جراء التحولات التي طرأت على المجتمعات الإنسانية وتحولها من
تنظيمات قبلية بسيطة أو تجمعات سكانية كانت تأخذ شكل قرية صغيرة أو
عشيرة، وتطور تلك المجتمعات إلى تنظيمات مدنية تأخذ شكل الدولة التي
تضم مختلف المؤسسات، صار لابد من وجود عدد من أصحاب الاختصاص يديرون
شؤون ذلك المجتمع، وأصبحت الحاجة ماسة لوجود ذلك الجهاز الإداري الذي
يتماشى وحجم مؤسسات الدول سواء على الصعيد المالي(الاقتصاد) أو
العسكري(الأمن) أو الخدمي(جميع ما يمس حياة أفراد المجتمع بصورة
مباشرة).
وأصحاب الاختصاص هؤلاء يمكن أن نطلق عليهم اسم (الجهاز الوظيفي)، إذ
لا يستطيع أي حاكم وحده إدارة مؤسسات الدولة بصورة مباشرة، فلابد من
وجود ذلك الجهاز من أجل العمل على تنفيذ الخطط الآنية والإستراتيجية
وتحريك مفاصل الحياة داخل تلك المؤسسات لخدمة الناس وتمشية أمورهم.
والجهاز الوظيفي هو وجه الحكومة الحقيقي أمام المجتمع لأنه وحده
الذي يتعامل مع الناس بصورة مباشرة، فالموظف الحكومي هو المرآة التي
تعكس صورة الحكومة للمجتمع، فإذا كان هذا الموظف أمينا كفءً ونزيها في
تعامله مع الناس ومخلصاً في عمله انعكس ذلك السلوك الايجابي على الأداء
الحكومي بصورة عامة وعلى الموظف بصورة خاصة، أما إذا كان الموظف أو
الجهاز الوظيفي على عكس ذلك أو انه ليس على مستوى المسؤولية فهنا تكمن
الخطورة.
فصلاح الحاكم بشخصه لا يغني عن صلاح بقية الموظفين، لأن سوء أداء
الموظف ينعكس على أوضاع الناس وبالتالي فإن اللوم سوف يوجه إلى الحاكم
حتى وإن كان صالحاً.
ومسؤولية الحاكم لا تكمن في مراقبة الموظف أو معاقبته فقط، بل تكمن
في أهمية حسن اختياره للموظف بتأكيده على توفر الصفات الجيدة في أي
موظف يعتزم أن يوليه خدمة عامة، ومن هذه الصفات؛ الأمانة لأن جميع
الإمكانات الموجودة في منصبه هي أمانة يجب الحفاظ عليها وأولها المال
العام وخدمة المجتمع، ومنها أيضاً؛ الكفاءة التي يجب أن تتوفر لدى
الموظف متمثلة في القدرة على إدارة عمله بنجاح وإتقان، كما جاء في قوله
تعالى(....إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26))
سورة القصص، لأن صفة الأمانة التي تتوفر في الموظف لا تكفي وحدها لشغل
المنصب الوظيفي دون وجود الكفاءة اللازمة التي يتمكن من خلالها الموظف
تأدية عمله الوظيفي، فاختيار الموظف يجب أن يتم على هذا الأساس وليس
على أساس الولاء والمحسوبيات وصلة القربى.
نعم الأقربون أولى بالمعروف كما هو شائع في المجتمع، لكن ليس على
حساب الصالح العام، لأنه يجب أن يعي الموظف إن وظيفته تحمله مسؤولية
وأمانة كما جاء في كلام أمير المؤمنين(ع) إلى أحد عماله: (واعلم إن
عملك هذا ليس طعمة لك وإنما هو أمانة في عنقك)، فأغلب الموظفين في
الدوائر الحكومية يجب أن يدركوا مسؤولياتهم في دوائرهم وعليهم أن
يعرفوا إن هذه الوظيفة أمانة يحاسبون عليها أمام الله وأن يراعوا من
خلالها حق الأمانة، ومن أفضل وأجلى معاني الأمانة هو المجال الوظيفي
حيث تتأكد حالة الأمانة في اختيار المسؤول الحكومي للموظف عندما يتم
الاختيار من خلال الاعتماد على مبدئي الأمانة والكفاءة.
وكثيراً ما يعتقد الموظف بأن قرابته من المسؤول الفلاني تنأى به عن
تحمله لمسؤولياته الشرعية أو تبعده عن طائلة القانون، حيث تصبح صلة
القرابة التي تربط الموظف بالمسؤول هي حصانة يعطيها الموظف لنفسه وأن
لا أحد يستطيع أن يتعرض له مادام يعمل تحت حماية المسؤول الحكومي
القريب.
وقد أكد آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي في كتابه السياسة من
واقع الإسلام، على أهمية اختيار الموظف ومراقبته ومحاسبته، كما تطرق
إلى التأكيد على إن قرابة الموظف من الحاكم أو المسؤول لا تعطيه
الحصانة بأي شكل من الأشكال ولا تعفيه من العقاب في حال مخالفته لواجبه
الوظيفي، والمقصود بالقرابة هنا ليست القرابة النسبية فقط، بل تشمل
جميع الصلات التي تربط أي فرد بالآخر.
فما ورد من طرح لهذه المسألة له علاقة كبيرة بواقعنا الحالي، لأن
آفة (فساد المحسوبية والمنسوبية في العمل الوظيفي) تسببت وبشكل كبير في
تفشي ظاهرتي الفساد المالي والإداري في العديد من الدول الإسلامية
وبالذات العراق، الذي أصبح فيه الفساد يشكل تهديدا كبيرا ومباشرا
لمؤسسات الدولة وكيانها.
إن الحاكم والمسؤول يجب أن يكون على رأس سياسته الإدارية مراقبة
موظفيه اشد رقابة، فقد كان الإمام علي بن أبي طالب (ع) كما جاء في كتاب
السياسة من واقع الإسلام، ينصح موظفيه وعماله ثم يوجههم ثم يعاتبهم ثم
إن لم يفد ذلك كان يعمد إلى عزلهم وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة؛ كما في
المثال الذي ورد مع أحد الموظفين الذين استوجب العقوبة لفعله وحينما تم
إحضاره إلى الإمام(ع) بعد هروبه، قال ذلك الموظف (والله إن المقام معك
لذل، وان تركك لكفر)، ويعلق سماحة السيد الشيرازي على هذا الكلام: يريد
بذلك انك لا تفرق بين أصدقائك وغيرهم ولا تسامحهم بما لا تسامح به
غيرهم، وهذا معنى ما اشرنا إليه من إحساس الموظف بالحصانة التي تميزه
عن الآخرين من خلال العلاقة التي تربطه بالمسؤول.
فالحصانة غير الرسمية التي يشعر بها الموظف داخل أجهزة الدولة هي
أكبر بكثير من الحصانة التي تمنح عن طريق التشريعات والقوانين، وهذا
الشعور يلازم الموظف ذاتياً أثناء تأديته لمهامه الوظيفية عن طريق شخص
أو جهة صاحبة قرار ولها تأثير وسطوة في أجهزة الدولة، وهو على عكس ما
يأمرنا به ديننا أو ما نقرأه عن سيرة نبينا(ص) والإمام أمير
المؤمنين(ع) حينما كان يحاسب عماله وموظفيه أشد حساب ولا يعفيهم قربهم
منه من الحساب أو العقوبة ويكون عليهم أكثر من غيرهم، كما قال الإمام
الصادق (ع) لأحد شيعته (يا هذا الحسن منك أحسن لقربك منا والسيئ منك
أسوء لقربك منا).
وبما إننا نعيش في بلاد تحترم مبادئها، وندعي إننا ممن يهتدي بهدي
الإسلام، علينا أن نعمل وفق ما يرضي الله ورسوله وأهل بيته ووفق ما
تقتضيه الأمانة في الوظيفة كما في خارجها، ونعالج أنفسنا ومجتمعنا
ومؤسساتنا من سرطان الفساد الذي يستشري في جميع أنحاء البلاد، وان لا
تكون المحسوبيات والمنسوبيات والفئويات هي الأساس في تقييم أداء الموظف
أو الجهاز الوظيفي بل ما يقدمه من إنتاج ومنجز وخدمات حقيقية للبلد
والمواطنين.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |