحصول على هذه المطاليب الضرورية رغم انها واجب على الجميع، الا ان
من يسعى اليها هم قلة من بني البشر!ولذلك فأن اغلب ما نراه من ايمان
ديني عند اغلبية بني البشر والذي يصل احيانا الى الايمان التام بأنه
على حق دائم هو الطريق الخاطئ في التعصب الظاهر والذي يكون على مراحل
عديدة يقف على قمته التكفيريون واتباع الاستبداد في كل مراحل التاريخ،
وهو في الحقيقة ناتج من وراثة الايمان الديني او المذهبي او الفكري دون
الاطلاع على الاخر وخلفيته الثقافية، وهذا يكون على مراحل ايضا، فقد
نجد من البسطاء من لايعمل بها رغم اقتناعه بها وينشغل عنها في حياته
اليومية المتعبة، وقد نجد من الطواغيت ايضا من ينشغل عنها في امور
ملذاته وشؤون حكمه المتشعبة، بينما نجد آخرين من الطرفين من يعمل ليل
نهار على اشاعة التعصب دون ان يفقه ما يتعصب له فعلا!، وبذلك تكون
الحاجة الانسانية ملحة وضرورية لفهم الاخر حتى لو على قاعدة المشتركات
العديدة حتى يمكن من خلالها نشر فكرة التعايش السلمي وحفظ الكرامة
الانسانية للجميع لبناء حضارة انسانية متنوعة يكون جمالها الحقيقي
بالفسيفساء المكونة لها.
الحوار بين عامة الناس هو في الحقيقة الاقل انتشارا ولكن الاكثر
الحاحا لخلقه بينهم من خلال اشاعته لحفظ الامن والتعايش السلمي، وتكمن
قلته لضعف الوعي الثقافي والقدرة على استخدامه بصورة مثلى حتى يمكن
الوصول الى النتائج المبتغاة منه ومن اهمها خلق انسانية واعية وحاصلة
على ادنى درجات الوعي في داخل كل فرد عادي من المجتمع حتى يمكن تجنب
الكوارث الانسانية التي تحصد ارواح البشر وتدمر املاكهم المادية من
خلال الصراع المستمر على الوجود والسيطرة، وهذه الصراعات هي التي جعلت
البشرية بهذه الاوضاع المأساوية المتدهورة في كل المجالات وخاصة
الاخلاقية منها.
نعم لقد فقدت البشرية جزء كبيرا من تاريخها في خلق تلك المأسي وكان
من الممكن توفيرها لبناء حضارة انسانية عظيمة، ويمكن لنا تصور كيف يكون
وضع الحضارة الانسانية الان لو لم يكن هنالك ذلك الكم الهائل من
الصراعات المهلكة والتي دمرت الكرة الارضية بدلا من تعميرها، وانني على
يقين تام ان التطور العلمي الموجود الان كان يمكن ان نراه قبل زمننا
الحالي بالاف السنين!.
اما الحوار المطلوب والهام وهو بين قادة المجتمعات بغض النظر عن
نوعيتهم، ولكن فقط مقدار استحواذهم على مكانة عالية في المجتمع، فقد
يكون هنالك العلماء او المفكرين او القادة السياسيين او بقية المثقفين،
وهؤلاء عليهم مسؤوليات جسام في ضرورة حفظ الانسانية التي عانت كثيرا من
جراء الصراعات التي يعود جزء هام منها لسوء قيادة هؤلاء لمجتمعاتهم،
ولذلك فأن الحوار بين الطبقات العليا من المجتمع يكون هاما ليس فقط
لتهذيب هؤلاء بل حتى في ضرورة ان ينشروا تهذيبهم الى من يتبعهم او يكون
ضمن سيطرتهم المادية او الروحية.
مجالس الحوار التي تحدث بين الحين والاخر والتي تسمى احيانا
بالمؤتمرات، هي في الحقيقة ليست فقط ضئيلة الكم بل النوعية ايضا، ولذلك
تكون النتائج الصادرة منها ضعيفة التأثير حتى في نفوس المشاركين والذين
يمضون شطرا كبيرا من حياتهم في الجعجعة الفارغة لبناء حوار بناء بين
بني البشر ويؤلفون المصنفات الفكرية لخلق اطار فكري متين حوله يكون
قادر على جذب المزيد له، ولكن في لحظات تعيسة بل سوء حظ لكل البشر،
يتحول هؤلاء الى متعصبين جهلاء من خلال تبني موقف سيء ناتج من الايمان
بفكرة طارئة في غاية السذاجة !.ومن هنا نلاحظ سقوط الكثيرين في مستنقع
الجهل والتعصب بعد ان امضوا فترات زمنية طويلة في الدعوة الى حوار
انساني شامل لحل كل المشاكل بين البشر.
هذا يعني ان الحوار وتطبيقه في اروع مثال، هو ليس بالصورة السهلة
التي يتصورها الجميع بل هي مجاهدة ذاتية نفسية لمحاربة كل ما تدعو اليه
الموروثات الفكرية المتعصبة التي ترفض الاخر وتهينه، وهذا ايضا ما نراه
في مجالس الحوار وخاصة الاعلامية منها والتي تتحول منذ البداية الى
جدال عقيم يبرز فيه المشاركون عضلاتهم الفكرية في تصور خاطئ لطبيعة
الحوار و الأهداف المرجوة منه.
أصناف المتحاورين:
هنا يبرز السؤال هل ان كل البشر وخاصة في وضعنا الراهن يتقبلون
الحوار؟!.
الجواب بكل تأكيد كلا! فهناك الكثيرين منهم وخاصة الحكام المستبدون
هم رافضون للحوار بكل اشكاله وبصورة عملية لا تقبل الجدال وبالتالي
اعتقد ان مجال النضال ضدهم ينحصر بالمقاومة السلمية او حتى العنيفة اذا
كان لها ضرورة قصوى، لان الركون لهم معناه إضاعة الوقت مع أناس لا
يشتركون معنا الا بالاسم، فهم يختلفون عنا في كل شيء وخاصة استحقارهم
للبشر والاستكبار على عامة الناس واستعبادهم لهم.
وهنالك الكثير ايضا من الحركات السياسية التي وقعت في مستنقع
الضحالة الفكرية والاجرام من خلال رفضها العملي للحوار مع الاخر، واذكر
هنا مثال مأساوي حول طلب الحوار مع اناس رعاع لا يفهمونه او حتى لا
يحترمون معنى انسانية المتحاور، وهي حركة طالبان الإرهابية المتخلفة
والتي هي من اكثر الحركات السياسية المعاصرة همجية ووحشية ومن حسن حظ
الجميع انها لا تنتشر الا في بلدين منكوبين بها وهما افغانستان
والراعية المؤسسة لها والتي ذاقت نتيجة عملها القبيح في دعمها المستمر
وهي باكستان!.
ففي بداية عام 1995 وعندما بدأت الحركة بالتوسع في الاستيلاء على
المزيد من الأرض الأفغانية بدعم مباشر من قبل باكستان والسعودية، لم
تكن الرؤية واضحة حول طبيعة هؤلاء الطلاب الذين حصلوا على تعليم ضئيل
في العلوم الدينية والذي أدى في النهاية الى عدم استيعابهم الإسلام
بصورته الحقيقية، ولذلك طلب الحوار معهم زعيم حزب الوحدة الإسلامية
الشيخ الشهيد مزاري، فماذا كان استقبال هؤلاء الوحوش ذو الوجوه
القبيحة له؟!.
لقد قتلوه في الطائرة بأكثر من 150 طلقة ثم رموا جسده الشريف من
أعلى الطائرة الى الأرض لسبب هو غاية في الغباء والتعصب، وهو كونه
شيعي المذهب!.
والمثال الآخر في رفضهم التحاور حول ضرورة ترك تماثيل بوذا وعدم
تفجيرها كونها تراث ليس له علاقة بالعبادة لها عام 2001، وبذلك ضرب لنا
هؤلاء المجرمون درسا وجيها هو ان مجال التعامل مع التكفيريين هو
استئصالهم بكل الوسائل المتاحة من مجتمعاتهم المبتلية بهم، والحوار
الوحيد هو لانقاذ المغرر بهم.
كذلك توجد هنالك الكثير من الامثلة المأساوية لمثل هؤلاء وخاصة في
عالمنا العربي، ومنها المنضوون تحت راية الاحزاب والحركات الشوفينية
مثل حزب البعث السابق في العراق والذي رفض الحوار مع الجميع وعمل جاهدا
على ابادة المخالفين وكانت النتيجة الطبيعية هي الوقوع في شر اعمالهم
من خلال رفض الجميع لهم وطردهم من الحياة العامة ووضعهم في مكانهم
الطبيعي المخصص لكل الرعاع في مزبلة التاريخ.
ومثال اخر واقعي مستمر هو الصراع المأساوي في الصومال والذي في
اغلبيته بين الاسلاميين انفسهم!ثم بعد ذلك بين القبليين في ظاهرة قبيحة
من انعدام الوعي وخاصة في المسؤولية الوطنية والاخلاقية، والتي يمكن
ملاحظتها في انعدام الحوار بين الاطراف المتصارعة نفسها!.
اذن الحوار هو ضرورة انسانية شاملة لجميع البشر ويمكن من خلالها
تجنب الكثير من الاخطاء والمأسي التي تجعل حياتنا جحيما لايطاق، ولكن
له شروطه وآلياته واساليبه التي يمكن من خلال استيعابها واتقانها، خلق
مجال حواري مثالي يؤدي الى نتائج عظيمة تجعل التعايش الانساني في اروع
صورة.
جفت الاقلام ورفعت الصحف وفي العقل والقلب افكار لاتنتهي. |