الإجماع حول الحداثة السياسية

أحمد شهاب

تكمن أحد معوقات تطور المفهوم الديمقراطي في طبيعة النظام التربوي السائد في العالم العربي، والذي يحول دون إحداث تغيرات واسعة النطاق على مستوى آفاق وتطلعات الأفراد، ويكرس الميل العام نحو الانغلاق على الذات والقلق من الانفتاح على الأفكار والمدارس والآراء الأخرى، إذ يمكن ملاحظة حجم إغفالنا عن صناعة أفراد يمتلكون القدرة على التعاطي مع الشأن العام بالكثير من المرونة والانفتاح الفكري، وحرمانهم من فرص نسج خيوط التواصل والتفاهم والتصالح فيما بينهم.

إن المرونة هنا هي بوابة الإبداع والإنتاج في جميع المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية، وهي قاعدة التحول الأساسية في المجتمعات بصفتها المناخ النفساني والثقافي الذي يهيئ الأفراد لاستيعاب وتطوير القوالب الفكرية والاجتماعية والسياسية الجديدة. فالمرونة الفكرية هي المقابل الموضوعي للتصلب والتشدد، والتعبير البالغ عن الموقف المعرفي الرافض للانغلاق على الذات والأفكار والمشاريع، والمضاد الحيوي من خطر التعصب للرأي والمعلومة.

تمنح المرونة الفكرية لأفراد المجتمع مقومات التألق وإنتاج الأفكار الحديثة عن طريق الانفتاح على مختلف التيارات والمدارس الفكرية، وتقليب أوجه الآراء وقراءتها بتجرد وموضوعية لاستخلاص زبدة الحقيقة، وهو ما يتيح أمامهم الفرصة لتقديم وجهات نظر جديدة ومختلفة في عالم الأفكار بعيدا عن العناوين التقليدية الثابتة والأطر الجامدة. وتدفع المرونة الاجتماعية من جهتها الأفراد للتعاطي مع المجتمع بتقسيماته وتنوعاته بالكثير من التفهم والقابلية لاكتشاف نقاط الاشتراك بين التوجهات المختلفة، وتقليص نقاط الاختلاف والتباين، بما يوسع من سبل التعاون والتفاهم الأهلي والوطني حول مختلف القضايا المطروحة، ويسهم في رفع قيمة المصالح العمومية على المصالح الشخصية.

أما على مستوى الفكر والحراك الديني، فإن المرونة الفقهية تدفع المتصدين من فقهاء ورجال فكر مختصين إلى ربط تطبيق الأحكام الشرعية بالمصالح والمنافع العامة، ودفع الفكر الديني للتفاعل الإيجابي مع كل ما يستجد في حياة المجتمع من هموم وقضايا معاصرة، والبعد عن حالة الانعزال في أحلام بعيدة عن أرض الواقع بفتاوى طوباوية لا صلة لها بمجريات الحياة اليومية والتحديات المستمرة التي يعيشها المواطن في مجتمعه.

من الملاحظ أن مجتمعاتنا الشرقية بصفة عامة لا تربي الفرد على اكتساب فضيلة المرونة، وبعض المدارس الفكرية الدينية والسياسية تعتبرها نوعا من العار الذي لا يليق بالمناضلين أن يقدموه أمام المختلفين معهم أو تحت ذريعة الانسياق مع المتغيرات والحاجات المعاصرة، وتدفع بأتباعها قسرا نحو ذميمة التحجر والتصلب، وهو ما يؤدي في الغالب إلى تلاشي الجهود المضنية التي يبذلها المفكرون والمصلحون في مختلف ميادين المجتمع، ويعرقل دعواتهم الإصلاحية خلف ضجيج ثقافة التعنت والتحجر.

على المستوى السياسي، فإن المرونة الفكرية من شأنها أن تمنح الفاعلين في الحياة السياسية اليومية اللياقة الفكرية اللازمة لإحداث حالة من الإجماع الوطني حول النظام السياسي ومشروع الدولة الوطنية. كما أنها تتيح للفرقاء في الساحة المشتركة التوصل إلى قواعد عمل متفق عليها، من المؤكد أن طبيعة الحراك السياسي في كل المجتمعات، بلا استثناء، يغلب عليه الاختلاف والتباين، فالمشاريع والأهداف والبرامج التي تحرك الناشطين في الحقل السياسي متنوعة، وتقوم كل منها على رؤية مختلفة لمشروع الإصلاح.

لكن ثمة فرقا شاسعا بين الاختلاف حول البرامج والمشاريع السياسية في المجتمعات المرنة التي يتحلى أفرادها باللياقة الفكرية والسياسية، وبين الاختلاف في المجتمعات المتصلبة التي يتصف أفرادها بالتعصب الفكري والانغلاق على الذات. فالأولى تمتلك القدرة على صناعة تقاليد سياسية ثابتة تحكم العمل السياسي برمته، وتضبط إيقاع الحراك المحلي وفق قيم وطنية متفق عليها بصورة جماعية، بينما تعجز الأخيرة عن صناعة مثل تلك التقاليد، وتستمر في استهلاك التجربة السياسية الذاتية ومعاودة إنتاجها من جديد بأخطائها وعلاتها، وإن تم ذلك على حساب مشروع التنمية في البلد.

إن من أهم مقتضيات الدخول في زمن الحداثة السياسية والإبحار في عالم التنمية، هو إحلال قيم وأنماط عمل جديدة، بدلا من القيم السائدة، وهو أمر يتعلق بالتغيير الثقافي والاجتماعي في الدرجة الأولى، وهذا الصنف من المتغيرات لا يمكن أن يتم بالقسر والقهر والقوة، ولا عبر قرارات حكومية فوقية، وإنما من خلال إرادة جماعية وقبول شعبي، أو بالأحرى من خلال قدرة قيم المشاركة والعدالة والتكافؤ الوطني على الاندماج في الثقافة العامة.

* كاتب من الكويت

ahmed.shehab@awan.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/نيسان/2009 - 17/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م