تبقى ازمة الصدام التي تعيشها المجتمعات والامم والحضارات حاضرة في
كل وقت ومثيرة للحروب والفتن والكراهية ونزعات الانتقام والثأر، فقد
تعلم الانسان كيف يحارب اخيه لكنه لم يتعلم كثيرا كيف يتعايش معه في
اطار مشترك قائم على ادارة المصالح المشتركة باساليب سلمية، فكيف يمكن
تعلم تحقيق العيش المشترك بعيدا عن لغة الصدام والكراهية؟
في ذلك يقول الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي: (أن الفكرة توجه
الإنسان وتقوّم منه، ولكن للمصلحة فعاليتها.. وإذا تصارعت الفكرة
والمصلحة فالأقوى منها يقرر مصير الإنسان الذي تصارعتا عليه فمن كانت
إرادته قوية، يشجع الفكرة على الانتصار ومن كانت إرادته ضعيفة تنتصر
فيه المصلحة على الفكرة).
ويؤكد الامام الشيرازي رحمه الله وهو صاحب النهضة الفكرية
والاجتماعية والأخلاقية التي شملت أغلب مناحي الحياة على رفضه المطلق
لكل أساليب العنف والإرهاب، وضرورة التعايش الإنساني بين بني البشر في
العالم الإنساني كافة، دونما تمييز بين دولة وأخرى وبين مذهب وآخر أو
بين طائفة وغيرها... حيث يرى إن الإسلام دين يعمل على نشر الأمن
والأمان والسلم والسلام في العالم دون استثناء، وانه دين يحرّم الظلم
والإرهاب، والغدر والاغتيال، ويحارب كل ما يؤدي إلى الذعر والخوف
والرعب والاضطراب بين الناس الآمنين حيث يستنتج رحمه الله في ذلك الشأن:
(إن المجتمع الذي تكثر فيه حالة الظلم، لابد وأن تكثر فيه
الاضطرابات المختلفة، وحالة عدم الاستقرار، وتترتب عليه آثار وخيمة جداً
في نفوس أبناء المجتمع)، وان الحل يكمن في تحريم إنتهاك حقوق الإنسان
وقمع أصحاب الفكر المخالف، وإعتقال الكتّاب والمثقفين والباحثين وإشاعة
الرعب والإرهاب التي لا تعد من مصاديق التعايش.
ان التعايش في المفهوم الإسلامي يستند على وجود أرضية مشتركة بين
الأطراف، والبحث عن الحقيقة الموجودة في ثنايا المفهومات والمصطلحات،
وقد أكدت روايات أهل البيت عليهم السلام في التعايش، إذ يقول الإمام
محمد الباقر عليه السلام:(صلاح شأن الناس التعايش) وإن شخصاً دعا بحضور
الإمام السجاد عليه السلام قائلاً: اللهم أغنني عن خلقك، فلما سمع
الإمام كلامه رد عليه قائلاً: ليس هكذا الناس بالناس، ولكن قل: اللهم
أغنني عن شرار خلقك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
قبل:(رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد
بر أو فاجر).
ولأن مفهوم التعايش الاجتماعي يمثل مبادئ تخدم مصلحة الإسلام من
ناحيتين: الأولى: تمكينه من الانتشار، والثانية حماية حقوق الأقليات
المسلمة في جميع أنحاء العالم من جهة أخرى، فقد دعا الإمام الشيرازي
إلى حكومة واحدة وأمة واحدة لا تحدها حدود ولا يفصل بينها فاصل والجامع
بينها يكون الإلتزام بما أمرنا الله سبحانه وتعالى إذ لا فارق بين أسود
وأبيض أو غني وفقير فالكل سواسية والفارق يكون بالتقوى، حيث يقول: (وقد
رأيت أنا آثاراً من الظواهر الإنسانية- التي أمر بها القرآن وترمي
لتحقيق أسرة واحدة - قبل ستين سنة، حيث لم تكن بين العراق وبين سائر
البلاد الإسلامية حدود جغرافية مصطنعة كما موجود اليوم).
فتوحيد بلاد المسلمين بأسس مبنية على التعايش السلمي كمفهوم إجتماعي
لا سياسي من أجل أن تنصهر هذه الدول في دولة واحدة هو ما يصبو إليه
الإسلام في وقتنا الحاضر لا العمل على أسلمة الشعوب أو السعي في أتجاه
الفتوحات التي أثبتت فشلها كونها إعتمدت على السيف في نشر الإسلام،
ولنا في الدولة الإسلامية التي تكونت في زمن الرسول الأعظم محمد صلى
الله عليه وعلى آله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام المثال الذي
نهتدي به اليوم في طريقة فهمنا للإنسانية.
وقد أكد ميثاق الأمم المتحدة الصادر عنها على ضرورة أن يتمثل
التعايش في أن (يكون الحوار فيما بين الأفراد أو الجماعات أو الدول
حوار الندٌ للند، أي حوار بين متساوين، وأن يعلو الحوار فوق أية
تعصٌبات أو أية أفكار مسبقة عن الآخر).
وهذه النقطة تؤكد على الموضوعية العلمية التي لطالما ذكرها الإمام
الشيرازي حرصاً منه على بث مثل هذه الثقافة إذ يقول: (أن من أهم أسباب
الأزمة التي نعانيها تتلخص في انعدام الحوار على اعتبار أنه إحدى أهم
مسؤولياتنا هي قراءة واقع الأمة والمجتمع ووضع الخطط اللازمة لنقلها
إلى حالات التطور والتقدم ولا يأتي ذلك إلا عبر المزيد من الحوار
والنقاش الهادئ بين مختلف الأطراف والتيارات الواعية ومن يمثلها حيث أن
الاستبداد الفكري قرين الاستبداد السياسي وهما معاً من نتائج التخلف
ومن أسبابه حقاً فلا بد من فتح باب الحوار الفكري مع الثقافات الأخرى
على أساس من الشعور بالعزة والاستقلال).
ان الدعوة إلى الحوار والنقاش عند الإمام الشيرازي ليس معناها
التنازل عن المبادئ الإسلامية استمالة لجهة من الجهات فإن هذا مرفوض
ويعد من المداهنة المنهي عنها، وبذلك يكون الاستماع إلى الآخر والحوار
معه والإعتراف بحقوقه والعمل معه من أهم العوامل التي تؤدي إلى بناء
النظام المكون للدول التي تتعدد فيها الأطياف المكونات الاجتماعية.
كما يتمثل التعايش في (الاستعداد لممارسة التسامح مع الآخر وقبول
الآراء المضادة، بشرط التجنب الصارم لأن يتدهور ذلك التسامح إلى علاقات
مهينة بين متسامح يعتقد أنه الأعلى والأفضل وآخر تفرض عليه المكانة
الأدنى ويشار إليه بأصابع الاتهام والريبة)، وقد تطرق السيد الشيرازي
إلى هذا المبدأ قائلاً: (المطلوب انتهاج لغة الحوار الموضوعي في نقاط
الخلاف الفكري والعقائدي والعملي، وليس لغة العنف والفرض والإكراه).
كما يتمثل في أن (تكون العدالة وموازينها الصارمة هي الحكم الذي
يُحتكم إليه في النقاش وفي الوصول إلى نتائج يقبلها الجميع)، فالعدالة
تساهم في بناء عالم يتعايش فيه الناس بسلام وبتفاهم معقول، لذلك نجد إن
أغلب الدول الدكتاتورية والتي تنعدم فيها العدالة يكون فيها التعايش
معدوما تقريباً فلا مكان للحوار ولا مكان لفهم الآخر المتوافق، فما
بالك في الفرد المخالف.
فكل إنسان يتعامل مع نفسه من خلال تعامله مع الآخرين، مهما حاول
التظاهر بغير ذلك، ويكشف عن هذه الحقيقة بوضوح أنه لا يشعر بالتناقض
بين نفسه وبين الآخرين إلا ويبتعد عنهم استعداداً للهجوم عليهم والثأر
منهم وأنه لا يشعر بأن عدواً من أعدائه التاريخيين يساعده في تأمين شيء
من هدفه وإلا ويقلب الصفحة معه ويتعلق به وكأنه ولي حميم وهذه هي من
مصاديق التعايش مع الآخرين.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |