شاي الغصة

كاظم فنجان الحمامي

لكولومبو, جزيرة المطر والموج والفاكهة والزهور وجوز الهند والشاي,  موقع خاص في قلبي. فقد كانت محطتي البحرية الأولى في رحلتي التدريبية المنطلقة من ميناء المعقل في البصرة إلى جنوب القارة الهندية. وكنت حينها شابا يافعا لم أبلغ العشرين بعد.

ثم تكررت زياراتي لها, خلال العام 1972على ظهر الباخرة العراقية (14 رمضان), التي كانت تختال برحلاتها المكوكية بين البصرة وسيلان, لجلب أفضل أنواع الشاي السيلاني المقطوف من مرتفعات جبال (نوريليا), وحقول (كاندي) الخضراء المترامية الأطراف, التي تتغذى من رذاذ الغمام وقطرات الندى.. وكُولُومبُو عاصمة سريلانكا, وأكبر مدنها. وهي ميناؤها البحري العريق. كما أنها المركز التسويقي لتجارة الشاي وجوز الهند والقطن والتوابل.

ويعتقد المؤرخون أنها كانت تسمَّى (كُولامبا (في القديم. وهو مصطلح محلي يعني المرفأ. أو أشجار المانجو المورقة..

وكولومبو أرض الأحلام المزدانة بالخيرات, والغابات والبساتين, والأحجار الكريمة النفيسة, والجنان الطبيعية الخلابة.. في هذه الجنان تتفنن الفتيات التاميليات بفرز وغربلة وريقات الشاي عدة مرات, لينتجن في آخرها مالا يقل عن تسعة أنواع من الشاي. أفخرها إطلاقا المستخرج من ساق ورقة الشاي. ويسمى الشاي الفضي. ولأن علاقة العائلة العراقية بالشاي علاقة فريدة وعميقة. فقد اختارت الحكومة العراقية منذ عام 1959 أسلوب التعامل التجاري المباشر مع الحكومة السيريلانكية. فسريلانكا حديقة الشاي الأولى في العالم.

وهي بحكم طبيعتها الخلابة, ومناخها الاستوائي الممطر, وربيعها الدائم تعد واحدة من أرقى حقول الشاي في كوكب الأرض. ناهيك عن تشددها في فحص صناديق وحاويات الشاي المعدة للتصدير. ومراعاتها للوائح إدارة جودة الشاي المصدر. واهتمامها بكيفية رفع جودة الشاي, وحرصها على خفض نسبة المبيدات الكيماوية التي تظل عالقة بالمنتج. فخفض نسبة المبيدات, وضمان سلامة الشاي يعدان شرطان أساسيان لتطوير تجارة الشاي. لذا فأن الخطوة الأولى تقضي بوجوب اجتياز فحص العينات. 

ولا يتم توقيع العقد الرسمي إلا بعد أن يتحقق المستورد من أن المنتج يتفق مع المواصفات. ويفترض أن يجتاز الشاي أكثر من مائتين نوعا من الفحوصات المختبرية للتحري عن المبيدات المتبقية بالشاي قبل تصديره إلينا. وقد باشرت كل من الصين واليابان نظاما جديدا لتحديد نسبة المبيدات المتبقية في المنتجات الغذائية، ومنها الشاي، وهو نظام يجعل نتائج الفحص تختلف كثيرا عن السابق. ويبدو إن مواصفات الفحص الصارمة في السوق الدولية جعلت الدول المنتجة للشاي تعي ضرورة رفع تقنية إنتاج الشاي, وإقامة نظام للمراقبة الشاملة (من مزارع سيلان إلى مقهى كيلان). فإذا كانت تلك الإجراءات الصحية الصارمة هي السائدة في معظم المنافذ الدولية.

فمن أين تسللت هذه الكميات الكبيرة من الشاي التالف, الذي نستلمه شهريا من وكلاء الحصة التموينية, والذي لا علاقة له بالشاي إلا بالاسم فقط. إذ لا تتوفر فيه أدنى مواصفات الشاي من حيث الطعم والنكهة واللون والرائحة. فهو عبارة عن تركيبة عجيبة من حشائش نباتية متعفنة, داكنة اللون. مرة المذاق. خشنة الملمس. قريبة الشبة بنشارة الخشب المنقوعة بصبغة الرمان الفاسد. حتى صار عامة الناس يطلقون عليه (شاي الغصة), للتعبير عن استيائهم وتذمرهم من شاي الحصة التموينية, وأصبحت هذه الصفة هي التسمية الشعبية الشائعة له في كل بيت ومقهى. إذ لا يمكنهم استعماله. ويتعذر عليهم بيعه. أو التبرع به. أو التصدق به. أو التصرف به. واتضح للناس أن نبوءة (سليمة مراد), التي سجلتها بأغنيتها الشهيرة (خدري الشاي خدريه... عيوني المن أخدره) قد تحققت الآن على أرض الواقع.

فهذا الشاي لا يمكن (تخديره) وشربه إطلاقا, حتى لو خضع إلى معالجات معملية ومختبرية مركزة. وكثرت الحكايات الساخرة في المدن والأرياف عن المراحل المأساوية, التي مر بها الشاي العراقي, ابتداء من (الاستكانة الراقصة), التي كانت تنتجها معامل الزجاج في الرمادي. وانتهاء بوجبة الشاي (المسلح) بالحديد وبرادته. وكانت أصابع الاتهام تتجه دوما نحو تشكيلات وزارة التجارة وحدها. في حين لاذت تشكيلات أخرى بالصمت المطبق. وكأن الأمر لا يعنيها أبدا. ففي المنافذ الحدودية, البرية والبحرية, تشكيلات تابعة إلى وزارة الصحة, مثل دوائر الحجر الصحي, ولجان سحب النماذج الغذائية. وجميعها معنية بالكشف والمعاينة على المواد الغذائية المستوردة. وتدقيق شهاداتها. وسحب نماذج منها للفحص المختبري للتأكد من مطابقتها للشروط الصحية.

 وهناك تشكيلات أخرى تابعة لوزارة الزراعة. مثل دوائر الحجر الزراعي. فالشاي, كما هو معروف, من المنتجات الزراعية. وهو مشمول بالفحص في المنافذ كلها. بعد كل هذا أليس من حقنا أن نستغرب, ونتساءل عن الكيفية التي تسللت فيها هذه الكميات الكبيرة من الشاي الفاسد ؟؟. وكيف تسربت إلى الوكلاء والأسواق والمحال التجارية ؟؟. ولماذا جثمت على قلوبنا أكثر من خمسة سنوات ؟؟. هذه الأسئلة وغيرها موجهة إلى عيون الرقابة الصحية والزراعية المبحلقة في المنافذ الحدودية. وسيجزي الله الذين اساؤوا بما عملوا. ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى..

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18/آيار/2009 - 21/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م