إن محور النزاع بين المذاهب الإسلامية المتنافرة يأخذ عدة إنطباعات
قبيل التنازل قليلاً عن الآراء التي تأخذ الإتجاه العرضي في مسيرة تلك
المذاهب، ولطالما لم يجد علماء الأمة الحلول لتلك الثوابت التي تأصلت
في مخيلة كل فرقة منهم، كان لابد من الدفاع المؤدي إلى الحل والتهدئة
أو الهزيمة والنقض للآراء التي تتمسك بها كل فرقة قبال الأخرى.
وفي الحقيقة فإن الإتهام الذي يوجه للإمامية بسبب تمسكهم بمصحف
فاطمة ماهو إلا إتهام للأمة بأكملها وليس لطائفة واحدة فقط، وذلك لأن
الإنتماء الحقيقي لأحداث الفترة القصيرة التي روجت لبطلان الحقائق،
لابد أن يكون له التأثير السلبي الذي يجعل الأمة هي التي تدفع ثمن تلك
الإنتكاسات لا أكثر.
أما إذا ثبت العكس فلا سبيل للفئة المعارضة إلا الضياع أواللجوء
للحقيقة التي بدونها تكون الأمة في نزاع مستمر لاتنفك لوازمه بل تتجدد
كلما أوشك المصلحون على جمع الكلمة، وهذا يقودنا إلى تصحيح بعض
المفاهيم والسلوكيات التي يعتبرها البعض من البدع التي ما أنزل الله
بها من سلطان، إلا أنها بالحقيقة أمر ثابت ونازل من عند الله تعالى
بواسطة الوحي جبريل (عليه السلام) إلا أن بعض العقول لاترى من الغيب
شيئاً ودأبها مستمد من المألوف الذي أمامها، وبطبيعة الحال فإن هذا
المألوف لايمكن أن يكون ناصعاً أومهيئاً للبت بالحقيقة بل يشوبه الحقد
والكراهية وثارات قديمة يريد كل طرف أن ينال بواسطتها من الطرف الآخر.
ولأجل أن نضع أيدينا على أحد أطراف تلك النزاعات لابد أن نأتي
بالأدلة واضحة وبإتفاق العلماء الذين لايشك بنزاهتهم لدى جميع الأطراف
حتى نتمكن من وضع الحقيقة أمام أعين الناس دون خوف أو وجل، وكذلك دون
الميول التي لا يرتضيها الله تعالى ولا تقبلها الإنسانية بأي حال من
الأحوال.
والطرف الأول الذي تتنازع فيه المذاهب ولاتريد أن تجعل له علاجاً
وتخرجه بصورته الحقيقية هو [مصحف فاطمة] ومدى صحته أو عدم وجوده، أو
ربما يكون وجوده ملموساً إلا أنه لم يكن مفهوماً لدى الآخرين بسبب
بعدهم عن الحقيقة أو ربما بسبب تصديقهم للأفكار التي إنتقلت إليهم عن
طريق أسلافهم.
ولو تطرقنا إلى أهم النقاط في هذا الأمر وأردنا إثبات تلك الحقيقة
نكون بين أمرين مهمين: أولهما: هل أن هذا المصحف منزل من عند الله
تعالى وبواسطة الوحي جبريل (عليه السلام) أم لا، وثانيهما: هل أن هذا
المصحف أنزل مباشرة إلى فاطمة دون غيرها وهي التي كانت محدثة، والقوم
لهم آراء عديدة ومختلفة في هذا الأمر إلا أن الذي يصدهم عن قبول تلك
الحقيقة هو صعوبة فهمهم واستيعابهم لمسألة التحديث التي تلقتها فاطمة
من قبل الوحي باعتبارها إمرأة والوحي لايمكن أن يتنزل إلا للرجال حسب
زعمهم ودليلهم في ذلك قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي
إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون) يوسف 109. وقريب
من هذا اللفظ: النحل 43. والأنبياء 7.
والحقيقة أن الآية تشير إلى الرسالة وليس إلى مطلق الوحي، بدليل أن
القرآن الكريم يثبت أن هناك بعض النساء قد أوحي إليهن وليس في الأمر ما
يدعو إلى الغرابة، ومن هذه النساء على سبيل المثال: أم موسى كما قال
عنها تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في
اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص
7.
وكذلك مريم وقصتها شهيرة في القرآن الكريم وكتب التأريخ ومفصلة على
أتم تفصيل، كما قال تعالى: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً
سوياً) مريم 17. وغيرها من الآيات التي أشارت إلى تحديثها من قبل
الوحي، إضافة إلى إمرأة إبراهيم كما حكى تعالى ذلك في قوله: (وامرأته
قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) هود 71.
ومن هنا يظهر أن لامانع من تحديث النساء من قبل الوحي، وما يؤكد هذا
تلك الروايات التي تعاضدت على إظهار الحقيقة ومنها ما جاء في الكافي:
1/241. وغيره من المصادر التي تذكر: إنه لما سئل الإمام الصادق (عليه
السلام) عن مصحف فاطمة (عليها السلام) قال: إن فاطمة مكثت بعد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) خمسة وسبعين يوماً وكان قد دخلها حزن شديد
على أبيها، وكان جبريل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها
ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي
(عليه السلام) يكتب ذلك فهذا مصحف فاطمة.
وجاء في بحار الأنوار: 26/39. عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله:
وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهما مصحف فاطمة، مصحف
فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، إنما
هو شيء أملاه الله وأوحي إليها. وفي الإمامة والتبصرة صحيفة فاطمة أو
مصحف فاطمة أو كتاب فاطمة، ورد التعبير بكل ذلك عن كتاب ينسب إليها
(عليها السلام) إلا إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما
يكون.
أما المجلسي فيقول: الظاهر من أكثر الأخبار إشتمال مصحفها على
الأخبار فقط. إنتهى. وعند متابعة تلك الأخبار ودراستها بالشكل الصحيح،
يصل الباحث إلى أن الأمر ليس فيه ما يدعو إلى الغرابة بل على العكس من
ذلك، إلا أن الذي يروج له أعداء الدين لايمكن أن يعتمد عليه في نفي
الحقيقة التي أثبتت صدقها على مر العصور أمام هذا الكم الهائل من
الأباطيل والإتهامات،علماً أن الباحث عن الحقيقة يستطيع أن يصل إلى أن
المصحف المذكور لايتعارض مع القرآن الكريم بشكل من الأشكال وإنما هو
كتاب آخر، ويؤكد هذا قول الإمام الصادق (عليه السلام) من أن مصحف فاطمة
فيه مثل قرآنكم ثلاث مرات. أي أن المادة التي يحتويها المصحف لابد أن
تكون من جنس آخر غير القرآن ولا غرابة في ذلك كما هو الحال في الحديث
القدسي أيضاً لأنه منزل من السماء وموحى به إلا أن الله تعالى لم يتعهد
لنبيه (صلى الله عليه وآله) بحفظه فهكذا هنا لا مانع من أن يكون لفاطمة
(عليها السلام) كتاب من هذا النوع، إلا أن الله تعالى لم يتعهد بحفظه
وما يؤكد هذا قول الإمام الصادق (عليه السلام) في بصائر الدرجات: من أن
مصحف فاطمة ما فيه آية من القرآن الكريم.
وعند التأمل في جميع الروايات التي ذكرت هذا المصحف يظهر لنا أن
المصحف لايمكن أن يكون أداة طعن لمن تمسك به بل على العكس من ذلك،
علماً أن ذلك المصحف لايحتوي على أحكام لتبيين الحلال والحرام، بل هو
عزاء مقدم من قبل جبريل (عليه السلام) لتطييب نفسها وإخبارها عن مصير
ذريتها من بعدها وما تؤول إليه أحوالهم بعد إنتقالها إلى الرفيق
الأعلى، وأخيراً أود القول إن التشكيك الذي ألحق بالمسلمين جراء هذا
المصحف ينم عن الجهل الذي إتخذه أصحاب هذه الفرية التي يروجون لها بين
عدم التصديق من جهة وبين تطابق إسم المصحف مع أحد أسماء القرآن على حد
زعمهم من جهة أخرى، ولأجل الجمع بين متناقضات أقوال القوم نود أن نشير
إلى أن المصحف ليس من أسماء القرآن الكريم التي ذكرت في متفرقات آياته،
إنما هو من إصطلاحات الصحابة بعد جمع القرآن في قراءة واحدة، أما إذا
كان الإعتقاد بعدم تلقي فاطمة (عليها السلام) للوحي فهذا ما أثبتنا عدم
صحته من خلال الآيات التي تثبت أن هناك بعض النساء قد أوحي إليهن.
Abdullahaz2000@yahoo.com |