معظم الناس هم أناس آخرون
أوسكار وايلد[1]
مقدمة:
تهتم الفلسفة منذ نشأتها بالكلي، فهي عند أرسطو علم بالكلي وعند
كانط علم الغايات الجوهرية للعقل البشري، ويمثل الكل عند هيجل الحق
وتصر الحداثة على الكوني كمطلب أنثربولوجي حقيقي وتطرح سؤال ما الإنسان؟
باحثة عن منظومة حقوق كونية ينبغي أن يساهم القانون الدولي في حمايتها
وفرضها على الأنظمة السياسية كمبادئ ثابتة لا يجب انتهاكها أو التفريط
فيها احتراما للقاعدة الكانطية التي تقول: عامل الإنسانية في شخصك وفي
أي شخص آخر لا كوسيلة بل كغاية.
لكن الفلسفة المعاصرة باهتمامها بماهو كوني قد أهملت أشياء كثيرة من
بينها أن ماهو موجود هو الجزئي وأن الكلى ليس سوى مجرد مقولة لغوية
ومعطى اسمي أو تصور نظري ومجرد مفهوم وتتناسى أن النزعة العالمية وقع
تحنيطها من طرف عقيدة العولمة بماهي انتصار لنزعة ثقافية خاصة وقع
فرضها على بقية الأمم عن طريق الدعاية والإكراه. زد على ذلك أن الحرص
من طرف الفلسفة الحديثة على البحث عن ماهية الإنسان قد أدي إلى التقصير
في فهم الشأن الإنساني وإسقاط التنوع والتعدد الملازمان الحالة البشرية
من الحسبان وهو ما أدى الصوم عن طرح سؤال من هو الإنساني؟ وهو ما أدى
أيضا إلى احتجاج البعض من الجماعاتيين على ورثاء النزعة الكونية
الكانطية باستغرابهم: أليس اختزال الإنساني فيما هو كوني استخفافا بكل
هوية؟
اذا سافرنا بهذا السؤال من مسرح سلبية الاستغراب إلى مسرح قساوة
الإشكال نحصل على الإحراج التالي: هل يسبب حرص الإنسان على انجاز مطلب
الكوني أزمة في الهوية أم حلا لها؟ ويمكن أن نقسم هذه الإشكالية إلى
مجموعة من الأسئلة الفرعية: ما الفرق بين الإنسان والإنساني والإنسانية؟
وماهو مطلوبنا اليوم؟ هل نشارك في صناعة الكونية أم نعمل على المحافظة
على الهوية؟ ماذا نفعل ان حصل تصادم بين المطلبين؟ هل نضحي بالكونية من
أجل الهوية أم بالهوية من أجل الكونية ؟ ما السبيل إلى كونية لا تستخف
بالهوية والى إنسانية لا تختزل في الكونية؟
ما نراهن عليه هو النظر إلى مسألة الهوية خارج الأفق الذي تتحرك
فيه الملة وتجاوز منطق العرق والثقافة والدين واللغة والوطن والعمل على
بناء هوية كوكبية.
الجوهر:
عندما يحتج أحد المفكرين أمامنا حول إمكانية أن يسبب اختزال حياة
الإنسان في اندراجه ضمن الكوني- سواء على جهة المشاركة أو على جهة
التقليد- أزمة هوية فإن المشكل الفلسفي الذي يتراءى لنا على الفور هو
التوتر بين دعاة الكونية وفرسان الخصوصية في تدبيرهم للشأن الإنساني.
ولكي نعالج هذا التوتر فإن تحديد بعض ألفاظ الموضوع تبدو ضرورة ملحة،
فماذا نقصد ايتيمولوجيا بمفاهيم الكونية والإنساني والهوية؟
بادئ ذو بدء تعرف الكونية على أنها أمر مخالف للخصوصية وقريبة من
العالمية والأممية والكلي والشامل وتدل على مجموعة من القيم التي يحصل
حولها إجماع واتفاق من طرف كل الناس مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، في
حين أن الإنساني هو مجموع السمات التي يشترك فيها الناس كافة وفي نفس
الوقت مكونة للتباين النوعي بينهم وتعكس أيضا حال الإنسان كما هو موجود
في العالم، وما نلاحظه هنا أن الإنساني هو في منطقة وسطى بين الإنسان
والإنسانية، بينما تحدد الهوية على أنها ما ليس غيرية وتشير إلى الوحدة
والتطابق والاستمرارية والانتماء إلى جماعة والوفاء إلى الذات وتعنى ما
به يكون الشيء هو نفسه وهي حقيقة الشيء أو الشخص المشتملة على صفات
جوهرية عينية.
ربما تكون أحسن الخيارات الممكنة لمعالجة المسائل العالقة حول هذا
التوتر بين الكونية والخصوصية الذي يطرحه الموضوع هو إتباع الخطة
التالية:أولا الشروع في فهم كيفية إمكانية اختزال الشأن الإنساني في
الكوني من طرف الفلسفة المعاصرة، والانتقال بعد ذلك إلى تبين المواطن
التي أدى فيها مثل هذا الاختزال إلى الاستخفاف بالهوية، ويمكن في مرحلة
ثالثة افتراض تصور جديد للكونية تحترم فيه الخصوصية ، كما يمكن في لحظة
منطقية رابعة نحت جديد للهوية مشارك في بناء الكوني.
1- مخاطر الكوني على الإنساني:
الواقع أن الكوني يهلك في العولمة وعولمة التبادلات تضع نهاية
لكينونة القيم... فالكوني قد تعولم والديمقراطية وحقوق الإنسان تعبر
الحدود كأي نتاج عالمي كالنفط ورؤوس الأموال[2]
ننطلق في اللحظة الأولى من التفكير في مشكل الموضوع من الخلط الذي
وقع فيه البعض حول معاني الكوني والعالمي والعولمي ونلاحظ بروز نمط من
ثقافة العولمة وعولمة الثقافة تتمثل في نزوع نمط ثقافي واحد نحو بلوغ
العالمية وإقصاء البقية وفي بروز مجتمعات تتقاسم روابط ثقافية وتتعاون
مع بعضها البعض في الهامش والأطراف حيث تصر بعض الدول على تأكيد
خصوصياتها ومقاومة العولمة. يعبر بول ريكور عن هذا التوجه نحو الكوني
بقوله:إننا أمام كونية فعلية للإنسانية فكلما ظهر اختراع في أي نقطة من
العالم إلا وانتشر بشكل كوني...بحيث يمكن أن نتحدث عن علم وعن تقنية
اقتصادية ذات طابع كوني[3].
من هذا المنطلق ينبغي التمييز بين الكلي الذي يفيد المنطقي
والمعرفي وبين الكوني الذي يحيل على الأكسيولوجي والايديولوجي بماهو
مجال هيمنة واغتراب وأفق لعقل الحسابي والفعل الأداتي أين تحل المصلحة
محل المعرفة والنجاعة مكان القيم والحقيقة موضع المعنى وتحدث أزمة
تواصل على الرغم من الإفراط في الاتصال وتطغى الوحدة على الكثرة
والتطابق على الاختلاف.
لكن ان ارتبطت الثقافة بالنفوذ ألا تكون الامبريالية هي النتيجة
المنطقية لادعاء الكونية وألا تمثل الكونية المعولمة خطرا على بقية
العالم كما صرح هنتغنتون؟
هذا الأمر ولد توترا حادا بين نزعتين منتشرتين في الفكر والسياسة
والاقتصاد: النزعة الأولى تتجه نحو الانفتاح والانخراط اللامشروط في
العولمة وتنتصر إلى القيم الكونية أما النزعة الثانية فتصر على صيانة
الهوية من أي اعتداء خارجي وتنهمك في المحافظة على نقاء رموزها
الثقافية من أي اختلاط.
يقول برهان غليون في هذا السياق: إن العولمة تعني خضوع البشرية
لتاريخية واحدة ويقصد أنها عملية توحيد قسري وإكراهي للبشر من الناحية
الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وقد ارتبطت بنشأة نمط جديد
من السيطرة الكوكبية والاختراق الكلياني.
هنا يشير سمير أمين إلى أن معيار التوحيد هو بالأساس اقتصادي، لأن
التباين بين المراكز والأطراف في المنظومة العالمية لا ينبع بالأساس من
الاختلاف الثقافي،فالمعيار الذي يقوم عليه هو معيار اقتصادي، ويعني أن
السوق والمال والإنتاج والاستثمار والتبادل والاستهلاك هي أساس توحيد
المعمورة واختزال للإنساني في كوجيتو البضاعة ومبدأ المردود وتحويله
إلى مجرد حيوان مستهلك وآلة راغبة.
هنا تبدو العولمة ذات اتجاه واحد لا محيد عنه في حين أن الكوني في
طريقه إلى التلاشي لاسيما وأنها حركة تاريخية حتمت على الجميع الانخراط
فيها ونتجت عن كثافة انتقال المعلومات وسرعتها وأدت إلى جعل العالم
أشبه بقرية صغيرة والى هيمنة نمط واحد من الحياة على الجميع. في هذا
الإطار ينبه سمير أمين إلى أن:العولمة تكون أشبه بمشروع هيمنة عالمية
لا يأخذ بعين الاعتبار التفاعل الطبيعي بين الثقافات العالمية وإنما هو
تكريس لثقافة القطب الواحد مقابل إقصاء الآخر.
فكيف سيظهر حال الهوية في ظل تحدي العولمة؟
2- مفهوم الهوية في مهب العولمة:
إن العولمة الاقتصادية والإعلامية وتدويل القانون وتنميط العالم
اقتصاديا لم يؤدي إلى إقصاء التوجهات الكبرى للهوية والمتمظهرة في
مختلف أشكال التعصب القومي والوطني والاثني[4]
الهوية هي الميزة الثابتة في الذات وبعبارة أخرى انها ميزة ماهو
متماثل سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته
أو من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع المختلفة. من هنا تحدد
الهوية بالعرق والدين واللغة والوطن والثقافة والنوع والعالم. ان
الإحساس بالهوية في علم النفس هو الأمر الذي يجعل شخصا ما يشعر بكونه
هو ويبقى في الزمان كذلك وهذا يعني أن الهوية نسق من الأحاسيس
والتمثلات التي يستطيع بواسطتها فرد ما الإحساس بتميزه
وتعرف الهوية الثقافية بأنها الفعل الذي يجعل من واقع ما مساويا
أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر, على هذا النحو فان
هويتي هي ما يجعلني مماثلا لنفسي ومختلفا عن الآخرين
لا تتعلق الهوية بالنحن والجماعة بل ترتبط بالفرد والضمير المتكلم
وفي المنطق هناك مبدأ الهوية وحجرة الأساس في المثالية الألمانية هو
قولة فيخته: أنا يساوي أنا وبالتي هناك ترابط بين مفهوم الهوية ومفهوم
الفردنة بالمعنى السياسي والشخص بالمعنى الأخلاقي والشخصية بالمعنى
القانوني.
نجد في المعجم الفلسفي لفولتير ما يلي: يدل مصطلح الهوية على الشيء
ذاته ويمكن تعويضه mémeté ومن ثمة فإن الذاكرة هي التي تحدد الهوية
وليس التاريخ فقط. نستخرج من ذلك أن الهوية تحمل في ذاتها مفارقة فهي
البعد المميز والمنفرد والأحادي ولكنها أيضا البعد المشترك والسمات
العامة الديناميكية التي تتكون منها جماعة معينة. يقول مانيال كاستيلس:
أعني بالهوية مسلسل انبناء معنى فعل معين انطلاقا من معطى ثقافي أو من
مجموعة منسجمة من المعطيات. لكن فيخته في كتابه مصير الانسان يؤكد على
أهمية العوامل المحيطة بالبشر في تحقيقهم لانيتهم التي لها نزوع داخلي
الى الحرية والكمال اذ يرى: لم أولد من ذاتي، لقد أصبحت حقيقة بفضل
قوة أخرى توجد خارج ذاتي. لكن هذه القوة المعولمة عوض أن تساهم في
تحقيق الذات أدت الى تشظيها وتصحير وجودها عبر عنه جان بودريار بقوله:
كل ثقافة تتعمم تفقد خصوصيتها وتموت.
يقول سمير أمين حول الخطر الذي تمثله دول المركز على دول المحيط:
لقد اتسمت ثقافة العولمة بالقصور فهي ثقافة مبتورة وغير متجانسة علة
مستوى الاقتصاد والسياسة وتعاني من التناقضات الداخلية مما ينجم عنه
اضطراب وقلق لشعوب الأطراف ويضيف في موضع آخر: الخصوصية الثقافية فقدت
طابعها المحلي تحت تأثير ثقافة العولمة وهيمنتها. ويفسر ذلك بأنه في ظل
ثقافة العولمة التي هي نتاج حتمي للرأسمالية فقدت الخصوصية الثقافية
معناها.
بين اذن أن ما نعاني منه في عصر العولمة هو فقدان الهوية وتشظيها
لأنه: في حياتنا العادية نرى أنفسنا أعضاء لمجموعة متنوعة من الجماعات
ونحن ننتمي إليها جميعا. فكل إنسان له مواطنة ومكان إقامة وأصل جغرافي
ونوع جنسي وطبقة وانتماء سياسي ومهنة ووظيفة وعادات لطعامه وذوق موسيقي
والتزامات اجتماعية، الخ. وكل هذا يجعلنا أعضاء في جماعات متنوعة. وكل
من هذه الجمعيات التي ينتمي إليها هذا الشخص في وقت واحد تمنحه هوية
معينة وليس فيها ما يمكن أن يؤخذ على أنه الهوية الوحيدة للمرء ولا
التصنيف الوحيد لعضويته[5].
فكيف يقدر المرء على اختيار محددات الهوية الأفضل؟ ألا تقع كل هوية
في مآزق الذاتي والجماعي والخصوصي والكوني؟ أليست هي نفسها حصيلة تقاطع
خصوصيات مختلفة؟
3- مخاطر الخصوصي على الإنساني:
إن هناك حاجة إلى أن نكون نقديين وقلقين إزاء الرفض المعاصر للكونية.
فالاحتفاء بالجماعات وما يرافقه من مزاعم حول الشرعية التي تتمتع بها
هذه الجماعات والسلطة المنسوبة للفئة التي تسيطر عليها تنطوي على مخاطر
سياسية وأخلاقية...[6]
إن رفض العولمة بجملتها لن يكون فقط ضد الاقتصاد العولمي لكنه أيضا
سوف يقطع حركة الأفكار والفهم والمعرفة التي يمكن أن تساعد كل شعوب
العالم بما فيهم المحرومين من ضحايا العولمة نفسها. البعض تصور الحل
في الانتصار للمحلية ضد الكوكبية والدفاع عن الهوية في مواجهة العولمة
ولكن ذلك لا يعني سوى تبني النظرة القاصرة: أدى التشخيص الخاطئ الذي
يقول أن عولمة الأفكار والممارسات لابد من مقاومتها لأنها تجلب التغريب
دورا ارتداديا للغاية بالفعل في عالم الكولونيالية ومابعد الكولونيالية.
فهذا التشخيص يستحث وجهة نظر إقليمية ضيقة كما يقلل من قيمة التقدم في
العلوم والمعرفة العابر للحدود. والواقع أنه ليس فقط غير مثمر في حد
ذاته لكنه يمكن أن يكون في النهاية طريقة جيدة لكي تسبب المجتمعات غير
الغربية أذى عظيما لنفسها – حتى نفسها الثقافية العظيمة[7].
لقد الأحداث الأخيرة الى القول بأن الهويات الثقافية تمثل سبب
التفكك والنزعات بين الشعوب وتشكل عاملا أساسيا أنتج الانقسام والتوتر
وبالتالي يرى البعض أن تراجع الحضارة الكونية يرجع إلى تنامي نزعة
الخصوصية والانغلاق على الذات وسياسة الانكماش واعتبرت الاختلافات بين
الثقافات المشكلة من هويات متعصبة لانتمائها مصدر رئيسي لحروب الأديان
وسوء التفاهمات بين الجماعات. وقد عبر هنتغنتون عن ذلك بتأكيده أن:أن
الصراع بين القوى العظمى قد حل محله صدام بين الحضارات.
إن التنوع في الثقافات يمكن، بل قد يسمح بسهولة بالتخلي عن
الديمقراطية والحقوق الفردية، كما أن التجاهل المتضمن في الطروحات
المعادية للعقلانية والطروحات المضادة للتأسيسية والموجهة إلى المعايير
الكونية ينطوي على مخاطر العودة إلى عالم أكثر وحشية وفوضوية.[8]
4- التعددية الثقافية سبيل نحو كونية أكثر إنسانية:
إن الكوسموبولوتية كمنظور ثقافي هي أولا وقبل كل شيء رغبة في
التعاطي مع الآخر. إنها موقف فكري وجمالي من الانفتاح على خبرات ثقافية
متباينة، إنها بحث عن التناقضات بدلا من التجانس[9].
ربما ماهو مطلوب هو تحقيق شروط الضيافة الكونية بالاعتراف بحق
الملكية المشتركة لسطح الأرض من طرف كل البشر على قدر المساواة والسماح
للنوع البشري بان يؤسس سلم ابدي يفرضه دستور سياسي كوني وليس إظهار
محبة الناس لبعضهم البعض أو إرساء علاقات الصداقة وتبادل حق الزيارة
الإقامة والتسليم بالحرية كما يقول كانط. إن ما هو لازم لجعل الكوني
يعبر عن ثراء الإنساني هو التضامن الفكري والتعددية الثقافية وتوزيع
العدل وعولمة الحرية والهوية الديناميكية والتنظير إلى احتمالية
الكوسموبولوتية أو ما سمي بالمواطن العالمي. في هذا السياق يرى ريكور
أنه: لا يجب تخيل العلاقات بين الثقافات من خلال مصطلحات الحدود وإنما
من خلال مصطلحات التأثيرات المتداخلة بين مراكز إشعاعها.
ليس بالضرورة كما يرى صاموال هنتنغتون أن يؤدي الانتشار الكوني
للنموذج الاقتصادي على الصعيد العالمي إلى اغتراب ثقافي وذوبان في
الهويات وإلغاء للتنوع والتعدد في الخصوصيات لاسيما و إن انتشار
وانتقال السلع الاستهلاكية من مجتمع إلى آخر لا يحدث تغييرا مهما في
الثقافة الأساسية للمجتمع المتلقي مثلما أن الانتشار السريع للتقنيات
والإعلاميات ووسائل الاتصال لا يخلق اندماج الدول الغربية في القيم
الغربية. لذا ينصح الكاتب الأمريكي بأن نعرف من نحن قبل أن يكون
بإمكاننا معرفة مصالحنا ولكن عوض التنظير إلى الصدام بين الثقافات
والحروب بين الدول ألا يجدر بنا أن نبحث عن الوسائط الاتيقية القادرة
على انجاز تثقاف وتصالحات بين الهويات؟
ينبثق تعريف ماهو إنساني من معرفة الطبيعة الإنسانية في انفعالاتها
وتصرفاتها وإبداعاتها وبعد مقارنته بالغريب والهمجي واللاسوي والآخر
المغاير، وقد تغيرت دلالة الإنسان في الآونة الأخيرة لتقترن بنعت انسية
مغايرة عبر عنها ادغار موران بقوله: إن طبيعة الطبيعة هي طبيعتنا ولتدل
على مشروع ثقافي لامتناهي التعقيد يقدس الإنسانية التي تناهض كل سلوك
إقصائي للغير وتؤمن اعتراف الآخر بالذات بعيدا عن كل اختزالية او
استخفاف أو نظرة أحادية أو تمركز على الذات. الأخر هنا لم يعد الضد
الذي يسلب ذاتي بل جزء من النحن الذي نكونه وشرط إمكان تحقيق الذات.
من جهة مقابلة ينبغي الإبقاء على التنوع والتعددية والمحافظة على
الاختلاف والتباين لأن القضاء على هذه المفاهيم وصهرها ضمن ثقافة
النموذج الواحد لن يؤدي الى تحقيق أي معنى حقيقي لحضارة عالمية ولذلك
ينبغي أن تتعايش داخل الحضارة الكونية الثقافات القومية وتحقق
تفاعلاتها القصوى المنتجة للتنوع وفي هذا السياق يقول كلود ليفي ستروس:
ما نطلق عليه اسم الحضارة ليس سوى نتيجة لتنوع الثقافات التي تساهم
فيما بينها في انجاز إستراتيجية مشتركة. نراه هنا يدعو إلى تحالف بين
الثقافات يسمح لكل ثقافة بالتفاعل مع الثقافات الأخرى من دون أن تفرط
في هويتها.
هذا الموقف يتكرر مع غاندي الذي يعتبر كل البشر إخوة ودافع عن ديانة
توحد البشرية وترفع ما بينهم من خلافات وتعتقهم من ضغوطات الغربة وذلك
بعودتهم إلى الحق والخير والتسامح والسلم وتساعدهم على التحكم في
ذواتهم وتمكنهم من النزوع نحو الكوني وحب الخير إلى الجميع وينشد هذا
المصلح الكبير في تعبير مجازي خلاب:إن قطرة الماء تشارك في عظمة المحيط
حتى وان لم تكن تعي ذلك لكن بمجرد أن ترغب في الانفصال تجف تماما. وهو
يلمح هنا إلى أن كل الخصوصيات قد ساهمت في تشكل الحضارة الكونية وأن
نزعات الانفصال والتقوقع لا تساهم في تشكل الهوية بل في سكونيتها
وجدبها.
إن إقامة عولمة بديلة تفترض إنتاج ثقافة عالمية بديلة تسمح
للخصوصية أن تجد مكانا لها في هذه المنظومة الكلية بشرط أن تكون هذه
الخصوصية موجهة نحو المستقبل وغير مكتفية بما ترثه عن الماضي من أحكام
ثابتة ومعايير مطلقة وحقائق نهائية. إن تجاوز التلفيقية الغائمة والبحث
عن الالتقاء الفاعل والوفاء للأصول هي شروط أساسية للتواصل مع الغيرية
وانخراط الهوية في الكوني والمساهمة الإبداعية فيه وهو ما عبر عنه
ريكور بقوله:إن الثقافة الحية الوفية لأصولها وتلك التي تكون في نفس
الوقت في حالة إبداع على صعيد الفن والأدب والفلسفة والعطاء الروحي هي
وحدها القادرة على تحمل ملاقاة الثقافات الأخرى.
خاتمة:
أفتح نوافذي لكل رياح العالم مادمت متأكد من أنها لن تقتلعني من
جذوري المهاتما غاندي أليس اختزال الإنساني فيماهو كوني استخفافا بكل
هوية؟ ذلك كان موضوعنا وتلك استفساراتنا حوله وهذا كل ما يمكننا قوله
بخصوص هذه الاستفسارات وكانت بعض من تلك المرجعيات والشواهد التي
ساعدتنا على توضيح مشكل التوتر بين الخصوصية والكونية الذي يطرحه نص
ذلك الموضوع.
لقد كتب باسكال منذ قرون أن الإنسانية كلها كإنسان واحد يتعلم
ويتذكر باستمرار ورأى ريكور أن الإنسانية باعتبارها جسما واحدا تدخل
ضمن حضارة واحدة تمثل في الآن نفسه تقدما عظيما للجميع ومهمة جسيمة
لبقاء التراث الثقافي وتكيفه مع هذا الإطار الجديد. وقد ألمح هيجل إلى
أن المثقف يتخلى عن خصوصيته ويختم ببصمة الكلية أفعاله وذلك لتعوده على
الفعل وفق وجهات نظر وأفعال كلية.
بيد أن ما حدث هو أن هذه الإنسانية وقع اختزالها في الكونية وأن
العولمة همشت الخصوصيات وجعلت مطلب تحصين الهوية يقترن بالتعصب
واللاتسامح والتمركز على الذات ودعت إلى الانفتاح والتحررية في كل شيء
واحتكمت إلى قيم السوق والاستهلاك والتسليع.
على هذا النحو يبدو إعادة صياغة مفهومي الكونية والهوية أمرا مقضيا
من أجل إزالة التوتر الطارئ بينهما وتحقيق إنسانية الإنسان والخروج من
متاهة العولمة المتوحشة ومن أسر الخصوصية المحنطة، وان الكونية البديلة
هي كوسموبوليتية جديدة تشرع للعيش السوي وتبقي على الاختلاف والتنوع
وتنادي بالتثاقف والتخاصب بين الجماعات المتباينة والمتباعدة وهذا ما
عبر عنه أدغار موران بالوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة بقوله: في
جميع الأمور الإنسانية لا ينبغي على التنوع في حده الأقصى أن يحجب
الوحدة ولا أن تحجب الوحدة الصماء التنوع[10].
إن الهوية الإنسانية المنشودة هي تقاطع وتلاقح بين عدة هويات
متنافرة وبالنظر الى الغيرية على أنها بنية تكوينية للانية وهو ما أقره
اريك فروم عند قوله:هوية الأنا ترجع إلى مقولة الوجود لا إلى مقولة
الامتلاك. فإنني أكون أنا في النطاق وحده الذي أكون فيه حيا مهتما
مرتبطا نشيطا، وفي النطاق الذي أكون قد حققت فيه دمج الصورة التي
أعطيها للآخرين أو لي أنا نفسي بنواة شخصيتي...ولا يمكن حل أزمة الهوية
إلا في النطاق الذي يعود فيه الإنسان إلى الحياة من جديد نشيطا...وذلك
بتحويله من كائن مغترب إلى كائن مكتمل الحياة.
بيد أن الإشكال الذي ربما سيبقى قائما هو تراوح الكونية بين الواقع
والرهان ويمكن صياغتها على النحو التالي: هل هي كونية للكل ضمن
المماثلة أم أنها كونية مغايرة وتنويع؟ وهل الإنسان هو مجرد وسيلة
للكونية أم غايتها وقيمتها المنشودة؟
* كاتب فلسفي
...................................
المراجع:
Edgar Mourin, Humanité de l’humanité, Edition du Seuil , 2001
Gil Delannoi et Pierre- André Taguieft, « Nationalisme en
perspective », Bergintermotionnel Editeur,2001
- أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق،
عالم المعرفة 352 يونيو 2008،
- بول ريكور، التاريخ والحقيقة، فصل الثاني الجزء الثالث الحضارة
الكونية والثقافات القومية،
- فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة المترددة، دار الساقي
، الطبعة الأولى 2002،
- جون تومليسون، العولمة والثقافة ، ترجمة إيهاب عبد الرحيم محمد،
عالم المعرفة 354 أغسطس 2008،
- جان بودريار مقال السلطة الجهنمية مجلة الفكر العربي المعاصر
العدد 134-135 خريف 2006،
.............
[1] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي،
ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص11
[2] جان بودريار مقال السلطة الجهنمية مجلة الفكر
العربي المعاصر العدد 134-135 خريف 2006، ص43
[3] بول ريكور، التاريخ والحقيقة، فصل الثاني الجزء
الثالث الحضارة الكونية والثقافات القومية،
[4] Gil Delannoi et Pierre- André Taguieft, «
Nationalisme en perspective », Bergintermotionnel Editeur,2001.
[5] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي،
ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص20-21
[6] فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة
المترددة، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002، ص 232-233
[7] أمارتيا صن، الهوية والعنف، وهم المصير الحتمي،
ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة 352 يونيو 2008، ص131
[8] فريد هاليداي، الكونية الجذرية لا العولمة
المترددة، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002، ص 233
[9] جون تومليسون، العولمة والثقافة، ترجمة إيهاب
عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة 354 أغسطس 2008، ص248
[10] Edgar Mourin, Humanité de l’humanité, Edition
du Seuil , 2001,pp70 |