أدب الشتيمة ظاهرة إجتماعية سياسية مهمة لها جمهورها ومتذوقيها هذه
الظاهرة تستحق الدراسة والوقوف عندها ,وقد تداخلت عوامل عديدة في
إنتشارها وإتساعها, فهي كظاهرة إجتماعية لها ظروفها وبيئتها,ومعروف أن
للأدب والفن أغراض إنسانية عظيمة يحاول المبدع من خلالها أن يوصل فكرته
للناس بطريقة ٍ يراها أكثر تأثيرا ً , ولا شك أن الشعراء والفنانين
والكتاب والمثقفين هم حملة رسالات إنسانية همهم الأول والأخير هو إيصال
هذه الرسائل الى بني البشر ولكن بطرق تعبيرية مختلفة بأختلاف البيئة
التي تحتضن المبدع و تبعا لتجربة كل ٍ منهم.
فقد أصبح هذا النوع من الأدب يمثل للبعض جرعاتُ نشوة ٍ وأسلوب
تعبيري ولغة رفض ٍ مختزلة في العقل الباطن للإنسان العربي , فهي بذات
الوقت تكشف عن إحباط نفسي كبير ومواجهة سلبية للواقع لكنها تعتبر
متنفسا للمقهورين والمقموعين جراء ما تقوم به أنظمة الغلبة والإستبداد
العربية , وما يباركه فقهاء السلطان المحسوبون على الدين’ فحينما يبرر
فقهاء السلطان أعمال الحاكم الجائر ويمنحوه الشرعية في الظلم والأضطهاد
ينبري المثقفون لتعرية افعاله ولو بلغة ٍ بذيئة ولكن بكل الأحوال ليست
أبذء من أفعال الحاكم وأقوال الفقيه السلطاني.ولعل الشاعر نزار قباني
كان صادقا ً في نقل هذا الواقع بقوله:
معتقلون داخل النص الذي يكتبه حكامنا
معتقلون داخل الدين كما فسره إمامنا
وهذه الظاهرة ليست عربية المنشأ فقد بدأها الشعراء الروس كباسترناك
ومايكوفسكي الذي يعد شاعر الثورة الروسية الأول ففي قصيدته (( رأس
الشارع الأصلع )) يقول:
أيها الرأسماليون.... تفٍٍ على وجوهكم
ولم يظهر أدب الشتيمة في الشعر العربي إلا في منتصف القرن المنصرم
أو قبله بقليل ويمكن ربط ظهور هذه الظاهرة بظهور الدكتاتوريات وأنظمة
التسلط في العالم العربي ولعل أهم رواد هذا الفن هم مظفر النواب وأحمد
مطر والجواهري ومحمد الماغوط ونزار قباني وأحمد فؤاد نجم ولعل من
الفنانين شعبان عبد الرحيم , ويمكن أن يلاحظ أن هناك ثلاثة من الشعراء
العراقيين لهم اليد الطولى والشهرة الأوسع في هذا النوع من الفن, ويرجع
ذلك الى أسباب خاصة بالبيئة العراقية وحجم المشكلة الجيوسياسية والضغط
الهائل الذي تعرض له المبدع العراقي من الدكتاتورية.
فالإنسان كما يقول علماء الإجتماع هو الابن البار لمجتمعه
وبيئته,والمبدع على درجة عالية الإحساس في نقل الحدث فهو يتأثر ويؤثر
كما إنه ينفعل ويتفاعل ويفعل, فالنتاج الإبداعي هو إنعكاس طبيعي وصادق
لإنفعالاته وخلجاته.ولعل الشاعر المبدع مظفر النواب واحدا ً من أهم
فرسان أدب الشتيمة , فهو ينفعل بالإنكسارات العربية والقمع الدكتاتوري
ويترجم ذلك الانفعال بمفردات قد تكون بذيئة ولكنها تعبير حقيقي عن وجان
الشارع وملامسة واقعية للروح العربية , وإن كان البعض ينتقد هذا اللون
من الأدب ويعتبره أن ليس راقيا , ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما ً ,
فالأدب الراقي هو ذلك الأدب الملتصق بالجماهير والخارج من رحم الوجدان
الشعبي فحينما يصرخ النواب في وجه الحكام العرب ويقول في قصيدته (القدس
عروس عروبتكم)
لن يبقى عربي واحد،
ان بقيت حالتنا هذي الحالة
بين حكومات الكسبه
القدس عروس عروبتكم ؟!!
فلماذا ادخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم !
أولاد الق...... هل تسكت مغتصبه ؟؟!
أولاد الق...... !
لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى،
أمَّا أنتم
لا تهتز لكم قصبه !
الآن اعريكم
في كل عواصم هذا الوطن العربيّ قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي.
ويستمر النواب في التعبير عن ضمير الإنسان العربي المحبط في قصيدته
قمم... قمم... ويصل الى قمة السخرية من القمم العربية فيقول:
قمم..... قمم...قمم
معزى على غنم
جلالة الكبشِ
على سمو نعجةٍ
على حمارٍ
بالقِدم
وتبدأ الجلسة
لا
ولن
ولم.
وتـنـتـهـي فدا خصاكم سيدي
والدفعُ كمْ؟!
ويسخر النواب من الحكام العرب ومن القمم العربية التي لم يلمس
الإنسان العربي منها سوى البيانات والخطب الرنانة الفارغة فيبدأ
ويشتمهم شتما لا ذعا ً فيقول
وا هبلتكم أمهاتكم
هذا دمٌ أم ليس دمْ؟؟!
يا قمة الأزياء
يا قمة الأزياء
سُوّدت وجوهكم
من قمةٍ.
ما أقبح الكروش من أمامكم
وأقبح الكروش من ورائكم
ومن يشابه كرشه فما ظَلَمْ.
قممْ.. قممْ.. قممْ
قممْ.
معزى على غنم
مضرطةٌ لها نغمْ
تنعقد القمة
لا تنعقد القمةُ
لا.. تنعقدُ القمة
أيْ تـُفـو على أول من فيها
إلى آخر من فيها
من الملوك.. والشيوخ.. والخَدَم
ولو وقفنا على هذا النوع من الشتيمة لرأينا أن كل إنسان عربي يحمل
بين ثناياه ثورة مقموعة وإحساس لايمكن التعبير عنه إلا بالبذاءة
والشتيمة فهي التعبير الأصدق لمثل هذا الواقع المحُبِـِط. وأن ما ذكرته
الصحف في الاستقبال الحاشد للنواب في العواصم العربية والبلدان
الأوربية التي تتواجد فيها جاليات عربية كبيرة خير دليل على صدق
الشتيمة ففي المانيا اضطر مدير دار الثقافات الى النزول الى الجمهور
الذي لم يجد مكاناً له في قاعة الامسية النوابية وتمنى عليهم العودة في
اليوم الثاني، وذلك بعد ان طلب من الشاعر إحياء أمسية إستثنائية أضيفت
على جدول الدار.
فالنواب مثلا ً يرى في الشتيمة سعادة متناهية لصدقها وواقعيتها
فيقول (لا يسعني إلا أن أكون ساخراً في كتاباتي، ذلك ان السخرية هي
واحدة من أدوات تعرية الأشياء وفضحها على حقيقتها).
وليس النواب هو الوحيد الذي يشتم الواقع العربي المرير بل أن شاعرا
ً آخر يرفع لافتات الرفض والاستنكار بوجه الحكام العرب ويمطرهم شتائم
لا تليق إلا بأصحاب السعادة والسمو والفخامة.إنه الشاعر العراقي أحمد
مطر فهو يجيد لغة القدح بواقعه المزري فيقول في قصيدته (عقوبات شرعية)
بتر الوالي لساني
عندما غنيت شعري
دون أن أطلب ترخيصا بترديد الأغاني ؛
بتر الوالي يدي
لما رآني في كتاباتي أرسلت أغانيّ إلى كل مكان ِ
وضع الوالي على رجلي قيداً
إذ رآني بين كل الناس أمشي دون كفي ولساني
صامتا أشكو هواني
أمر الوالي بإعدامي عندما لم أصفق عندما مرّ
ولم أهتف
ولم أبرح مكاني
وقصيدته (الثور والحضيرة) تلخص الواقع العربي بكل أخباطاته
وإنكساراته.
الثور فر من حضيرة البقر، الثور فر
فثارت العجول في الحضيرة
تبكي فرار قائد المسيرة
وشكلت على الأثر
محكمة ومؤتمر
فقائل قال: قضاء وقدر
وقائل: لقد كفر
وقائل: إلى سقر
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة
لعله يعود للحظيرة
وفي ختام المؤتمر
تقاسموا مربطه، وقسموا شعيره
وبعد عام وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة
ونزار قباني هو الآخر يستخدم الاسلوب الشاتم الساخر ليوظفه في إيصال
الفكرة فهو كغيره لا يريد ان يكون شعره متنفسا للجماهير بقدر ما يريد
ان يكون معبرا ً عن صور الرفض والاستهجان لواقع الإحباط الذي تحدثنا
عنه, وهذا الاحباط يجسده في قصيدته ( مواطنون دونما وطن) فيقول:
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق..وموتى دونما كفن
نحن بغايا العصر
كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن
نحن جوارى القصر
يرسلوننا من حجرة لحجرة
من قبضة لقبضة
من هالك لمالك
ومن وثن إلى وثن
نركض كالكلاب كل ليلة
من عدن لطنجة
نبحث عن قبيلة تقبلنا
والشاعر السوري محمدالماغوط كأقرانه من الشعراء لم يجد غير الشتائم
وسيلة انجع لنقد الحكام العرب وتعريتهم فيقول:
ايها العرب
يا جبالا ً من الطحين واللذة
ويا حقول الرصاص الأعمى
أتريدون قصيدة عن فلسطين
عن الفتح والدماء؟ الخ.....
وهناك الكثير من المثقفين والمبدعين ينظرون الى الشتيمة على أنها
غرض من أغراض الادب التي تعالج حالة إجتماعية سياسية. و يجب أن تضاف
الى الأغراض الأخرى
فهذه الشتائم تكشف عن مستوى الخلاف والجدل الدائر داخل المجتمعات
العربية. فالخلاف بين الحاكم والجماهيرفي العالم العربي يعني الموت
الزؤام للجماهير على حساب الحاكم فالحاكم وحده له الحق في الحياة دون
الجماهير وما وجود الشعوب إلا لخدمة الحاكم , فلا يمكن أن تصل الشعوب
الى أرضيات مشتركة يمكن من خلالها أن تختلف وفق إطار معين مع الحاكم
لأن الحاكم ليس من أفراد الشعب بل هو الرب وإلاله على الأرض , ولكن
مايحدث داخل العالم العربي هو السبب الأهم في بروز هذه الظاهرة.
قد تكون الشتائم أمر مضحك للجماهير , ولكنها في الحقيقة تعكس من جهة
أخرى مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم ومستوى السلبية في الرد
والمواجهة من قبل الجماهير وإن اعتبرت نوع من التحدي فهي بالتالي أضعف
الإيمان وايسر الطرق.
* كاتب وإكاديمي عراقي |