مرونة الديمقراطية في التعامل مع تحديات العولمة

المشكلة في تردي نوعية حكم الديمقراطيات

اعداد: صباح جاسم

شبكة النبأ: كشفت دراسة دولية قامت بها مؤسسة بيرتلسمان الألمانية عن حقيقة يمكن اعتبارها مدهشة، ومفادها أن المستوى الاقتصادي والمستوى الاجتماعي في دولة ما ليس هو العامل الأهم في مواجهة تحديات العولمة وتوفير مستوى معيشة جيد لمواطنيها، بل مدى ما تتمتع به الدولة من ديمقراطية وعدالة.

وشملت الدراسة الدول الصناعية الثلاثين الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وشارك فيها باحثون وعلماء مشهورون من تلك الدول.

النرويج والدول الاسكندنافية على رأس القائمة 

بناء على 149 مؤشراً، قيّمَ هؤلاء العلماء احتياجات الإصلاح في الدول المختلفة ومدى قدرة تلك الدول على القيام بإصلاحات. وجاءت الدول الاسكندنافية، وأولها النرويج، على رأس قائمة "مؤشرات الحكم الناجع" التي تنتج عن تلك الدراسة، حسبما أعلنت مؤسسة بيرتلسمان الألمانية أمس الثلاثاء 24 فبراير/شباط، تليها نيوزيلندا وهولندا وسويسرا وكندا . وأظهرت الدراسة أن هذه البلدان لا تتمتع بديمقراطيات قوية فقط، بل أنها حققت نتائج طيبة فيما يتعلق بمجالات العمل والتعليم وحماية البيئة. وجاءت تركيا في المركز الأخير بعد إيطاليا وبولندا واليونان والمكسيك.

نقاط ضعف في ألمانيا

رغم الممارسة الديمقراطية، احتلت ألمانيا المرتبة العاشرة وفقا للدراسة أما ألمانيا، فقد جاءت ضمن الثلث الأول للقائمة في معظم المجالات، لكنها جاءت في التقييم العام في المركز العاشر. وأظهرت الدراسة عجز في ألمانيا خاصة فيما يتعلق بسوق العمل ومجال التعليم وقضايا الاندماج بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي.

وظهر أداء ألمانيا سيئاً خاصة فيما يتعلق بنظام التأمين الصحي، بالإضافة إلى نقص فرص الرعاية المتوفرة للأطفال وزيادة نسبة البطالة بشكل كبير والمستوى التعليمي المتدني لأبناء الأسر المهاجرة. بينما ظهر تفوق ألمانيا في مجالات التنمية والبحث العلمي بالإضافة إلى مجال حماية البيئة. بحسب تقرير لـ(دويتشه فيله).

وقال معدو الدراسة إن المفتاح الرئيسي للنجاح في مواكبة عصر العولمة ليس القدرة والكفاءة الاقتصادية أو الظروف الاجتماعية بقدر ما هو تأصل نظام الحكم فيها وقدرة هذا النظام على مواجهة المستجدات المستقبلية. وأكد التقرير الذي بحث في قدرة الدول الثلاثين الأعضاء بالمنظمة على مواكبة المستقبل، أن البلدان التي تحصل فيها مختلف الطوائف الاجتماعية، على حق المشاركة في صياغة الحياة السياسية "تحقق المزيد من النجاح السياسي".

 وقال البروفيسور الألماني فولفجانج ميركل، المشارك في الدراسة، إن النمو الاقتصادي للدول الأعضاء بمنظمة الأمن والتعاون لم يكن الأساس الذي يدعم العدالة الاجتماعية ولكنها الديمقراطية القوية التي تشجع هذه العدالة. وأظهرت الدراسة أن ثروة بعض البلدان الغنية والمتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان لم تجعلها أكثر عدالة اجتماعية من دول أضعف منها اقتصاديا مثل بولندا. وجاءت إيطاليا وبولندا واليونان ضمن الدول الخمس الأخيرة في قائمة المؤشر المذكور.

العولمة تعني استمرار الفقر في البلدان النامية

وأظهرت الدراسة أن غالبية الناس ما تزال تعاني من الفقر في البلدان النامية رغم استمرار النمو الاقتصادي العالمي في ظل العولمة. وجاء في الدراسة إن الكثير من الناس لا يعانون حرمان التعليم فقط، بل وكذلك الاضطهاد رغم عيشهم في ظل أنظمة ديمقراطية من حيث الشكل.

وركزت الدراسة التي أُطلق عليها "مؤشر التحول لعام 2008" على التغيرات السياسة والاجتماعية في 125 دولة نامية أو صاعدة. في هذا الإطار تبين أن هناك خللاً تختلف درجاته من دولة إلى أخرى على صعيد التحول من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق، وكذلك الأمر بالنسبة للتحولات الديمقراطية. وبموجب الدراسة فقد ابتليت الصومال وبورما وزيمبابوي بأسوأ أنظمة الحكم، بينما حظيت تشيلي واستونيا وبوتسوانا بأفضلها. وفي هذا السياق ذكرت هاوكه هارتمان، مديرة الروع في مؤسسة بيرتلسمان في لقاء مع دويتشه فيله أن المشكلة ليست في عدد الديمقراطيات، التي ارتفع عددها من 69 إلى 79 خلال العام الماضي، بل في تردي نوعية ممارسة الحكم من خلالها.

ديمقراطيات تتحول إلى ديكتاتوريات

ومن الملفت للنظر ما جاء في الدراسة حول التحولات الديمقراطية في الدول موضوع الدراسة. فقد أوردت أن الكثير منها تتطور نحو الديكتاتورية. صحيح أن 75 من بين الدول الـ 125 موضوع الدراسة دول ديمقراطية من الناحية الرسمية. غير أن 52 منها تعاني من خلل في ديمقراطياتها. ويبرز على هذا الصعيد دول مثل روسيا وفنزويلا. فمثل هذه الدول تعاني من غياب القانون وانتشار الفساد على نطاق واسع. على عكس ذلك هناك مجموعة من 23 دولة استطاعت أن تعزز أنظمتها الديمقراطية مثل بلغاريا ورومانيا. وبشكل عام يعيش 4 مليارات من البشر في ظل أنظمة ديمقراطية، في حين يعاني 2.5 مليار نسمة من الأنظمة الديكتاتورية.

الفقراء خاسرو رهان العولمة منذ البداية

العولمة الجارية وتأثيرها على الحياة الإنسانية والبدائل المطروحة عنها كانت موضوع ندوة جرت مؤخراً في دمشق تحت عنوان" تداعيات العولمة على منطقة الشرق الأوسط وأوروبا"، الندوة حظيت باهتمام كبيرة من قبل وسائل الإعلام، وقامت قناة الجزيرة بنقلها مباشرة. البروفسور إلمار التفاتر، أستاذ العلوم السياسية سابقاً في معهد اوتو- زور التابع للجامعة الحرة برلين الذي كان أبرز المتحدثين انتقد بداية مفهوم العولمة الذي لا يحتوى على قيم إنسانية كما هو عليه الحال مثلاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هذا المفهوم ينطوي على محاولة تحويل العالم إلى قرية صغيرة تنتج بشكل أسرع وأقل كلفة، مما يعني بأن العولمة تجسد مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية أو آليات الاقتصاد الرأسمالي. وتتميز هذه المرحلة بمحاولة السيطرة المباشرة والشاملة على الأسواق التي بقيت إلى حد ما خارج سيطرة كهذه في المراحل السابقة. ويحمل لواء التوجه الجديد حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي تستخدم نفوذها المباشر وتأثيرها القوي على الهيئات الدولية المعنية من أجل ذلك. ويأتي في مقدمة هذه الهيئات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

العولمة تقيد حرية قوة العمل بدلاً من إطلاقها

الدكتور عصام الزعيم، أستاذ العلوم السياسية ورئيس معهد الدراسات الاستراتيجية العربية في دمشق يرى من جهته في العولمة الجارية عولمة انتقائية يُراد منها خدمة مصالح الدول الكبرى بالدرجة الأولى. "هذه العولمة تهدف إلى فتح وتوحيد أسواق العالم وفق لمصالح النظام الاقتصادي الليبرالي لهذه الدول"، ويقدم الزعيم الدليل على ذلك بقوله: "لم يسبق للعالم أن حرر تجارته كما فعل اليوم، في حين لم تقم الدول الصناعية حتى الآن بتحرير أسواقها الزراعية كنوع من حسن النيئة تجاه الدول الفقيرة التي تعتمد على الصادرات الزراعية".

وفي هذا السياق تحدث التفاتر إلى تناقضات العولمة التي تطالب ظاهرياً بالليبرالية على مختلف الأصعدة، غير أنها على أرض الواقع تسمح بحرية حركة رؤوس الأموال دون حرية تنقل الأشخاص وقوة العمل. ومما يعنيه ذلك أنها توحيد من جهة وتهميش وتجزئة من جهة أخرى على حد تعبير الخبير الألماني. كما تعني برأيه تقييد لحرية الإنسان والمجتمع بسبب تحكم اقتصاد السوق بهما. وبموجب ذلك تم تقويض مكاسب كبيرة من مكاسب الشعوب. وعلى ضوء ذلك أصبحت الشعوب الفقيرة أكثر فقراً والغنية أكثر غنى.

ومن الأمور المقلقة برأي الخبير الألماني أن كل الحكومات تطيع العولمة بدلاً من الوقوف ضد قوانينها وتبعاتها اللاإنسانية. وهو الأمر الذي يظهر في ألمانيا، حيث وقع الكثير من الناس ضحايا هذه القوانين من خلال فقدانهم لعملهم وتهميشهم بعدما فقدوا استقلالهم الاقتصادي. ويشكل هذا الأمر خطراً حقيقياً على التطور المجتمعي وخاصة في مجال الحفاظ على الخصوصيات الوطنية برأي التفاتر.

اوربا أنانية تجاه افريقيا والعالم العربي

يسلك الاتحاد الأوربي سياسات تهدف للحفاظ على مصالحه. ولا يأخذ بعين الاعتبار "أننا نعيش مع جيراننا في العالم العربي في منطقة مشتركة"، كما يقول التفاتر ويضيف: "ينبغي القيام بسياسات مشتركة تأخذ مصالح العالم العربي على أساس الاحترام المتبادل وعدم لعب دور المتفوق والمتكبر من قبل الأوروبيين". وفي هذا سياسة الأنانية للاتحاد الأوروبي تبرز مشكلة غير إنسانية تتمثل في منع تدفق المهاجرين من دول عربية ومن أفريقيا إلى أوروبا. هذا المشكلة يجب أن تحل على أساس فتح الأسواق وتحرير العمل بشكل ينعكس إيجابياً على مستوى المعيشة في بلدان المهاجرين.

 وفي سياق المشاكل التي يعاني منها العالم العربي في ظل العولمة يقول الدكتور الزعيم " إن دولاً عربية انتهجت سياسات ليبرالية، لكنها لم تنجح في المضي بها بسبب عدم إفساح المجال أمام الشعوب لنقد حكامها والتعبير عن رأيها". وتطرق الخبير السوري إلى أحد جذور المشكلة المتمثلة بتجزئة المنطقة العربية إلى دول صغيرة وهشة من قبل الاستعمار التقليدي. ولكي تحقق نجاحاً اقتصادياً لابد لها من التكتل في الوقت الذي تعيق فيه عملية العولمة ذلك من خلال زيادة تبعيتها للدول الصناعية المركزية.

التحكم بقوى السوق قضية جوهرية في مواجهة سلبيات العولمة

حتى الآن ما تزال العولمة في البدايات ولم تنضج بعد لاستنهاض مناهضيها في العالم. كما إن نظامها مختل من حيث استخدام الموارد البشرية والاقتصادية وأشكال الاستهلاك والعلاقات بين الدول. أما البدائل المطروحة حتى الآن فليست كافية. إزاء ذلك تبقى قضية التحكم بفعل السوق وتناقضاته هي القضية المركزية لحماية المصالح الوطنية. ويتطلب هذا التحكم حسب الزعيم إدارته بحيث يكون في "خدمة المجتمع وليس المجتمع في خدمته"، وفي هذا السياق أكد الزعيم على ضرورة دفع العملية الديمقراطية كسبيل لنجاح في ذلك. أما البروفسور التفاتر فيرى أنه لا بد من الضغط على ظواهر العولمة السلبية والتحكم فيها من خلال وسائل عديدة مثل فرض الضرائب التي تخفف عن كاهل الفقراء وحماية سوق العمل الوطني من ضغط الاستثمار الخارجي.

خلاصة القول هناك الكثير من الأهداف التي يمكن العمل على تحقيقها للحد من تبعات العولمة السلبية على المجتمعات. ومن المهم جدا لقمة الدول الثماني التي ستعقد في ألمانيا أن تبحث عن بدائل لتبعات العولمة الجارية على حد تعبير التفاتر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 8/آذار/2009 - 10/ربيع الاول/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م