حاولت بعض الخطابات الفكرية العربية المعاصرة مقاربة مصائر العالم
العربي في إطار ثنائية الأصولية والحداثة, وهي ثنائية سجالية وتصادمية
بطبعها وسياقاتها الفكرية والسياسية. وتميل هذه الخطابات إلى هذه
المقاربة وترغب إليها نفسياً وذهنياً, وكأنها لا تريد أن تحيد عنها, أو
تخرج عليها, أو تتوقف عندها وتعيد النظر فيها, وفيما إذا كانت بحاجة
إلى فحص ومراجعة.
وأظن أن هذه المقاربة لم تعد فعالة في تكوين المعرفة بطبيعة المأزق
الخطير الذي وصل إليه العالم العربي, وفي انتشاله من أزماته الخانقة,
وإخراجه من الانسداد الذي يغلق عليه أبواب الأمل بالمستقبل.
ويتجلى في هذه المقاربة ويتكثف الطابع الأيديولوجي, الذي يحكمه منطق
التعالي, والتظاهر بتملك الوعي, والميل إلى تكريس التفاضل, والرغبة في
تصنيف الناس إلى حداثيين وأصوليين, بغض النظر عن صدقية هذا التصنيف
الفعلية والواقعية.
في حين أن النظر لهذه القضية, بعد كل ما جرى ويجري في العالم العربي
من تحولات وتغيرات جعلته في قلب العاصفة, يتطلب منا أن نتجاوز ونتخلص
من منطق التبسيط, ومنطق الاختزال الشديد والمريح, الأمر الذي يعني أننا
بحاجة إلى قراءة غير أصولية من جهة, وغير حداثوية من جهة أخرى نسبة إلى
الحداثيين, مع شرط الاستحضار المعرفي لهاتين القراءتين, وذلك لأننا
بحاجة إلى قراءة لا ينبغي أن تتسم بالأحادية والنهائية, وبمنطق الغلبة
والانتصار.
فهل مصائر العالم العربي معلقة فعلاً بين الأصولية والحداثوية؟ وهل
يجوز أن نعلق هذه المصائر في نطاق هذين الخيارين, ونضيق استشراف
المستقبل بالدوران بينهما؟ وهل كانت حركة التاريخ تصعد وتهبط, تتقدم
وتتراجع دائرة بين هذين الخيارين فحسب؟
لفحص هذه القضية والنظر فيها, يمكن التساؤل هل الأصولية كما تجلت في
المجال العربي هي ظاهرة خالية ومتجردة تماماً من الحداثة؟ وهل الحداثة
كما تجلت في المجال العربي هي ظاهرة خالية ومتجردة تماماً من الأصولية؟
أم إننا أمام أصولية فيها من الحداثة ما يمكن أن نختلف على نسبتها
صعوداً وهبوطاً؟ وإننا كذلك أمام حداثة فيها من الأصولية ما يمكن أن
نختلف على نسبتها أيضاً صعوداً وهبوطاً؟
والسؤال كيف يمكن لنا أن نتوثق من هذه الجدلية ونبرهن عليها؟ وما
الفائدة منها؟
لا شك أن تحديد مفهوم الأصولية هو الذي يقربنا من توثيق هذه الجدلية,
وإمكانية البرهنة عليها, فما هو مفهوم الأصولية وكيف نفهمها؟
من الممكن القول أن الأصولية والأصوليات عموماً مهما تعددت وتباينت
في صورها وأنماطها أنها تستند على منطق يتصف بالصرامة التي لا تقبل
المرونة, وبالنهائية التي لا تقبل المراجعة, وباليقين الذي لا يقبل
الشك, ولا مجال في هذا المنطق إلى المساءلة والتعدد والاختلاف, ومن
السهولة في هذا المنطق الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة والتامة وحرمان
الآخرين منها, وبالتالي فإن أصحاب هذا المنطق هم الذين يمثلون الطرق
المستقيمة, والآخرون في نظرهم يمثلون الطرق غير المستقيمة, وأنهم على
هدى وغيرهم في ضلال مبين.
واستناداً على هذا الفهم, أليس من الأصولية محاولة فرض الاتجاه
الأحادي الصارم والثابت, والادعاء بأن ليس أمام الأمة من خيار للتقدم
والمدنية إلا عن طريق إتباع النموذج الأوروبي وبشكل يقيني وكامل, وبدون
تردد أو مناقشة! على طريقة ما ادعاه فرح أنطون في كتابه (ابن رشد
وفلسفته), من الدعوة إلى مجاراة تيار التمدن الأوروبي الجديد, وإلا
جرفنا هذا التيار جميعاً, وجعلنا حسب رأيه مسخرين لغيرنا!
وعلى طريقة ما ادعاه سلامة موسى كذلك, حين يرى أن علة الأقطار
العربية, ورأس بلواها أننا مازلنا نعتقد أن هناك مدنية غير المدنية
الأوروبية, وليس هناك حسب رأيه حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من
الحضارة الأوروبية!
وفي الجهة الأخرى, يرى الباحث الألماني فريدمان بوتنر أستاذ العلوم
السياسية ومدير معهد سياسات الشرق الأدنى بجامعة برلين الحرة في
ألمانيا, أن الظاهرة الأصولية كرد فعل مضاد للحداثة هي جزء من هذه
الحداثة, وبالتالي فهي تاريخياً ظاهرة حديثة.
ومثلت هذه الفكرة الفرضية المركزية لدراسة أنجزها بوتنر بعنوان
(الباعث الأصولي.. ومشروع الحداثة), نشرتها باللغة العربية مجلة
المستقبل العربي الصادر في بيروت, أبريل 1997م, وهي الفرضية التي يرى
بوتنر أنها لم تحظ بالاهتمام في الدراسات السابقة بصورة لائقة.
ما أردت قوله في هذه المسألة, أننا في المجال العربي أمام أصولية لا
تخلو من الحداثة, وأمام حداثة لا تخلو من الأصولية.
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات
المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة
www.almilad.org |