من المفارقات اللافتة أن أشد نقد يتعرض إليه المثقف اليوم في المجال
العربي, هو من المثقف نفسه, وهذا ما يدركه المثقف أكثر من غيره, إلى
درجة يمكن القول أن ليس هناك مثقف, لا يضمر نقداً, بل لم يعلن نقداً
صريحاً ومباشراً للمثقف.
ونقد المثقف هو أكثر ما يتجلى في الكتابات العربية المعاصرة التي
تحدثت عن المثقف وتطرقت إليه بشكل من الأشكال, فما إن تجد كتاباً يتحدث
عن المثقف إلا ويستبق إلى الذهن نقد المثقف, وذلك نتيجة طغيان هذه
النزعة الناقدة في هذه الكتابات.
ويكاد هذا النقد يمتد إلى كل ما يتصل به المثقف من علائق ووظائف
وأبعاد, بحيث لا نجد هامشاً أو زاوية لم يصل إليها النقد, من المثقف
نفسه قبل غيره, وكأن الأصل هو نقد المثقف في كل شيء, حتى بات هذا النقد
أسهل شيء عند المثقف, من ناحية تصوره, والقيام به, والإشارة إليه,
والتفنن في الحديث عنه.
ومن المجالات التي يمتد إليها النقد ويتركز عليها, منها المجال
الاجتماعي, فهناك نقد من جهة علاقة المثقف بالمجتمع, وهي العلاقة التي
طالما أسرفت الكتابات العربية في الحديث عنها, والإشارة إلى صورها
وأشكالها, وكشفت عن قيمتها وضرورتها, ولم تهمل جانباً إلا وأشارت إليه,
ولكن من دون أن تحدث في هذه العلاقة أمراً أو تغير شيئاً. فليس هناك
مثقفاً لم ينتقد المثقف من هذه الجهة, لأنها من أكثر الجهات نقداً
ووضوحاً للنقد, ومن أشد ما يعترض صورة المثقف ناظراً له من ذاته,
ومنظوراً إليه من المجتمع.
وفي المجال الفكري, هناك نقد للمثقف من جهة علاقته بالمعرفة, وهي
العلاقة التي طالما كان المثقف شكاكاً في النظر إليها, فليس معروفاً عن
المثقف عند المثقف أنه شديد التعلق بالمعرفة, والإخلاص لها, والتفاني
من أجلها, والعشق في طلبها, والصبر والثبات في الدفاع عنها. ونادراً ما
تجد مثقفاً يقنع بمثقف من هذه الجهة, ونادراً ما تجد مثقفاً يمتدح مثقف
من هذه الجهة, وإذا حصل فإن المدح يكون باهتاً في أكثر الأحيان, ونادراً
ما تجد مثقفاً يعترف بالفضل لمثقف من هذه الجهة, وإذا حصل فإن الاعتراف
يكون منقوصاً في أكثر الأحيان, ونادراً ما تجد مثقفاً يقرأ لمثقف في
العلن وبقصد طلب المعرفة, كل ذلك لأن المثقف ينتقص أو يتعمد الانتقاص
في علاقة المثقف بالمعرفة.
وفي المجال الأخلاقي, هناك نقد للمثقف من جهة علاقته بالقيم, وهي
العلاقة التي من أكثر ما تعرض صورة المثقف إلى الاهتزاز, ولعل من الصعب
على مثقف أن يمتدح المثقف من هذه الجهة, لأنه أعرف بالمثقف من غيره,
وأكثر دراية بباطنه وظاهره, فهو يعلم أن من السهولة على المثقف
الانتفاع بثقافته, والمتاجرة بمعارفه, والمقاولة على أفكاره حسب تعبير
الدكتور محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة القاهرة,
والذهاب مع الريح أينما ولت واتجهت بحثاً عن الخراج.
وفي المجال السياسي, هناك نقد للمثقف من جهة علاقته بالسلطة, وهي
العلاقة التي تضع المثقف على المحك, فهناك المثقف الذي هو سليل ما عرف
في التراث الإسلامي بكاتب السلطان, وهي الصورة التي يسعد بها البعض,
ويتوسل إليها البعض, ويفاخر بها البعض, طلباً للجاه والمال والرفاه,
إلى غير ذلك من ميادين ومجالات وأبعاد.
هذه هي صورة المثقف في خيال المثقف نفسه, يتحدث عنها وهو ينتمي
إليها, وهي الصورة التي لا يفارقها ولا تفارقه, وتفعل فعلها في عقله
الباطن والظاهر, تسيء إليه ويعلم أنها تسيء, تنتقض منه ويعلم أنها
تنتقض!
فماذا يريد المثقف من هذا النقد الذي يعلم أنه يرتد عليه؟
فهل يتعمد المثقف أن يسئ إلى صورته بنفسه من حيث يعلم أو لا يعلم؟
أم أنه يريد أن يحسن صورته بهذا النقد الصارم؟ وهل حسن صورته فعلاً؟
أم أنه تعبير عن غضبه, ونقمة على ذاته, واستنطاق لشعوره بالإحباط أو
الاكتئاب أو انسداد الأفق؟ أم أنه غير ذلك؟ والمثقف هو من يعلم ذلك.
* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة
رئيس تحرير مجلة الكلمة
www.almilad.org |