الأزمة الاقتصادية العالمية تطغى على قضايا الأمن الدولي

أضواء على الأسباب والنتائج والردود المطلوبة

 

شبكة النبأ: طغت الأزمة الاقتصادية العالمية على قضايا الامن الدولي مثل الوضع في العراق وأفغانستان وكوريا الشمالية وايران وحجبت كذلك الأزمات الأخرى، واحتلّت مركز الصدارة بين المواضيع التي تستأثر بالاهتمام، جاعلة الأخطار الشديدة التي تهدد الاستقرار العالمي تبدو، بالمقارنة، متواضعة هينة.

إلا أنه مهما كان الاستيعاب قصير النظر يظل الاهتمام الأكبر منصبا على المصالح المالية، لأن الأزمة المالية هامة وامتدت متشعبة لتطال أمكنة كثيرة حول العالم. ولا بدّ، لمعالجة المشكلة الراهنة والحيلولة دون تكرار الأزمات في المستقبل – هذا إذا كان ذلك ممكنا فعلا – من فهم السبب الذي أدى إلى الأزمة.

وكتبَ جويل تراكتمان، أستاذ القانون الدولي في كلية فلتشر للحقوق والدبلوماسية في جامعة تافتس، مقالاً حول طغيان الازمة الاقتصادية العالمية على التحديات الامنية، نشره موقع يو اس دوت غوف قال فيه:

التشخيص بالنسبة للمسببات ليس سهلا، لأن المتسبب في هذه الأزمة هو إدارة اقتصادية شاملة معقدة ومتشابكة، وقواعد تنظيمية مالية ناقصة وإدارة فاسدة للشركات الكبرى. وللسبب نفسه، الحيلولة دون وقوع أزمات في المستقبل ليست مسألة يسيرة.

بدأت الأزمة المالية في الولايات المتحدة بفقاعة تمثلت في ارتفاع أسعار المنازل والمغامرة بالرهونات الخطرة. فقد بدت الرهونات العقارية وكأنها استثمارات قائمة على أساس متين مع ارتفاع أسعار المساكن، لكنها ظهرت أقل بريقا وجاذبية عندما تراجعت وانخفضت أسعار البيوت. وصار هذا التراجع يغذي (أو يأكل) نفسه عندما أدى الإحجام عن الإقراض ووضع اليد واسترجاع ملكية العقارات المرهونة. وكانت النتيجة مزيدا من انخفاض أسعار العقارات. كان كثير من الرهونات العقارية الأصلية مكفولا بسندات، فأقبلت المصارف وغيرها من المؤسسات المالية، ومن ورائها المستثمرون، بحماسة على تبادل بيع وشراء السندات في دورة لا نهاية لها من السعي وراء استثمارات عالية المردود. بيد أن مالكي تلك السندات اكتشفوا أن قيمتها انخفضت انخفاضا حادا. فكان أن شلّت خسارة السندات رؤوس أموال المؤسسات المالية وقدرتها على أداء نشاطها المعتاد. وأدى ذلك إلى الحد من إمكانياتها لتمويل المؤسسات التجارية، الأمر الذي نجم عنه تأثير انكماشي على الاقتصاد الحقيقي. ولم تبدأ بوادر انفراج الجمود الائتماني والإقراض في الظهور إلا مؤخرا.

واضاف الكاتب: مع أن الأزمة بدأت في الولايات المتحدة، فهي الآن عالمية. فقد اتخذت الأزمة شكلها العالمي لأن النظام المالي بحد ذاته عالمي، ولأن المؤسسات المالية المتعاملة بالفوائد دون معدل الفائدة المحددة من البنك المركزي للحسم في الرهونات العقارية في الولايات المتحدة مؤسسات أميركية أممية تضم مؤسسات من بلدان أخرى أجنبية أممية. ثم إن مؤسسات مالية أجنبية تورطت في عمليات تجارية مماثلة في الخارج مقلّدة التجربة الأميركية المحلية. وكان من شأن العدوى المالية عندما بدأت أول المؤسسات المالية، ومعظمها أميركية، تتعرض لخطر الفشل، أن عرّضت نظيراتها من المؤسسات المالية حول العالم للتهديد بالفشل. وأخيرا أدت العدوى التي انتقلت إلى التجارة والاستثمار إلى انخفاض حاد في الصادرات إلى الولايات المتحدة والاستثمارات الأميركية في الخارج.

الأسباب

واشار الكاتب الى الاسباب التي ادت الى الازمة المالية بقوله:

ما من شك في أن المؤرخين الاقتصاديين سيظلون لسنوات عديدة يجادلون في أسباب الأزمة المالية العالمية. لعل العامل العرضي كان الاقتصاد الكبير الشامل، لكنه لو كان هناك ضبط نظامي مناسب لكان أمكن تفادي الأزمة أو إصلاحها.

معدلات الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة واليابان وغيرهما من البلدان، وسياسات سعر صرف العملات في الصين، ونمو الثروة النفطية، وغيرها من الثروات في الصناديق الحكومية أسهمت كلها في وجود فائض من السيولة التي أسهمت بدورها في خلق فقاعة من الأرصدة والأصول. فأصبحت هناك أموال متوفرة سهلة المنال (منخفضة الفائدة) حول العالم بحاجة إلى استثمارها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنظرا لأنه كانت هناك أموال قليلة التكاليف، جدّ المستثمرون في البحث عن استثمارات ذات مردود أكبر. فاستقطب الذين وعدوا بالمردود العالي أتباعا كثيرين وتقاضوا رسوما عالية.

تدفق جزء كبير من تلك السيولة الفائضة إلى قطاع العقار المنزلي في الولايات المتحدة. وبينما كانت الأزمة تعتمل وتتفاعل، تميز القطاع العقاري الأميركي في تلك الفترة بالمواصفات الكلاسيكية النموذجية للفقاعة. وبدا الذين استثمروا في العقار السكني، كمالكين أو مقرضين، وكأنهم عباقرة في شؤون المال. فمقرضو المال للرهنيات العقارية لا يمكن أن يتعرضوا للخسارة لأن قيمة العقارات المرهونة كانت في زيادة مستمرة، الأمر الذي يغفر للمقرضين زلاّتهم. فكما قال المستثمر الثري الشهير وارن بافيت: " فقط عندما تنحسر الموجة ، تكتشف من كان يسبح عاريا."

لم يعد المقرضون الدائنون للرهونات العقارية آنذاك المؤسسات، أو جمعيات الادخار والإقراض المحلية التقليدية يخططون للاستمرار في حمل مسؤولية الدين العقاري الأصلي حتى انتهاء مدة وفائه وسداده. بل أصبحت تلك القروض العقارية تُجمع في حزَم وتحوّل إلى سندات كفالات يتداولها المستثمرون من أفراد ومصارف تجارية. وتبعا لذلك لم يدقق المقرضون دائنو الرهونات النظر في معظم الأحيان في قدرة المقترضين منهم على المدى الطويل ولم يقلقوا تجاه إمكانياتهم في خدمة الديون وتسديدها في حال حدوث ضائقة مالية. وفي أواخر العام 2003 زادت قيمة كفالات السندات الرهنية زيادة فائقة. وتحول نظام الربح في كثير من المؤسسات المالية من ربح أساسه معدلات الفائدة إلى نظام قائم على الدخل من الرسوم وتبادل السندات. وأدى هذا التغيير في نظام العمل التجاري إلى تغيير أيضا في نظام المكافآت – منح المديرين التنفيذيين الذين يحققون أرباحا من تلك الرسوم ومن تبادل الأسهم علاوات ومكافآت إضافية.

تطلّب إصدار سندات كفالات القروض جمعها في حزم، أو منظومات سندات، طبقا للمتلطبات التي يحددها مصدرو السندات، كما تطلبت في الغالب تعزيز الائتمان بالتأمين أو غيره من وسائل الدعم والكفالة. وحصلت تلك السندات، المدعومة بالرهونات العقارية ولبّت المتطلبات والمواصفات المحددة من وكالات أو مؤسسات التقييم كمؤسسة مودي وستاندارد أن بور، على أعلى مستويات التقييم الائتماني على وجه العموم. ونافست مؤسسات التقييم بعضها كسبا للعمل وكثيرا ما اعتمدت على تجارب الماضي بدلا من التطلع إلى أوضاع المستقبل الذي ينطوي على إمكانية تضخم الأصول إلى فقاعة كي تقيّم وتقرر الجدارة الائتمانية لتلك المنظومات من حزم السندات.

واضاف الكاتب: ربما جاز اتهام الهيكل التنظيمي الإشرافي الأميركي بخطيئة الذنبين، خطيئة الفعل وخطيئة الإهمال وعدم الفعل. فحكومة (الرئيس) بوش أرادت أن تزيد الملكية العقارية وتوسعها بحيث تشمل ذوي الدخل المحدود وذلك من خلال الإقراض صفر القيمة المتجمعة لمالك العقار. وتطلبت مقتضيات زيادة رأس المال التي فرضت على عملاقي الإقراض العقاري فاني ماي (الجمعية الفدرالية القومية للرهن العقاري) وفريدي ماك (المؤسسة الفدرالية للإقراض والرهونات السكنية) فتح سوق تمويل المنازل أمام إصدار سندات الكفالات، وأغرى الانخفاض المتوقع في متطلبات رأس المال المتعلق بالرهونات العقارية بموجب اتفاقية بال الثانية “Basel II”  (الاتفاق الثاني للجنة بال بسويسرا حول التوصيات الخاصة بمعايير وضع القواعد المصرفية الدولية) البنوك الأميركية بزيادة موجوداتها من السندات المدعومة بالرهونات العقارية. فقد كان مسموحا للمصارف الاستثمارية أن تزيد قوتها ونفوذها. ولذا يمكن أن يقال إن كل هذه التغييرات التنظيمية كانت مدفوعة بالسيولة المتوفرة، وأكدت على نمو سوق السندات المدعمة بالرهونات العقارية ومجازفاتها. وعلى الرغم من أن بعض الأفراد المشرفين على التنظيم ربما أدركوا أن المشاكل كانت متزايدة، فإن السلطات كانت تفتقر إلى الإرادة السياسية للتدخل القوي الفعال. 

تعرضت إدارات كثير من المؤسسات المالية ومجالس محافظيها لضغوط شديدة من نظام رسوم تبادل السندات والاندفاع نحو تعزيز المؤسسات التجارية التي تحقق أرباحا أكبر، ومن الضغط التنافسي الناجم عن مغامرات الشركات الأخرى ومجازفاتها، ومن عدم القدرة على وضع نظام مقنع للمجازفة على المدى الطويل. وأمام تلك الظروف أصبح المساهمون ومجالس الإدارة غير قادرين على التقدير والحد من المخاطر التي تحملتها مؤسساتهم. وصرح ألان غرينسبان، رئيس مجلس الاحتياطي (البنك المركزي) السابق في شهادة له في الكونغرس في تشرين الأول/أكتوبر 2008 بقوله "إن أولئك الذين كانوا، الذين تطلعوا منا إلى المصلحة الخاصة لمؤسسات الإقراض لحماية نصيب المساهم – بمن فيهم أنا على الأخص – نعاني الآن من صدمة عدم التصديق. وتعتبر هذه إدانة مذهلة لمجالس محافظي المؤسسات الأميركية: فآليات إدارة المؤسسات غير كافية لضمان قيام المديرين بإدارة مصالح المساهمين على المدى الطويل بدلا من الاهتمام بمصالحهم هم الخاصة على المدى القصير.

العلاجات

وطرح الكاتب حزمة من العلاجات للازمة بقوله:

كل سبب من أسباب الأزمة المالية يستحق الدراسة المتمعنة من أجل الحيلولة دون وقوع أزمات في المستقبل. وعلينا أن نتذكر بالطبع أن التأمل الرجعي واستذكار تفادي الأزمات السابقة كالتي خبرناها مثل خط ماجينو الفرنسي في الحرب العالمية الثانية، لن يحول دون وقوع أزمات مستقبلية. والصحيح هو أن علينا أن ندرك أنماط البنى والهياكل التي تسبب الأزمة ونعمل من ثم على إيجاد الآليات التي تمكن من رؤية الأزمة الجديدة المقبلة ونعيد هيكلة نظمنا للرد والتصدي لها.

أولا، يجب على إدارة الاقتصاد الأكبر الشامل أن تكون قادرة على التعرف على فقاعات الأصول (تضخم الموجودات والأسعار) وأن تتمتع بالإرادة السياسية للرد. ثانيا، يجب أن نكون حريصين من حيث التعرّف على الإصلاحات التنظيمية ذات الدوافع الدورية في الغالب: التشديد على الظواهر الخطرة. وينبغي علينا ونحن نجري إصلاحات تنظيمية أن نكون حريصين على طرح نفس السؤال الذي طرحه وارن بافيت، وهو: هل سنظهر عراة عندما تنحسر الموجة؟ ثالثا، يجب أن يكون التنظيم المالي مفهوما على أنه رد خاص على تضارب الحوافز الخاصة للمؤسسات المالية وتنافرها. ولذا يجب علينا أن ندرك أن إشراف محافظي المؤسسات ليس كافيا وحده لمنع الإدارة قصيرة النظر. وعلينا أن ندرك أيضا أن المساهمين في المؤسسات المالية قد لا تكون لهم حوافز كافية لضمان تجنيب المؤسسات المالية الإفراط في المجازفة: أن يستوعب الباقون منا مكونات هامة للمجازفة من خلال تأمين الودائع وحوافز الإنقاذ الحكومية. هذه المجازفة الخلقية غالبا ما تتطلب ردا تنظيميا.

الردود المطلوبة

التنظيم الداخلي مطلوب في أحيان كثيرة عندما لا تتحمل المؤسسات كل مخاطر أعمالها أو عندما لا يتحمل الأشخاص المشرفون على المؤسسات كل مخاطر مجازفاتهم. وعلاوة على ذلك هناك حاجة إلى التنظيم الدولي عندما لا تتحمل الدول كل مخاطر أعمالها التنظيمية. فالحوادث الخارجية يمكن أن تقع نتيجة العدوى: فالمؤسسات المالية تشترك في شبكة دولية كثيفة للعلاقات بين المصارف، وفشل مصرف واحد قد يضر بالآخرين. والأحداث الخارجية الدولية يمكن أن تقع أيضا نتيجة التنافس التنظيمي: فعندما تخفض دولة ما مستوى معاييرها قد تزيد من تنافس المدى القصير بين مؤسساتها المالية، مما يفرض تنافسا مضرا على المؤسسات المالية الأجنبية. وأخيرا، فإن أي ركود اقتصادي أميركي يحدث تغييرا له آثار تغييرية حول العالم من خلال الآلية التجارية والاستثمارية.

اذن ما هو الرد التنظيمي الدولي المطلوب؟ والجواب، إن على الدول أن تتحمل قدرا أكبر من المسؤولية بالنسبة لتنظيم قدرة مؤسساتها المالية على الوفاء والتسديد، وذلك للحد من مخاطر العدوى. وربما كان من المناسب للدول أن تتفق على مدى ونطاق مسؤولياتها.

لكن هذا ليس كافيا بحد ذاته. فمشاكل إدارة الشركات التي تغري المؤسسات بالإفراط في المجازفة بحاجة إلى المعالجة، سواء عن طريق التنظيم أو من خلال التنظيم والانضباط الذاتي لقطاع المال. فستكون هناك حاجة لرد تنظيمي دولي لضمان عدم قيام مغريات تحفز الدول على تخفيض عتبة التنظيم دعما لقدرة مؤسساتها الخاصة على التنافس. وكان القلق من هذا التنافس أحد العوامل التي حفزت على اتفاقية بال لتنظيم رأس المال، لكن الحاجة إلى مزيد من العمل ما زالت قائمة.

وختم الكاتب مقاله بقوله: هناك حاجة إلى مزيد من الاعتدال الواعي والتواضع في إدارة الاقتصاد الشامل، وإيلاء اهتمام أكبر بهموم الدول الأخرى في ما يخص إدارة الاقتصاد الشامل الوطني، وذلك من أجل تفادي حدوث فقاعات الأصول أوغيرها من الأزمات المتعلقة بالاقتصاد الشامل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 17/آيار/2009 - 20/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م