شبكة النبأ: يتحدد جسد الكائن البشري
في الجانب البايولوجي بضوابط ومواصفات تكاد تكون موحَّدة بغض النظر عن
المحيط، فمواصفات الذكاء الفطري –مثلا- تكاد تتشابه لدى الجميع
باستثناء ما يضيفه الذكاء المكتسب لهذا الانسان او ذاك، لكن إفرازات
المحيط الذي يعيش الانسان شروطها العملية والفكرية وجميع الانشطة
الاخرى، غالبا ما تتدخل في تشكيل بنيته الفكرية والعملية وتتدخل ايضا
في صنع منظومته السلوكية بصورة عامة سواء كان فردا او جماعة.
فالمجتمع الذي يعيش في بحبوحة الرفاه والاستقرار معا، ستتوفر له
عناصر الابداع في مجالات الحياة المتعددة، وسيكون أوفر حظا من غيره على
التطور والتقدم والازدهار، وخلاف ذلك عندما تقود السياسة الرعناء شعبا
ما (كما حدث في العراق) الى محارق الحروب والحصارات والقتل على الهوية
كما لمسنا ذلك لمس اليد، فإن تطور مثل هذا الشعب وسعيه للحاق بركب
الامم والشعوب المتطور سيغدو امرا عسرا جدا إن لم يكن مستحيلا.
ولعل إفرازات الحروب ستنعكس على الانسان بصورة جلية في الجانب
النفسي، فصور القتل والدماء والتفجيرات المتلاحقة والمفخخات والعبوات
الناسفة والحرائق والاعدامات مع سلسة طويلة من عمليات القهر والتعذيب
والحرمان وما شابه، ستهيّئ الظروف الملائمة للاصابة بالامراض النفسية
واستشرائها بين غالبية اوساط المجتمع، بكلمة اخرى ان الشعب الذي يرفل
بالامن والسلام وتتوفر له عناصر التطور والاستقرار سيتفوق على نظيره
الذي عانى ويعاني من ويلات الحروب ولا يزال يحلم بالأمن والسلام
والرفاه معا.
من هنا فإن المتوقع فيما يتعلق بالشعب العراقي هو انعكاس إفرازات
الحروب والحصارات والقتل الطائفي على حالته النفسية، أي أن حدوث مثل
هذه النتائج على ارض الواقع ليست مستغربة، فهي محصلة للظروف القهرية
التي عاشها.
ومع ذلك تفاجئنا منظمة الصحة العالمية في دراسة خاصة بانعكاسات
الوضع الشاذ الذي عاشه العراقيون في ظل ظروفه المعروفة على مدى العقود
المنصرمة:
(بأن الاضطرابات العقلية بين العراقيين ليست اكثر انتشارا من الدول
التي تعيش في سلام وذلك خلافا لما قد يتوقع البعض بالنظر للعنف الذي
اطلقه الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق عام 2003 وسنوات
الحرب التي سبقته.)
ولعل السبب الذي يقف وراء ذلك هو قدرة العراقيين على التأقلم مع
الاوضاع الصعبة التي تهيمن على مجريات حاياتهم اليومية، فقد ذكرت:
(نعيمة القصير ممثلة منظمة الصحة العالمية في العراق في بيان ان
مستويات الضغط –لدى العراقيين- مرتفعة بينما الاضطرابات العقلية يمكن
مقارنتها بدول اخرى مضيفة أن هذا يشير الى ان العراقيين اضطروا الى
تكوين استراتيجيات تكيف للبقاء خلال العقود القليلة الماضية من
الاضطراب.)
إن هذه الاستراتيجيات التي ذكرتها ممثلة منظمة الصحة العالمية، لم
تأت من فراغ كما هو متفق عليه، إذ يبدو من المستحيل على مجتمع أن يتكيف
وفق استراتيجيات (فطرية) مع واقع شاذ وعصيب من دون ان يستند الى تجربة
متفردة في هذا المجال، وهو الامر الذي يؤكد بأن العراقيين قد اكتسبوا
خبرات التكيف عبر وقائع تأريخية متعددة وضعتهم في مواجهات عديدة مع
العنف والحروب وما شابه.
ومع ذلك أظهرت الدراسة المذكورة التي نشرتها وكالة رويتر مؤخرا، بأن
(16.5 في المئة من العراقيين البالغين لديهم مشكلات عقلية لكن 2.2 في
المئة فقط من هؤلاء حصلوا على رعاية طبية.)
وتؤكد هذه الدراسة تقارب هذه الارقام مع مجتمعات اخرى تعيش حالة
السلام والاستقرار معا، غير ان ثمة تساؤل يضع نفسه في الواجهة، لماذا
لم تحصل الغالبية العظمى من نسبة المرضى المذكورين على الرعاية
المطلوبة من لدن الجهات ذات العلاقة!!.
إن وزير الصحة العراقي صالح الحسناوي يعزو ذلك الى طبيعة التقاليد
السائدة بين اوساط المجتمع العراقي حيث يقول في هذا الصدد: (ان المرض
العقلي ينظر اليه في العراق على أنه وصمة عار كبيرة مشيرا الى انه يجب
تشجيع الناس كي يسعوا لطلب العلاج الذي يحتاجونه.)
غير ان هذا القول لايبرر فقدان الرعاية الصحية للمصابين بأمراض
نفسية، فاذا كان الموطن يخشى من وصمه حالة الجنون اذا ما راجع الاطباء
النفسانيين، فذلك لاينفي قطعا مسؤولية الوزارة المعنية والباحثين
والمختصين من تنوير الناس بأهمية العلاج النفسي لتجاوز مخلفات الأحداث
العصيبة التي رسمت حياة العراقيين في العقود القليلة الماضية. |