دور مؤسسات المجتمع المدني في التنشئة السياسية

ناجي الغزي

مفهوم التنشئة السياسية

يقول هايمن" Hyman في كتابه (التـنشئة السياسية) بأنها: عملية تعلم الفرد المعايير الاجتماعية عن طريق مؤسسات المجتمع المختلفة.

والتـنشئة السياسية هي جزء من التنشئة الأجتماعية والتي من خلالها يكتسب الفرد الاتجاهات والقيم السائدة في المجتمع, كما تعتبر التنشئة السياسية وسيلة لتصحيح الثقافة السياسية المنحرفة في المجتمع، وخلق ثقافة مدنية جديدة ومتحضرة للعبور بالمجتمع من حالة التخلف إلى التقدم.

والأنظمة السياسية الديمقراطية والدكتاتورية تحاول ان تؤثر في التنشئة السياسية للفرد من خلال أستهداف أفكاره عن طريق غرس معلومات وقيم وممارسات يستطيع من خلالها تكوين مواقفه واتجاهاته الفكرية والايدلوجية التي تؤثر في سلوكه السياسي. وهذا السلوك يلعب دورا في فاعلية الفرد السياسية في المجتمع, لذلك تلجأ الانظمة السياسية الحاكمة الى خلق قيم وأيدلوجيات مقبولة ومشروعة لها في عيون شعوبها.

وبما إن التنشئة السياسية هي عملية تأهيلية وتعليمية وتثقيفية يخضع لها الفرد من أجل تفعيل دوره في المجتمع, لذا ينبغي أن تتحمل مسؤلية التنشئة السياسية للفرد مؤسسات المجتمع المدني, لكونها مؤسسات مستقلة. وبذلك تملك القدرة على التفاعل الايجابي في التعاطي مع مفهوم التنشئة السياسية كمادة تثقيفية, من خلال الدور الذي تتقلده داخل إطار المجتمع وعلاقتها بالدولة. وهي مدعوة أكثر من غيرها في عملية التنشئة السياسية, من خلال تأهيل وتثقيف الفرد بأعتباره كائناً سياسياً مؤثراً في المجتمع ضمن معطى سياسي معين, ويأتي ذلك نتيجة التطور والتحول السياسي للمجتمع وطبيعة نظامه السياسي السائد ومعاييره الايديولوجية ومرونته الديمقراطية والانفتاح محلياً وإقليمياً وعالميا.

وعندما تتنحى مؤسسات المجتمع المدني عن دورها المهم في تثقيف التنشئة السياسية, فالتنافس السياسي الحاد للقوى السياسية والصراعات الحزبية والطائفية تكسب جمهورها ثقافة عصبية ترتكز على اقصاء الاخر, فتكون التنشئة السياسية قائمة على ثقافة العنف. وبذلك تنحرف مسارات التنشئة السياسية عن معايير القيم الصحيحة الى القيم الضيقة التي تساهم في تهشيم الثوابت الوطنية والولاء المطلق للوطن. وهذا الانحراف يشكل تباين وتناقض في القيم والسلوكيات السياسية لمكونات المجتمع, والذي يمهد الطريق الى العنف السياسي وبالتالي يدخل البلاد في فجوى سيكولوجية كبيرة تجعل المجتمع غير مستقر سياسياً وأمنياً.

مكونات التنشئة السياسية

من خلال تحديد مكونات التنشئة السياسية يمكننا معرفة طبيعة النظام السياسي وخصائصه وأهدافه كما يمكننا تحديد العلاقة بين مكونات النظام السياسي للبلد. وثقافة التنشئة السياسية السائدة تساعد على فهم نمط العلاقة بين مكونات النظام السياسي القائم في المجتمع, من خلال قراءة الأطر الفكرية والايديولوجية. ومن هذه المكونات هي:

1. ثقافة الفرد المكتسبة

 إن ثقافة الفرد المكتسبة هي احدى مكونات التنشئة السياسية. ومن خلالها يستطيع الفرد أن يكتسب التنشئة من ثقافة وسلوك وقيم المجتمع الذي يعيش فيه. ويكتسب الفرد تلك الثقافة في السنوات المبكرة من حياته وتنغرس في ذاته وقد تتطور تلك القيم والسلوكيات نتيجة تطور المجتمع ونظامه السياسي. وتختلف أنماط التنشئة السياسية للفرد نتيجة لاتساع مداركه وتنوع ثقافاته فيدخل في مرحلة التقييم والمقارنة بما كسبه وأكتسبه من التجربة العمرية ومجالها المعرفي ومراحلها ومحطاتها. والتأثير الثقافي للمدرسة والعلاقات مع الاسرة والمجتمع ووسائل الاعلام والاتصال.

2. ثقافة الفرد الذاتية

 إن ثقافة الفرد الذاتية تختلف من انسان لآخر تبعاً لشخصيته الذاتية ومحيطه الاسري والمجتمعي وتحصيله العلمي وثقافته المنتقاة. مما يجعل تلك الثقافة جزء من شخصيته فيدافع عنها ويهتم بأمرها. والثقافة السياسية للفرد تتمحور حول مجموعة من الضوابط المعرفية والاراء السياسية والاتجاهات الفكرية والقيم الاجتماعية تتبلور في علاقة الفرد مع سلطة النظام الحاكم. وهذه الثقافة الذاتية تحكم تصرفات الفرد داخل النظام السياسي سوى كان حاكم ام محكوم. كما تؤثر في سلوك الفرد السياسي داخل اطار المجتمع.

3. ثقافة المؤسسة السياسية

ثقافة المؤسسة السياسية من المكونات الرئيسية للتنشئة السياسية سواء تلك التى تتبناها الدولة (ثقافة النظام) أو الاحزاب السياسية, وهذه الثقافة لاتخرج عن الاطر الفكرية والفلسفية للانظمة والاحزاب داخل السلطة وخارجها. ومن خلال تلك الثقافة تحاول الاحزاب والانظمة الحاكمة ان تفرض قيمها وأيديولوجياتها سوى كانت ديمقراطية أو دكتاتورية , رأسمالية ام أشتراكية. وعلى الرغم من أن هناك فرق شاسع بين التنشئة السياسية في المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات الدكتاتورية , الا أن الهدف هو واحد من حيث المرجعية الثقافية للفرد في المجتمع باعتبارها احد مكونات التنشئة السياسية.

 وثقافة التنشئة السياسية في الأنظمة الديمقراطية تحرص على تحديد الوظائف السياسية للفرد في المجتمع على أساس الايمان بضرورة الولاء للوطن والتعلق به, لكون الاحساس بالانتماء للوطن من أهم المعتقدات السياسية للتنشئة السليمة. كما تحدد ثقافة التنشئة الأطر العامة للعمل السياسي وتغذية المواطن بمعلومات سياسية واجتماعية واقتصادية من واقع البيئة السياسية.

دور المجتمع المدني في التنشئة

المجتمع المدني يقوم على المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتنوعة وهي مؤسسات مستقلة في عملها عن الحكومة, وهي تنظيمات تطوعية حرة تقوم بدور الوسيط بين المواطن والدولة من اجل تحقيق مصالحه وفق معايير القيم الاجتماعية والتعددية الثقافية والفكرية. وتبتعد تلك المؤسسات عن دور السلطة في صناعة قراراتها وسن برامجها التثقيفية, ويتقدم دور المجتمع المدني على دور الدولة في مجال الوعي والتثقيف الاجتماعي والسياسي. من خلال دورها الاساسي والفعال في نشر ثقافة التنشئة السياسية التي تساهم في رفع الوعي السياسي لأبناء المجتمع. وجذبهم الى ساحة العمل السياسي لكي لاتكون السياسة حكرا على الطبقات الحاكمة.

ومؤسسات المجتمع المدني تمثل جوهر المجتمعات الديمقراطية المتحضرة وهي منظمات تقوم بعملية تثقيف وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم السياسي. ومواجهة الازمات والتحولات السياسية التي تؤثر في مستوى حياتهم ومعيشتهم باعتبارها من أهم قنوات المشاركة الجماهيرية. كما تقوم مؤسسات المجتمع المدني في تأهيل وتدريب قيادات سياسية جديدة من خلال غرس ثقافة التنشئة السياسية.

ومن مكونات المجتمع المدني هي:

النقابات المهنية والعمالية والجمعيات التعاونية الزراعية والحرفية والغرف التجارية والصناعية وأتحادات رجال الاعمال والحركات الاجتماعية والنوادي الرياضية والاجتماعية والبيئة والهيئات التدريسية والاتحادات الطلابية والمراكز الشبابية والمنظمات غير الحكومية مثل مراكز حقوق الانسان ومنظمات المرأة وكذلك المؤسسات الصحافية المستقلة وأجهزة الاعلام والنشر غير الحكومية ومراكز البحوث والدراسات والهيئات والمراكزالثقافية والفنية.

والعراق اليوم يخوض تجربة بناء المجتمع المدني في ظل تحول الدولة العراقية من الدكتاتورية الى الديمقراطية , وعلى الرغم من التحديات التي تواجه تجربة المجتمع المدني والدولة العراقية الحديثة , ولكن التطلع الواسع الى تنامي تلك التجربة وتبلور مفهوما لدى المواطن ستخلق تكوينات وتنظيمات مجتمعية تسعى بدورها الى تطوير وتوسيع المشاركة في صناعة القرار, وهذا يحتاج الى المزيد من الوعي والتثقيف السياسي.

لذا فالدور الاساسي الذي تضطلع به مؤسسات المجتمع المدني هو التنشئة السياسية , وهذا يأتي من خلال الايمان المطلق لتلك المؤسسات بالتجربة الديمقراطية وتعميق مفهومها وممارستها والتأكيد على قيمها الاساسية, لكي تكون بمثابة البنية الاساسية لتلك المؤسسات. والبناء الديمقراطي لايأتي الا من خلال التنشئة السياسية السليمة التي تعتمد قيم الديمقراطية مرتكز اساسي لها. وعلى مؤسسات المجتمع المدني تأهيل وتدريب كوادرها على التنشئة السياسية ومن ثم تنطلق للمجتمع لتمنح فرصة كبيرة لتربية وتنشئة الشعب سياسياً وثقافياً.

أثر التنشئة السياسية على المجتمع

أن وجود ثقافة سياسية ناضجة في المجتمع تحافظ على شكل الشكل الدولة ونظامها السياسي. وفي الانظمة الدكتاتورية تتمحور عناصرالثقافة السياسية فى الخوف والارهاب من السلطة، وهنا يكون المجتمع ضعيف الميل إلى المشاركة في صنع القرار، وذلك يعود الى فقدان الثقة بشخصية وذاتية الانسان، وأن شراسة تلك الانظمة لا تتيح الفرصة لظهور المعارضة داخل أطارالدولة. فقد تظهر المعارضة خارج اطار الدولة كأفراز للسطوة والتسلط الدكتاوتري. أما في الانظمة الديمقراطية فيكون واضح أثر الثقافة السياسية والتنشئة السليمة التي تؤمن بالديمقراطية وحقوق الانسان، وهي تؤمن بضرورة بكرامة الانسان وحمايته من مظاهر الخطرحتى لوكان السلطة الحاكمة نفسها. وهي حريصة على بناء الثقة بين الحاكم والمحكوم, في مناخ سياسي ديمقراطي مبني على أساس فكرة قبول الآخر بغض النظر عن توجهاته. وتؤمن تلك الانظمة الديمقراطية بوجود معارضة سياسية تعمل داخل أطار الدولة ضمن قواعد وأطر سياسية موضوعية تقوم بمهمة الرقابة على سلوك السلطة الحاكمة في المجتمع.

وتساهم الثقافة السياسية فى المجتمع بتحديد عناصر القيادات السياسية في السلطة, من خلال الانتخابات البرلمانية والمحلية. بعد أن كانت القيادة السياسية حكرا على حزب واحد وعائلة معينة أو طائفة معينة. وتؤثر التنشئة السياسية على علاقة المواطن بالعملية السياسية وتفاعله معها، فهناك مجتمعات تتميز بقوة الولاء والانتماء للوطن على أساس المواطنة، مما يدفع الفرد الى المشاركة فى الحياة السياسية العامة، و يساهم فى النهوض والتنمية للمجتمع. وفي بعض المجتمعات يساهم الافراد في الاغتراب عن وجه الوطن وعدم شعورهم بالولاء والانتماء, وينظر الافراد للنظام السياسي الحاكم بأنه نظام تسلطي يمارس الوصايا على الفرد ويجرده من كل رغباته وميوله وحقوقه الشخصية. ويشكك الفرد بهذا النظام الذي يعتبره مجرد أداة لتحقيق أغراض أيدلوجية لمصلحة النظام وتقوية سلطته.

والتنشئة السياسية السليمة تؤسس للاستقرار السياسي في المجتمع, والتوافق في الثقافة السياسية بين الجماهير والخب السياسية يساهم في تقريب وجهات النظر ويعزز من حالة الاستقرار السياسي في المجتمع. وفي حالة الاختلاف وعدم التوافق بين ثقافة الجماهير وثقافة النخب يجعل وجهات النظر بين مفترق كبير , وإهمال جانب التنشئة يهدد أمن وأستقرار المجتمع.

* كاتب وباحث سياسي

www.najialghezi.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 6/آيار/2009 - 9/جمادى الآولى/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م