عندما يقال عن نهج البلاغة انه كلام تحت كلام الخالق وفوق كلام
المخلوق وهذه ميزة ظهرت باروع صورها من فم امير المؤمنين عليه السلام
والغاية من هذا الوصف هو ما يحوي نهج البلاغة من بلاغة وافاق علمية في
شتى مجالاتها وهذا بعينه تجده عند ولديه الحسن والحسين عليهما السلام و
المعصومين من ذرية الحسين عليهم السلام فعندما يتحدثون يكون حديثهم
بمنتهى البلاغة والابعاد الفقهية والتشريعية.
ولعل الاهتمام الاوفر حظا من تاريخ الحسين عليه السلام هي واقعة
الطف الا اننا لو تمعنا في مجريات حياة السبط الشهيد قبل استشهاده
وخلال امامته تحديدا لانه كان المنهل التشريعي الوحيد على الارض لنجد
ما يذهل العقول ولهذا ساسلط الضوء على عبارة قالها الامام الحسين عليه
السلام تتكون من ست كلمات، ونص الرواية مع سندها بعدة طرق هي:
1- حدثنا ابن عيينة عن عبد الله بن شريك عن بشر بن غالب قال سأل ابن
الزبير الحسين بن علي عن المولود فقال: إذا استهل وجب عطاؤه ورزقه.
وفي رواية اخرى جاءت:
2- حدثنا أبو الأحوص عن عبد الله بن شريك عن بشر بن غالب قال: لقي
ابن الزبير الحسين بن علي فقال: يا أبا عبد الله، أفتنا في المولود
يولد في الإسلام ؟ قال: وجب عطاؤه ورزقه.
3-حدثنا أسباط بن محمد عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر قال: إذا
استهل الصبي صلي عليه وورث، وإذا لم يستهل لم يورث ولم يصل عليه
4- حدثنا أسباط عن مطرف عن الشعبي قال: إذا استهل الصبي صلي عليه
وورث، وإذا لم يستهل لم يصل عليه ولم يورث.
5- حدثنا وكيع عن سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: إذا استهل تم عقله
وميراثه.
المحاور المهمة في الرواية هو الاستهلال والوجوب والعطاء والرزق
فكيف يمكننا فهم ابعاد النص ؟
ابتداءً المعنى اللغوي للاستهلال حسب ما جاء في لسان الميزان في
الفعل هلل، واستهلَّ الصبيُّ بالبُكاء: رفع صوتَه وصاح عند الوِلادة.
قال أَبو عبيد: وكذلك الحديث في اسْتِهْلال الصبيِّ أَنه إِذا وُلد
لم يَرِثْ ولم يُورَثْ حتى يَسْتَهِلَّ صارخاً وذلك أَنه يُستدَل على
أَنه وُلد حيًّا بصوته.
وهَلَّ الهِلالُ وأَهَلَّ وأُهِلَّ واستُهِلَّ.
من هنا فالاستهلال هو الولادة ويجب ان يصطحبه البكاء، وفي هذه
العبارة وجه بلاغي رائع.
الصبي كلمة تستخدم للمولود سواء كان ذكر او انثى وكما جاء في الاية
القرانية (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً
[الإسراء: 31] ) حيث المقصود من الاولاد ليس الولد هذا اذا ما اخذنا
بنظر الاعتبار انه البنت هي التي كانت تقتل ولكن الاولاد قصد به كل
مولود سواء كان ذكرا او انثى.
والعطاء هي عبارة كثيرا ما يستخدمها الحكام والخلفاء في الاسلام حيث
المنح والهبات تسمى العطايا.
الرزق كلمة اصلا اختصاصها بالله عز وجل ولكنها قد تستخدم من قبل
البشر استخداما مجازيا، كما وان الرزق ليس المقصود به المال فقط بل هو
كل ما يصل إلى الشئ مما ينتفع به رزقا وإن لم يكن غذاءً كسائر مزايا
الحيوة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى:
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ
مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ
لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج: 58]
حيث ان الله عز وجل هو خير الرازقين لا يعني ان هنالك رازقين غيره
وهو احسنهم ولكن المقصود كما جاء في تفسير الميزان هو " وارزقنا وأنت
خير الرازقين " وهو الطلب الذي قدمه عيسى (ع) الى الله عز وجل حسب ما
اراد الحواريون، وهذه فائدة اخرى عدها مترتبة على ما سأله من العبد من
غير أن تكون مقصودة بالذات، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث
قالوا: " نريد أن نأكل منها " فذكروه مطلوبا لذاته وقدموه على غيره،
لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ
الاكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله " وأنت خير الرازقين ".
والدليل على ما ذكرنا انه ( ع ) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة
أنه سأل أولا لجميع امته ونفسه، وهو سؤال العيد الذى أضافه إلى سؤالهم
فصار بذلك كونها آية من الله ورزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض
كالفائدة المترتبة غير الشاملة. فانظر إلى أدبه ( ع ) البارع الجميل مع
ربه، وقس كلامه إلى كلامهم.
وعلى غرار خير الرازقين استخدمت عبارة احسن الخالقين " فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] " وغيرها من الالفاظ من
خير الماكرين وخير الغافرين.
هذه الصفات تجدها تنطبق على تصرفات البشر الا انها ليست بذاتها
وحقيقتها هي صفة ملازمة للبشر حيث يمكن لله عزوجل سلبها من البشر.
بعد هذا التفصيل اللغوي لنتامل ابعاد حديث الحسين عليه السلام.
فالاستهلال المصحوب بالبكاء هو المعني في الحديث فالبكاء دليل الروح
والحياة وعليه اذا لم يبكي الطفل يعني انه ميت وعندها لا يصل عليه ولا
يستحق الورث واما اذا اصطحب الاستهلال البكاء اذا هو في عداد الاحياء
وطالما انه حي فالتشريع الالهي اقر له حقوق.
كلمة ـ وجب ـ وهذا يعني امر فالامر في بعض الاحيان لا يكون بصيغة
فعل الامر بل قد يكون بصيغة الماضي او المضارع او احد ادوات النهي
ومنها ( ان الله يامر بالعدل والاحسان ) فالفعل يامر هو مضارع الا انه
يدل على الامر، وقولنا يحرم اكل الميتة اي الامر بعدم اكل الميتة وهكذا
فعندما يقول الحسين عليه السلام وجب هنا يعني وجوب تحقيق العطاء
والرزق، اذن من هو المامور بهذا الوجوب فهل يعقل ان الله عز وجل يامر
نفسه في نص هذا الحديث ؟ كلا انه امر مستبعد بل الوجوب هنا منوط باحد
الاثنين اما الحاكم واما الفقيه ؟ وهذا الامر يترتب حسب الوضعية
القانونية والحكومية للدولة التي تقر الاسلام لها دينا وتشريعا.
ومن هنا فاننا نجد اغلب دساتير العالم هذا اذا لم يكن كلها تصرف
مبالغ معينة للطفل المولود حديثا حيث له مبلغ معين يصرف الى رب الاسرة
تحت عنوان ( مخصصات )وهذه المبالغ تبقى سارية المفعول طالما انه بذمة
والده واذا ما تزوج او تزوجت سقطت مخصصاته من رب الاسرة.
وهذا هو العطاء اما الرزق فهنا لم يقصد فقط طعام الصبي الذي وجب على
والديه ويطلق عليه رزق لانه اشبه برزق الله عز وجل للبشر كما ذكرنا
اعلاه ليس المقصود هو الطعام فقط بل الملبس والتعليم والتربية والحنان
وكل هذه هي اصلا اغدق بها الله عز وجل على عباده من خلال انبيائه
وكتبه، هذا الدور يمارسه رب الاسرة بعينه مع اولاده.
هذه مدرسة اهل البيت عليهم السلام التي لم تتركنا ضائعين من غير
تشريع يقوّم حياتنا ويجعلنا في ارقى منزلة نباهي بها الامم والمذاهب
الاخرى. |