تعيش اغلب الشعوب الشرق اوسطية والعالم الثالث مفهوم العسكرة
بثقافتها وسلوكياتها واساليب تفكيرها منذ مئات السنين، والعسكرة
بمفهومها الفني المحض إستراتيجية تعبوية وتدابير احترازية لا غبار
عليها قد تلجأ لها الدول في حالة الطوارئ او لمواجهة عدوان خارجي او
اختلال في الوضع الامني الداخلي، الا انها تبقى حالة طارئة تنتج بوجود
المؤثر وتنتهي بزواله وبانقشاع الظروف التي شكلت تواجده في دولة
واوجدته في وضع معين.
والعسكرة رغم اهميتها في بعض الاحيان الا انها تبقى ضيف غير مرحب
به على الجسد المدني للمجتمع يرغب برحيلها باسرع الاوقات، حيث يرى اكثر
الباحثين بان المفهوم بشموليته، كمنظومة فكرية ومؤسساتية، هو امتداد
للنموذج (الاسبارطي)، وهو النظام الاول من نوعه، على المستوى التنظيمي
والتعبوي والفكري.
لا نقصد بالعسكرة هو ان يكون الجميع في حالة خضوع للماكنة العسكرية
ومنظومتها الاستخبارية بل ان العسكرة قد تنتج بشيء تتابعي ناتج من خضوع
الدولة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة العسكرية تخطيطا وتنفيذا، وهذا
ما يحدث في عموم دول العالم الثالث تقريبا حيث يعيش حالة من التسلط
المقيت للاجهزة الامنية وتدخلها السافر في جميع نواحي الحياة، بحيث ان
المواطن البسيط لايمكن تعيينه او توظيفه في دائرة ما الا بموافقة اجهزة
الامن والاستخبارت وكذا الحال في الترشح لمنصب معين او حتى التنافس على
مقعد دراسي وغير ذلك، بل ويصبح الفرد في مثل تلك الدول لايخاف من اي
جهاز قضائي ورقابي بقدر خوفه من الاجهزة الامنية والاستخبارية بعنوانها
القمعي لا القانوني.
ان الاجهزة الامنية في الانظمة العربية تعتبر صاحبة القرار النهائي
الذي تبنى عليه الحكومات سياساتها، ولاعجب في ذلك فالكثير من رؤساء تلك
الدول هم جزء طبيعي من المنظومة العسكرية وهو يحمل رتبة معينة فيها، بل
ان الكثير منهم جاءت به تلك المنظومة المرعبة الى سدة الحكم ولم يكن
للشعب اي دور في تنصيبه او اقالته.
لقد شكلت العسكرة في اكثر الدول الشرق اوسطية حالة من الكبت النفسي
للشعوب وطوقته باسوار متعددة اولها التنصت السري والمتابعة (الظلية)
واخرها الاعتقال التعسفي لتكون بذلك ثقافة مستشرية وحالة معاشة يوميا،
اما شعارات الاجهزة الامنية المنفذة لمفهوم العمل العسكري من خدميتها
للمجتمع وحفظها لامنه فهي اصبحت لدى المواطن العربي لاتتعدى كلمات توضع
على الجدران لتغازل مشاعر المسؤولين المهمين على اساس انهم يملكون دولة
مثالية الحكم والادارة.
الحديث بهذا الاتجاه ليس الغاية منه التهجم على المنظومة العسكرية
بمعناها المهني ووظيفتها المقدسة بالدفاع عن ارواح الابرياء وسلامتهم
فهي مؤسسات وطنية في انشائها وتكوينها الا ان اغلبها انحرف عن مهمته
الاصلية ليكون اداة بيد الدكتاتورية لقمع الشعوب ووأد الحريات، فبدلا
من أن تكون في خدمة المجتمع وحمايته أصبحت عبئا عليه، وينخر جسدها،
فترى اغلب المنتسبين فيها يخجل من أن يكشفوا وجوههم للناس، وبشكل خاص
بعد انتهاء مدة الخدمة، مما يعني أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن
المجتمع لا يقبل بسلوكياتهم.
الامثلة والقرائن على السير في سلوك الجانب العسكري المشدد وتغييب
الواقع المدني، كثيرة الا انها بقيت في حالة بعيدة عن الاضواء في كثير
من الدول النامية غير المهتمة بجانب التعددية والحرية، الا في العراق
حيث اخذت طابعا مميزا جعلت اسمه بحد ذاته مرتبطا ارتباطا وثيقا بحالة
العسكر حكما ونظاما.
هذا الفكر والطريقة المستخدمة بشتى الاعذار من قبل الانظمة
المتعاقبة في العراق جعلت منها ثقافة ملازمة لمفهوم الحكومة وغيبت
وابعدت سيادة القانون المدني والتعايش الحضاري وابدلته بثقافة الخوف من
شخوص العسكر ودوائر الامن ايا كان نوعها، وهذا بدوره ولّد خوفا مستشريا
حتى في قمة الهرم لدى الحكومات من الانقلابات العسكرية.
ولتسليط الضوء بصورة مختصرة على اسباب ونتائج ظاهرة العسكرة يمكن
استخلاص مايلي:
الاسباب:
1- التاريخ الطويل من استخدام الالة العسكرية في الاستحواذ على
الحكم والمتمثلة بالانقلابات والمؤامرات والاغتيالات وغير ذلك من
تصفيات جسدية وشخصية.
2- السياسات اللامنضبطة وغير المحسوبة من قبل الانظمة المتعاقبة على
سدة الحكم في التاريخ الحديث والمعاصر والتي تجعل هدفها الاول محاربة
العدو الخفي المتمثل بـ(المؤامرات) التي رافق اسمها جميع الحكومات
المعاصرة والسابقة والسياقات العسكرية المتبعة في ادارياتها.
3- الخطاب المتشدد والمعزز بالقوة المفرطة المستخدم في ادارة امور
الدولة الامنية منها والخدمية على طول الفترات السابقة، بحيث ينظر
الكثير من الموظفين والمواطنين لمدير الدائرة على انه جزء من منظومة
عسكرية.
4- خوض الحروب المتتالية وجعل المجتمع عجلة تدور في فلكها، بدون اي
دور له في ايقادا او ايقافها.
5- تقديم الجوانب العسكرية والامنية ووضعها على امتداد السنوات
السابقة بالمرتبة الاولى قبال الجوانب التثقيفية والقانونية
والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني، مما حدا بالاغلب بالاتجاه نحو
ايجاد فرص العمل داخل السلك الامني والعسكري طلبا للمال والسلطة.
6- عدم الجدية في معاقبة ومحاسبة القيادات الامنية في حال تجاوزها
على المواطنين حتى لو خرقت تلك القيادات القوانين والانظمة.
7- منح الرتب الفخرية لمرات متتالية لشخصيات لاتجيد ابجدية العمل
العسكري والامني وتسنمها مناصب ذات حساسية عالية بامن الدولة عموما
والمواطن خصوصا،مع عدم مراعاة السيرة والسلوك لمن يمنح تلك الرتب.
8- تدني ثقافة المنظومة العسكرية عموما (الا القليل جدا) بحيث يفتقر
اغلب منتسبها الى الثقافة العامة وتصل في مواقع عديدة الى امية بعض
افرادها، والتصاق ظاهرة الفساد الاداري باغلب نشاطاتها.
9- نشر المواقع العسكرية وثكنات الجيش في مراكز المدن او بالقرب
منها، والاحتكاك اليومي لتلك القوات بحياة المواطن بحيث اصبحت جزءا من
التركيبة الاجتماعية ومشهد مألوف في جميع المدن العراقية تقريبا.
10- تغييب ومنع كامل لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات المعرفية
والثقافية في اخذ مكانها الموازي والموازن لمنظومة العسكر وجعل القليل
الموجود منها لسان ناطق باسم الحكومات المهيمنة.
النتائج
1- تراجع كبير وواضح لهيبة القانون والدستور والقضاء المستقل قبال
الشخصية العسكرية والوظائف الامنية عموما، وشياع ثقافة الترهيب بالمنصب
الامني والايحاء بالاعقتال العشوائي والاستقواء بالاقرباء من الاجهزة
الامنية.
2- محاولة القيادات الامنية والعسكرية في اكثر المراحل بالتنافس في
الظهور بمظهر الاقرب للحكم والولاء للحاكم مقدمة ذلك على الولاء للوطن
والشعب والمهمة المقدسة المناطة بها، لاستشعارها باهمية منظومتها في
ادارة دفة الحكم.
3- انتشار الاسلحة المختلفة الانواع بشكل واسع بين فئات الشعب بحيث
قلما تجد فردا لايجيد استخدام السلاح وحيازته، وجعلها رمزا يحتفل به في
المناسبات الاعتيادية وخصوصا في حفلات الزفاف او تشييع الجنائز، مضافا
لذلك استخدام أفراد الاجهزة الامنية للاسلحة التي بحوزتهم خارج نطاق
الواجب.
4- سيادة ثقافة العنف على سلوك افراد المجتمع عموما رغبة بالظهور
بمظهر الاقوى في مجالات الحياة المتعددة والالتجاء الى طرق القوة في حل
اغلب المشاكل، لتصل احيانا بين افراد الاسرة الواحدة، مضافا لذلك كثرة
الحديث عن ثقافة العسكر بين افراد المجتمع يقابله ضمور وخفوت في باقي
العلوم الاخرى كالعلمية والاقتصادية والاهتمامات والانشطة المدنية.
5- ابتعاد المجتمع عن الطابع المدني واندفاعه نحو الطابع التقليدي
المتعصب فضلا عن ترسيخ مبدأ الولاء للشخصية بدلا عن مبدأ المواطنة
وشخصنة الدولة بالحاكم او القائد والزعيم.
6- انتشار واسع وكبير لعصابات الجريمة والارهاب خصوصا بين الفئات
الاصغر عمريا والتي يعاني بعضها من فقر مادي وفكري.
الحلول
1- يبدو جليا انه من اهم المقدمات لحل هذه المشكلة هو وضع الدولة
عموما والحكومة خصوصا هذا الموضوع في اولويات اهتماماتها واهدافها التي
تحاول انجاحها بشتى الوسائل وجعلها مرتكزا مهما لبناء دولة المؤسسات،
ووضع استراتيجية تمتد لفترة طويلة تساهم في نزع النفس العسكري من
المجتمع وابداله بالحالة المدنية، وفسح المجال لجميع المنظمات المدنية
والفكرية لاخذ دورها الريادي في ترسيخ ذلك.
2- تقليل وابعاد التواجد العسكري من المناطق المدنية والاكتفاء
بقوات الداخلية لحفظ الامن فيها وخفض صوت الاعلام العسكري على مستوى
البلاد عموما.
3- تفعيل حقيقي لمؤسسات الدولة التشريعية والقضائية قبال المنظومة
العسكرية وجعل الاخيرة خاضعة لسابقتيها، وهذا بدورة يترجم واقعيا لدولة
المؤسسات وامتداداتها الاخرى.
4- البدء بالتركيز على المناهج الدراسية والاعلام عموما في التحدث
بلسان العقلنة والتشريع القانوني والابتعاد عن كل ما من شأنه التذكير
بالحروب والتاريخ المليء بذلك والتوجه نحو المادة العلمية والانسانية
البحتة، كمقدمة لإفشاء ثقافة التسامح واللاعنف، وتطوير مؤسسات المجتمع
المدنـي، وتحريرهـا مـن بيروقراطيـة السلطة.
5- فسح المجال لمنظمات المجتمع لاخذ موقعها الطبيعي في نشر ثقافة
التمدن المنضبط والقائم على احترام الدستور والقانون.
6- ترسيخ مبدأ المواطنة بثوابت الولا ء للوطن، واشاعة ثقافة الخدمة
المدنية قبال الخدمة العسكرية في مجالات الاعمار والبناء.
7- ايجاد محددات وضوابط العمل العسكري وترسيخ مفهوم المنصب( كتكليف
لا تشريف)، فاحترام الآخرين وخدمتهم هو الهدف الحقيقي للمتصدي
للمسؤولية وان افضل الناس من خدم الناس بغض النظر عن رتبته ومنصبه.
8- تقليص المنظومة العسكرية المنتفخة والمترهلة الى الحجم الفعلي
الذي تحتاجه البلاد للدفاع عن امنها وسيادتها وعدم جعلها مساحة للتشغيل
او لكسب الارزاق.
9- التركيز على ثقافة المنظومة العسكرية بذاتها ورفع مستوى افرادها
ليتماشى وطبيعة الوضع الجديد والاستفادة من الخبرات العسكرية للدول
المتقدم في الانضباط العسكري.
10- ابتعاد الاحزاب عموما عن طريقة العسكرة المستخدمة في هيكليتها
الداخلية وبالتعامل مع افرادها والمجتمع عموما، والاستفادة من طريقة
الاحزاب العالمية في ادارة شؤون البلاد.
لقد اعطت الدول المتقدمة في حقوق الانسان و المدنية مثالا يحتذى به
من الطريقة الحديثة في ادارة شؤون البلاد وان الدستور والقانون هما
المظلة التي يستظل بها كل مواطن، فالولاء لا يأت بالخوف، بل بالأمن
والأمان، ومن يعتقد أن العصا الغليظة على رؤوس العباد، والقيود الأمنية
حولهم، ولجم الناس من خلال تقارير المخابرات والمخبرين، والتضييق عليهم
في حلهم وترحالهم، سيخلق حالة الطمأنينة للنظام والاستقرار، فهو مخطأ
بل وقد تسير بالحاكم والمستخدم لها الى طريقة الهاوية.
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com |