كـنـز الله في الأرض هو الإنسان الذي خلقه وكرمه ووهبه العقل
والتفكير والمشاعر والعواطف، كما انه الثروة الحقيقية للمجتمعات
والبلدان لأنه من يتحكم في التطوير والإصلاح والتنمية ودفع عجلة الحياة
نحو مسارات النهوض والتقدم.
ولا يمكن ان يكون الإنسان فاعلا في مجتمعه ومؤثرا في بيئة عمله إلا
بمعرفة مسببات سلوكه وادراك حاجاته ورغباته، ومن ثم يتضح آثار مختلف
الافعال والتصرفات في محيط حياته الداخلية والخارجية.
وتمتلئ تلك الحياة بالكثير من الأحداث والظروف، ويتخطى الفرد عبر
حياته مراحل عدة ومواقف صعبة، ويتخذ خطوات وقرارات مصيرية، ويسخر الله
له الوقت والمال، ويمنحه القوة والأولاد والعمل، وكل ذلك يحتاج إلى
تخطيط وتنظيم وترتيب وتقييم ليصل في النهاية لمرحلة التنفيذ على أرض
الواقع، وتلك هي مرتكزات الإدارة لان كل حركات وأفعال وتصرفات الإنسان
تصدر عن إدارة والتي تعتبر ضرورة في حياتنا وتتمثل في عدة أشكال كإدارة
الوقت، وإدارة الذات، وإدارة العواطف، وإدارة السلوك، وإدارة العلاقات،
وإدارة المصروفات.
وتلك الإدارة علم وفن في نفس الوقت ويمكن تسميتها بإدارة الإنسان
الذي هو باختصار عملية بناء الإنسان بشكل صحيح من خلال تغذيته بالقيم
وصقل خبراته وإيقاظ قواه واستغلال قدراته وتنظيم أعماله ورسم خريطة
تفاعله مع أفراد ومؤسسات المجتمع وترشيد وقته وتعظيم أدواره المهنية
والأسرية الفاعلة، كما إنها تهدف لضبط النفس الإنسانية والعمل على
مخالفة الميول الغريزية الكامنة في داخلها وإقرار مبدأ حسن التوجيه
والإرشاد، لان إطلاق العنان لميول النفس المتزايدة يؤدي إلى اضمحلال
نوازع الفضيلة وتوسع الرغبات الطائشة والسير وراء الملذات وتغيب مفاهيم
التنظيم وتحييد الأهداف وضياع الالتزام بالمسئولية، من ثم يواجه
الإنسان سيل من الأخطاء والذنوب والسلوكيات المدمرة لحياته ولحياة
والآخرين.
وهذا المفهوم الجميل هو مزيج من عدة علوم ومعارف كعلم التربية وعلم
النفس وعلم الإدارة وعلم الاجتماع، كم إن تعاضد أدوار الأفراد من آباء
وأمهات ومثقفين ورجال تربية وعلماء دين من جهة، وتكامل وظائف المؤسسات
الاجتماعية والتربوية والرسمية من جهة أخرى يساهم في غرس هذا المفهوم
في عقول وقلوب الأجيال و فئات الشباب.
لكن عندما يفقد الآباء والأمهات وأهل التربية والإداريين والمسئولين
في جميع المؤسسات أساليب هذا الفن، كيف تريد منهم أن يصدرون للمجتمع
والدول أفراد صالحين ذوو صفات قيادية ومهارات علمية وأخلاقيات رفيعة
لان الجواب بكل بساطة فاقد الشيء لا يعطيه.
وهذا النمط الجديد غائب عن الفئتين فئة الأفراد وفئة المؤسسات
كالمؤسسات الرسمية والاجتماعية والتعليمية في عالمنا العربي لان جل تلك
المؤسسات لا تمتلك أدواته ومهاراته، بل جزء منها يتعامل مع الإنسان
وكأنه آلة ويعمل على توجيه مزيد من الضغط عليه والتعامل معه كونه طاقة
جسمانية يجب توظيفها بالإكراه مع نسيان أنظمة وأساليب الإدارة الحديثة
وطرق التعامل والتواصل، فعلى سبيل المثال بماذا يمكن تفسير انتشار
ظواهر مثل ظاهرة الواسطة أو المحسوبية في الدوائر الحكومية التي هي
تغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة واستمرارية الروتين
والبيروقراطية وانخفاض الإنتاجية ورفض أي محاولة للتغيير والتطوير، كل
تلك مشاكل مستشرية في المؤسسات الإدارية خصوصا المؤسسات الرسمية حيث لا
نجد مفاهيم السلوك الإداري وتكريم الذات وترسيخ الأخلاقيات وتعزيز
الحوافز التشجيعية وإقرار مبادئ الثقة والاحترام والتفاهم المتبادل بل
تنـعدم ثقافة الحوار والنقاش وتتحكم الأوامر وتتعاظم سلطة الفرد
لتتوالد بعد ذلك الأمراض في كل أجزاء المؤسسة.
وما ينطبق على المؤسسة الإدارية ينطبق أيضا على المؤسسات التربوية
والاجتماعية والأسرية، بحيث لا يمكن أن يمتلك الإنسان عندئذ أدوات
ومهارات هذا المفهوم الرائع بسهولة ويسر لان الانسان صنيعة بيئته
وظروفه وعاداته المكتسبة.
أخيرا إن اصل إدارة الإنسان هو إدراك الإنسان لذاته وما يفعل
ويتصرف لان الأزمة بالأصل اليوم هي أزمة أخلاق وقيم، وان المنشأ الأول
لهذا الاتجاه هو تربية النفس على القيم والمبادئ والواجبات واتباع
برامج حسن التدبير وإعادة الاعتبار للإنسان وقيمته وقدره واستشعار
معاني الحياة وهدفية الوجود وصنع النظام، ومن ثم كل ذلك يتطلب ضرورة
العودة أولا إلى النفس الإنسانية باعتبارها المصدر الأعظم للطاقة
والتغيير، لان حسن إدارة عالم الإنسان الداخلي يتيح للعقل أن ينتج وأن
يبدع وأن يبتكر بلا حدود ويساهم في عملية الإنتاج الفكري والمادي
والعاطفي ويواصل عملية الإصلاح الذاتي لينعكس ذلك على عالمه الخارجي من
خلال تصرفاته السليمة في بيئته ومجتمعه ومقر عمله ومكان دراسته.
* كاتب وباحث من عمان |