سايكولوجية البشر تحت خط الفقر.. العراق انموذجاً

عبد الكريم العامري/باحث اجتماعي

شبكة النبأ: تستخدِم ادبيات الامم المتحدة تعبيرا مهذبا في تصنيف مستويات المعيشة من الناحية الاقتصادية، فتطلق على الجماعات المعدمة ماديا تسمية (ما دون خط الفقر).

وككل ماهو إحصائي، فإن هذه التسمية تفقد الظاهرة خاصيتها الإنسانية المأزقية، حيث تأتي على شكل تجريد بياني رقمي يغطي على كارثة الفقر، والحديث يجري عن بيانات وأرقام ونسب ومعدلات وليس عن بشر.

هذا التعبير يغطي المسؤولية عن المصير، ويجعل الأمور طبيعية، مادام لكل ما هو رقمي حدا أقصى وآخر أدنى، ومن خلال التفاقم المتصاعد للداخلين في بوابة خط الفقر، حيث الإعلام يطل علينا كل يوم واقع أكبركارثية وفداحة،لتضع المشاهد إمام حالات ذات طبيعة صادمة للشعورالإنساني.

أما خبراء الاقتصاد والاجتماع فقد وضعوا معادلة مهمة لرفاهية الشعوب والدول. تقول المعادلة:( ان كل زيادة في السكان بنسبة 1% لابد أن ترافقها زيادة في الدخل بنسبة 5% كشرط أساسي لرفاهية الشعب). الملاحظ ان الطرفين الاساسيين للمعادلة هما: (السكان/ الدخل الوطني).

ومن خلال مراجعة للواقع السوسيولوجي العراقي نلاحظ مجموعة من العوامل لعبت دورا بارزا في خفض وتمزيق معدلات الدخل الوطني الى مستوى متدني، مقابل زيادة سكانية عالية، حيث برزت ظاهرة الفقر. ومن أهم هذه العوامل:

1 ـ الحروب والمنازعات الداخلية والخارجية.

2ـ  عسكرة الاقتصاد العراقي سابقا وحاليا.

3ـ الاعتماد على النفط، اقتصاد وحيد الجانب.

4ـ  إهمال وتردي الزراعة والصناعة والتجارة والموارد المائية والطبيعية وتجفيف الاهواروالمسطحات المائية وعدم استثمار طرق المواصلات والسياحة الدينية

5 ـ الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد اجتياح الكويت.

6ـ هجرة وتهجير الادمغة والملاكات العلمية والعملية والفنية وأصحاب رؤوس الأموال والاستثمار. 

7ـ انخفاض قيمة الدينارالعراقي والتخلي عن العملات المعدنية وطبع عملات قابلة للتزوير مع المحاولة المستقبلية لحذف أصفار من العملة العراقية الحالية.

8ـ محاولة خصخصة القطاعات الحكومية وتسريح عمالها.  

9ـ تجميد الأرصدة العراقية في الخارج وعدم إطفاء كل الديون.

10ـ بعض الدوائر انحلت والعامل سابقا هو العاطل حاليا.

11ـ الفساد المالي والإداري بأنواعه.

12ـ الإرهاب بإشكاله كافة.

13ـالنهب والسلب والسرقة المنظمة وتفريغ المصارف وحرق وتخريب العمران والإنسان.

14ـ محاولة تقليص البطاقة التموينية.

خلَّفتْ هذه المظاهر:

أـ حصدت ماكينة الحرب اكبرعدد من الشباب حصرا بكل مؤهلاتهم وهم الثروة البشرية القادرة على إعادة البناء المادي والمعنوي مع مخلفات وظواهر العنوسة والأرامل والمطلقات شرعا والمفترقات طوعا والأيتام والمعوقين والمفقودين والمهجرين والمصابين بالإمراض النفسية والعقلية.                                       

ب ـ انهيار الوعي  الصحي والتعليمي والثقافي وانخفاض الروابط الدينية  وتشوش القيم العشائرية واستفحال طبقة (الحواسم) وحملة الشهادات غير الأصولية ونمو طبقة السماسرة  (بتاع كلّو).

ج ـ استسهال تقمص السلوك الإجرامي كالقتل والخطف والسرقة وتهريب الإنسان والمخدرات مما يعني شيوع ثقافة الإرهاب.                               

دـ استقبال وتبني الوافد من قيم الفضائيات والموبايل و الانترنيت والأفكار المنفتحة عبر وسائل الإعلام أو السفر والهجرة.

ان الفقر عندنا تهديد للأمن الاجتماعي. الفقير العراقي يختلف عن غيرة في مجتمعات العالم. الفقير ممكن ان يسمعك قطعة موسيقية أو يبيع الورد.. بينما يتراوح عندنا بين الفقير المستكين المهمش الذي  نقول عنه (رجل الدجاجة ما يحله) لايملك سوى كسرة خبز ومهفة كارتونية في الصيف،وفجأة يصبح قاطع طريق سلاب، نهاب،غلاب،قتال، حيال لايتردد من قتل أخيه أو زوجه وبنيه أو استباحة حرم جامع أو مرقد ولي صالح أو ضريح إمام من بيت النبوة المطهرة، اوالهجوم على مركز للشرطة أو ثكنة عسكرية أو دائرة حكومية أو يبيع دينه وشرفه أو يتناول المخدرات ويتاجر بها،ويلعب القمار ويرتاد علب الليل ويشتري السيارات الفارهة ويسكن الدور المؤثثة أو يعقب المعاملات الحساسة ولسان حاله يقول (هي فرصة  إضرب ضربتك...

جحافل هؤلاء المستغنى عنهم تتزايد، وانهيارات انسانيتهم تنحدر رويدا رويدا، مقابل انحسار النماذج الإنسانية القدوية  في محيطه التي من الممكن ان يتأثر بها إيجابا وهو يقف أمام نماذج مجتمعية كانت بمعرفته أذل منه، وهم الان على مد بصره يملكون شاهقات المباني والمساكن والفنادق والمعارض المتنوعة ولا سؤال من أين لك هذا؟

مافيات تهريب الفقراء من البشر، الباحثة عن أمل الحصول على الحدود الدنيا من مقومات العيش من خلال ما تدفعه من كلفة التهريب، والبقية يتم إغراقها أو تركها سائبة على السواحل وفي الحاويات، ومن أفلت فمصيره أقرب الى العبودية.

الأمر يتجاوز الكلام في الفقر، الذي قال عنه الإمام علي (ع ): ( لو كان الفقر رجلا لقتلته) وقال فيه أيضا: (الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن).

كذلك يتجاوزعجب الصحابي الغفاري الذي قال: (عجبت لمن لايجد قوتا في بيته لايخرج شاهرا سيفه)... مرورا بالفلسفات الوجودية ونظرياتها الاجتماعية في مفاهيم الفقر.

اننا بصدد انهيار ديني قيمي واخلاقي ينسف خدعة الفقير الشريف، عفيف النفس، المتدين المقتنع. ترخص عنده القيمة الشرفية لدرجة التلاشي، حيث تغيب الكرامة، ويفتح الباب على مصراعيه لمختلف إشكال انحطاط الوجود: مثل الجريمة والمخدرات والدعارة والتصدع الأسري والعنف ضد المرأة والرجل وتسيب الاطفال والطائفية.

اننا بصدد فئات أكثر من كونها مهمشة، تعيش متكدسة في أحزمة البؤس والشقاء في بيوت الصفيح أو مجتمعات المهجرين أو سكان الخيام اللاجئة، والتي لا تدخل أصلا ضمن مخططات وخدمات البلدية البسيطة، ولا يحسب لها حساب حتى في نثريتها.

كل جسد فيها يتحول ويتعرض الى فقدان الحرمة، والمرض، في محاولة للحصول على الممكن، حالته في سجال ينساب لتعرية فعلية لأسطورة الفقير الشريف، وسط تلاشي مرجعياته الذاتية والقيمية تحت وطأة الحاجات الأساسية.

يعيش في الحاضروإمكانات اللحظة الراهنة الهاربة بلا جغرافية ولا مشروع صناعة تأريخ ومصير،  يتكيف لهذه الحالة القيمية اللزجة الضحلة يقتنص ما يمكن من استهلاك او لذة عابرة، بمختلف الوسائل التي تصبح كلها مباحة:عنف، احتيال، التصرف في حرمة الجسد، خطف.

عند هذا الحد الفاصل يصبح الفقر عنصر تهديد لحصانة المجتمع، ويتحول الى قنابل موقوتة لتتفجر حين تهتز نواميسه الداخلية وقيم الدين والجيرة وحين تتراخى قبضة العدالة والعصا الأمنية البطاشة.

فقراء العراق محرومون من القدوة الحسنة، والتعليم والصحة والثقافة والأمن والاستقلالية والمشاركة في قضايا المجتمع وصناعته.

وقد وَجدَ أحد هؤلاء الفقراء نفسه اخيراً، أمام لوحة مزخرفة مكتوب عليها: عيالي الفقراء أُدخلهم النار متى أشاء، وبعد مسافة وجد لوحة أخرى مكتوب عليها: أنا الطبيب أعالج الفقراء، ولوحة أخرى مكتوب عليها: أنا المحامي أدافع عن الفقراء، ولوحة أخرى عليها: أنا المهندس ابني للفقراء، ولوحة عليها: أنا شيخ العشيرة اجمع فصولات الفقراء، ولوحة أخرى مكتوب عليها: أنا الامريكي أدافع عن مظلومية الفقراء... وبعد لوحات اخرى ونداءات وعناء وجد لوحة فارغة بائسة صفراء، قطع سبابته وكتب عليها بالدم: أنا الفقيرالعراقي ادفع لجميع هؤلاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 31/آذار/2009 - 3/ربيع الثاني/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م